لم نسمع من أحمد الشرع أو أي وزير من الحكومة المؤقتة في سوريا أي رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على وضعه في صدارة سعيها للسلطة في العالم العربي خلال موسم “الربيع” عام 2011.
استخدم “أولو الأمر” الجدد مفردات وصيّغ تتحدث عن المشاركة واحترام التعددية وحقوق الإنسان ودور المرأة وصون الطوائف والأقليات والحوار مع الآخرين.
حين سبقت الـ CNN الأميركية وسائل الإعلام في العالم للتحاور مع “الجولاني السابق” في 6 كانون الأول الجاري بعد ساعات على سقوط مدينة حماة، قال الشرع إنه يريد إعادة بناء سوريا من خلال الحوار مع “الآخرين”.
أوحى الأمر أنه يعترف بأن “هيئة تحرير الشام” هي جزء من كل، ولن تكون “الحزب القائد”، وأن الهوية الدينية لا يمكن أن تسود بقية الهويات، وأن التعايش هو ديدن فلسفته الجديد لـ “سوريا الجديدة”. لم يكن الدين جزءا من لغته، ولم يذكر شيئا عن “الشريعة” والوعد بالخلافة وحصرية الحكم لـ “الفرقة الناجية”.
يرسم رجل سوريا الجديد مسارا من كلمات لم تجرؤ عليه كل حركات الإسلام السياسي. واللافت أن السوريين والعالم يحتاجون إلى هذه الكلمات حتى لو أنها مجرد كلمات.
ذلك أن الإسلاموية كثيرا ما تتعثر بالكلمات وتعتبرها مقدسا تجوز به فتاوى الحلال والحرام. ولئن لا يقوم حكم البلاد على الأبجديات بل على الفعل والممارسة والسلوك، فإن للكلمات قوة تعاقد تفرض على قائلها عهودا وتحاصر بيئته بقواعد حتى لو كانت جديدة وخارج المألوف.
في مواقف الشرع المتدرجة والمتصاعدة الوضوح ما يشكل إعلانا للسوريين أولا، وللحاضنة العربية التي اجتمعت في العقبة في الأردن ثانيا، وللمجتمع الدولي الذي أصدر بيانه من نيويورك ثالثا، عن قطيعة مع الإسلام السياسي بكافة نسخه.
يعلن الشرع أن العلاقة مع تنظيم “القاعدة” هي من الماضي، وأنه لا يريد تحويل سوريا إلى نسخة من أفغانستان، فلسوريا ثقافة وتاريخ وسيحترم الحكم الجديد تلك الثقافة وذلك التاريخ.
تعرف العواصم أيضا أنه قاد عام 2017 مواجهة ضد مجموعة من الجهاديين الذين يكفرون الفصائل الثورية، ولا يعترفون بالمحاكم واللجان القضائية في شمال غرب سوريا، لكونها “لا تطبق الشريعة الإسلامية”.
وتعرف العواصم المعنيّة أن عتاة الجهاديين كانوا ابتعدوا عن الجولاني عام 2013 بسبب “تراجعه عن تطبيق الشريعة”. تعرف أيضا أن الجماعات تأخذ عليه سوريته وحصرية سعيّه لما هو صالح سوريا أولا.
يبلغ الشرع الـ BBC البريطانية، الخميس، بعد 12 يوما على سقوط النظام، أنه حريص على قيام مؤتمر وطني يضع دستورا، ومجلس استشاري يملاء فراغ ما قبل الانتخابات، وتمثيل الطوائف بشكل عادل، منددا بالسياسة الطائفية للنظام الساقط.
كل ذلك ليس كافيا وعلى “القائد” أن يقدم كل ساعة مواقف تتّسق مع معايير العصر. عصر سوريا وعصر العالم. بالمقابل فإن العواصم الكبرى تتعامل مع “الأمر الواقع”، تعيد فتح سفاراتها في دمشق من دون شروط، معترفة في الشكل بالنظام السياسي الجديد.
ترسل موفديها لمقابلة أحمد الشرع الذي ما زال مصنّفا وتنظيمه على لوائح الإرهاب، من دون شروط، معترفة به قائدا للتحوّل في سوريا.
عاد البلد ليكون مهما وأساسيا في التوازنين، الإقليمي والدولي، بعد أن كان نسيّا منسيّا في أجندات العالم ومصالحه. اكتفت دمشق قبل ذلك بعزلتها عن العالم مكتفية بعلاقة مع طهران وموسكو، فيما تبدو العواصم متهافتة هذه الأيام على دقِّّ أبوب المدينة والوصل مع “القائد” فيها.
في لعبة الكلمات يجيد الرجل الإصغاء إلى ما يريده العالم من كلمات. يريد المجتمع الدولي برمته، على الأقل وفق البيان الصادر قبل أيام، بإجماع نادر عن مجلس الأمن في نيويورك، تنفيذ عملية سياسية “تلبي تطلعات جميع السوريين وأن تحميهم أجمعين، وأن تمكّنهم من أن يحدّدوا مستقبلهم بطريقة سلمية ومستقلة وديمقراطية”
ويريد العالم العربي، إضافة إلى بيان نيويورك، وفق بيان لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا في العقبة في الأردن، أن يفهم الشرع وصحبه أن “أمن سوريا واستقرارها ركيزة للأمن والاستقرار في المنطقة”، وأن العرب سيقفون مع السوريين في “عملية إعادة بنائها دولة عربية موحدة، مستقلة، مستقرة آمنة لكل مواطنيها، لا مكان فيها للإرهابأو التطرف”.
يدرك الشرع أن العواصم تطالبه بديمقراطية ونظام لا طائفي تسود فيه الحريات والمشاركة، فيما كانت تتعامل مع نظام سابق قبل عام 2011 لا يمارس غبارا من تلك المعايير.
يدرك أيضا أنه بحكم ماضية وسوابقه مع “الجماعات”، سيكون مطلوبا منه شروطا مضاعفة تقنع المشكّكين بأهليته في أن يكون جزءا من قادة هذا العالم.
لكنه لا شك يستنتج أن العواصم ستصمت إذا ما نجح في ترتيب البيت السوري، والخروج بعقد اجتماعي جديد، قال إنه سيكون ناظما للعلاقة بين الدولة وكل الطوائف في بلده لضمان “العدالة الاجتماعية”. بكلمه أخرى سيفرض التوافق السوري-السوري نفسه على كل الشروط المتسربة من أجندات العواصم ومصالحها.
يدرك الشرع أيضا أن عواصم العرب جاهزة لاحتضان الوافد الجديد شرط أن تخرج من دمشق، وفق بيان العقبة كلمة كلمة، أجواء تعرف أصول المصالح والعلاقات بين الدول “الشقيقة” وتمنع خروج مواقف وتدابير وانحرافات، وخصوصا كلمات، توحي للجماعات بانتعاش “ربيع” بات من الماضي كما حال “الجولاني” تماما مع “القاعدة” وأخواتها.
تعليق واحد