في هذا التمركز العقلي للحداثة ما هو مُجاوز للعقل والواقع معا، لأنّ العقل ليس مجردا عن سائر الملكات، ولا الحضارة مدينة للعقل المجرد عن الغريزة- أُذَكِّر هنا بأنّني لا أساير حتى الآن التعريف الأثير لدى البعض عن العقل بوصفه غريزة، أعني المحاسبي وأولمو- في هذا التمركز العقلي (logocentrisme)، تجلي من تجلّيات السّلطة، الشكل الذي ستتخذه السلطة الشمولية، التي ستتخذ من هذا التمركز طريقة للتصالح مع الوضع الجديد لما يسميه فوكو بميكروفيزياء السّلطة.
قوام هذه السلطة هو الشمولية والخفاء. يصبح التمركز العقلي وسيلة للمراقبة والعقاب، ومعه تصبح الرقابة والسلطة ممارسة مندمجة في الشّرط الحضاري.
وبما أنّ الحداثة لا زالت تحظى بالقدر الأكبر من المأسسة، فهي لا زالت إذن تمارس رقابتها وقمعها لما بعد الحداثة.
إنّ فكرة أنّ الحداثة عقل خالص أو عقل مجرد عن إسناد الغريزة، هو واحدة من الأساطير المؤسسة للحداثة.
الحداثة هي حصيلة هذا الانقلاب التركيبي، حيث العقل غَيَّر موقعه من سائر الملكات، ولكنه لم يلغها.
على هذا الأساس، سهّلت الديماغوجيا الحديثة على السلطة الإنتقال إلى طورها الميكروفيزيائي، ومن ثمة استطاعت تمكين الهمجية من تمثّل كل مفاهيم الحداثة، لتبرير عنف الإنسان ضدّ الإنسان، ذلك العنف الذي اكتسى طابعا إنسانيا مبرّرا بمنطق القوة، وهو ما يفسر الشرخ التّاريخي بين حداثة السادة وحداثة العبيد.
لم تهزم العقلانية الكنيسة، بل شارطتها بفصام لا رجعة فيه، كلّ منهما له مجال اختصاص وتدبير. ذلك لأنّ الشكل الذي آل إليه مفهوم العقل، سلب منه مرونته القديمة، ولكسر الحاجز بينهما ابتكر النيو-كلام ثنائية الدين والتّدين، كما لو كنّا أمام نومينا دينية في مواجهة فينومينا دينية. ترى هل انحلت المسألة؟
لقد دخلت موضات جديدة إلى مجال الديماغوجيا العربية، كالنقاش الذي يعالج المسألة الدينية في ضوء هذا التمركز العقلي. ابتكرت الديماغوجيا فصلا خادعا بين الدين والتدين.
وقد اعتبرت التدين الراجح هو ما كان متصالحا مع العقل، دون أن تحسم في تعريف نهائي للعقل أو الدين معا. يتمثل رواد هذا الطرح المنقول والمكرر والتبسيطي نسبية التدين بينما يقرّ بمركزية العقل وثباته.
لا يميز أصحاب هذا الانزياح بين العقل والتعقل أيضا، من حيث أن السؤال الملح: أي عقل نريد؟ ومتى كان العقل مجردّا عن سائر الملكات؟ إنّ التدين يتبع شكل العقلانية، إذ كل شيء رهين بتعقُّلاتنا. فتغدو مشكلة التدين هي مشكلة التعقل نفسه.
من هنا، فإنّ بحث قضايا الدين، الفهم الديني، فلسفة الدين، في هذا الأفق من الإنشاء الذي لا يأخذ بعين الاعتبار نسبية المعاقلات أو لنسميها التّعاقلية، بوصفها ذلك الفعل التعاقدي النسبي الأكثر تحررا من أحابيل ميكروفيزياء السلطة، إعادة إنتاج العقاب بوسائل ومفاهيم مندمجة، مما يوحي بأنّ على الكائن الحديث أن يتقبّل العنف والهيمنة ما دامت تجري أو تقع في إطار وشروط حداثية.
لقد تصالحت الحداثة مع الهمجية في طورها الميركونتيلي والإمبريالي، وتولّد من داخل هذا الخداع كبرى أسئلة ما بعد الحداثة، أي تلك الأسئلة التي سعدت بقوة لإدانة هذا الفصام، وللكشف عن اختلالات تمأسُس الحداثة، وعن جمودها الذي أرغمتها عليه الهمجية التي سكنت بين ضلوع الحداثة وسلبتها قوامها الحضاري.
يبدو أن هناك من تراءى له أنّنا بخصوص الحداثة، ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأنّ الحداثة ماضية في قمع كل التساؤلات التي ترمي إلى المجاوزة. لازالت أقانيمها عصية، تقدّم نفسها دينا، ولهذا كان النزاع بين الحداثة والدين كبيرا.
يبقى أن نؤكد بأنّ العقل الذي نشأت على أساسه كل هذه التحولات، هو نفسه مسؤول عن تصحيح مسارات الحداثة.
إن استقلال العقل بالتحسين والتقبيح لا يعني استقلاله عن سائر الملكات المحسِّنة والمقبّحة، فالضامن هنا، حين تتآزر كل تلك الملكات في حكم مشترك.
هذا بينما الحداثة لا زالت تنزع إلى إعادة تشكيل الإنسان، لجعله أكثر استجابة لاختزالاته، أو بالأحرى ما أسميه حداثة الإنسان الخاضع: (homo-submitted)..