لعلّنا في حاجة إلى تاريخ الحدس، لنؤكّد على أنّ هذا الأخير به يتحقّق الاستدلال المنطقي عبر كلّ مراحل التفكير مهما تمادت في الاختلاف. في كلّ حقبة وتحت طائلة كل باراديغم، لا غنى عن الحدس.
تاريخ الحدس يضعنا أمام هذه الحاجة التي لا حِوَلَ عنها. لكن تاريخ الحدث يتطلّب فتح أفق أمام أكثر من فنّ، وهو أمر لا يتّسع له المقام، لكننا سنقتصر على قضية أخرى تتعلّق بحدس المؤرّخ.
إنّ انحطاط الأرّاخ وتعصّبه للسرد التّاريخي من دون فكر تاريخي، يعود إلى غياب الحدس وحلول عُصاب السّرد والتعليل العليل للأحداث.
حين يغيب الحدس يتربّع القياس وتستفحل النّقائض. لا يستغني الرّياضي عن الحدس، لكنّ الأرّاخ الضّعيف يستغني عنه لصالح إدارة مغشوشة للوقائع ومساراتها القاصدة.
هل تستقيم أي عملية تأريخية من دون حدس؟ وها قد تراءى لنا أنّ الأرّاخ عديم الحدس عاجز عن فهم وقائع زمانه فأنّى له التّأريخ لوقائع الماضي؟ يختفي الأرّاخ المزيّف خلف حشو الأخبار ولعبة القياس المُغالط، حيث يستحيل القياس مع الفارق في التّاريخ، نظرا لتعقيد الشروط وتعدد المسارات واختلاف الدوافع والمقاصد.
يصبح الأرّاخ حكواتيا، ويُصبح تأريخه عقبة إبستيمولوجيا لقيام التّاريخ كعلم.
مع تسلّط التّفاهة وشموليتها، بات التّاريخ ضحية فعل هواة من نمط آخر، أي تحويل التّاريخ إلى أيديولوجيا تُؤمّن عملية تزييف الرّاهن عبر تزييف الماضي.
إنّ الأرّاخ الهاوي يفتقد القدرة على الرّبط بين الأحداث ربطا خارج التصميم الأيديولوجي والدوافع التي تسبق النظر في صميم الأحداث. صحيح أنّ زمن الحكواتي ولّى، لكن هواة المحكي التاريخي لا زالوا يمارسون هذا الدّور بكثير من الكيد والخداع.
مهنة الحكواتي ماتعة، وهو من اللحظة الأولى يحرضك على الانخراط معه في رياضة تخييلية وفي تعاقد يبرره مديح الحماقة، لكن الأرّاخ المتربّص بالمعنى، لا يشارطك على التخييل، بل يوهمك بأنّه وفيّ للواقع والعلم، وهنا نصبح أمام صناعة فاسدة للإِخبار.
أن نخلع عُصابنا على الوثيقة، أن نجعل مصير التّاريخ تحت طائلة مقاصد الأرّاخ لا مقاصد التّاريخ، نكون قد عبثنا بصناعة تشترط الصدق في الإخبار والوثاقة في التّوثيق. وحتى بالمفهوم الذي سلكه المؤرخون القدامى، أي اعتماد السّند وطرائق الإخبار الصحيح، لم نعد أمام اجتهاد من هذا القبيل.
فالمؤرّخ الذي يجعل من فاسد تأويله وتبسيطه للأحداث إِخبارا، هو هاوي في صنعة تتطلّب استيعابا فنّيا لمدارس التّتريخ والتّأريخ. يبدو أنّ الأرّاخ المُضلِّل غير الوفي للواقع، غير الآبه بمقاصد التّاريخ بله مكره، هو جزء من أزمة عاصفة بالعقل العربي.
آية الأرّاخ – إن كانت له هذه الميزة – أن يكون أرّاخا متملِّقا أو وشّاءً، يُخبر نحو إِخْبار بالماضي ويفسد الحاضر بصناعة ليس له منها سوى فعل التِّكرار. والتكرار مُهلك للسير التراكمي للعلم، جمود، غباء، فضلا عن كونه اعورارا علميا.
في تجربتنا المحلية لم يكن الفقيه المنوني ولا عبد الوهاب بن منصور ولا إبراهيم حركات ولا العروي في حاجة إلى داتاشو لإيصال المعنى وتحقيق الحدث، وهم في كل حين يقولون ما هو مستجد في هذه الصناعة. ما الحاجة إلى إعادة شرح المشروح، توثيق الموثّق، تعويض فقر الحدس التّاريخي بأتمتة التِّكرار والتّآمر على النّصوص والشخوص، إنّه الأرّاخ البهلوان، وهو شَيِنٌ وليس زَيْناً لهذه الصناعة الثقيلة؟
يحتاج التّاريخ إلى صدق في الإخبار واقتدار في تأويل الخبر وشجاعة كافية لإدارة العلم بالماضي على أسس مُقنعة لأهل النُّهى وليس بهلوانية لإقناع النّفس الأمّارة بالسّوء. إن الفرق بين التّأريخ كصناعة والتّأريخ كخداع، يتجلّى في سلوك الحامل للخطاب التاريخي، لأسلوب الخداع والنّصب المافيوزي على الحقيقة.
إنّ نصيب التأريخ من عصر التّفاهة يتجسّد في هذا الخداع التبسيطي لهواة تاريخ معمِّرين في هذه الصناعة، وهو ما أعتبره شكلا من التّلوُّث التّأريخي الذي يسعى صُنّاعه إلى إعادة إنتاج الأحداث على شروط مكرهم لا على شروط مكر التّاريخ المحتمل.