د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي
تعرف مدن بلاد المايا والأزتيك وقراها هذه الأيّام ،بما فيها مدينة” مكسيكو سيتي” العاصمة والحاضرة العملاقة إحتفالاتٍ غرائبيةً متوارثة ضاربة فى القدم، إحتفاءً ب “يوم الموت” (El Dia de los muertos) إذ لم تكن ترى فى هذه المدن والقرىَ، والضِيَع، والمداشر سوى القليل من المارّة، وهم يجُوبون الأزقّة والدّروب والشوارع مُهرولين، قلقين، متوجّسين، خائفين، مشدوهين، وقشور البيض الملوّن المكسّر تتكدّس على واجهات بعض الدّور والأبواب، كان الأمر يبدو غريباً ومثيراً للتساؤل والفضول، أوعلى الأقل كان غيرَ مألوفٍ ولا معروفٍ لدى زائري هذا البلد الأزتيكي الكبير المترامي الأطراف.
تأتي هذه الطقوس بعد انصرام الإحتفالات ب “هالوين” أو “ليلة السّاحرات” التي يحتفي بها الغرب أواخر شهر أكتوبر من كلّ عام ببهرجة كبرى وارتداء أردية تنكّريّة غريبة، وأقنعة مخيفة، ولقد انتشرت وانتقلت عدوى هذه التقاليع الرّهيبة ومظاهرها المُفزعة الى العديد من بلدان المعمور.
الأحياء يُقيمون تظاهرات لموتاهم
فى هذه الأيام يبرح القاطنون أماكنَ سكناهم وإقاماتهم لزيارة المقابر، وأصوات الغناء والصيّاح تتعالى هنا وهناك، وروائح البخور الغريبة تزكّم الأنوف، والناس ما زالوا فى حيرةٍ من أمرهم، يهرولون وفى أيديهم باقات من الورود والزهور المختلفة الألوان، والأشكال، والأحجام، وفى كلّ مكان لم تكن ترى سوى القرْع (اليقطين) وقد إحتلّت الصّدارة فى الأسواق وفى المراكز التجارية الكبرى والصّغرى على حدٍّ سواء.
“يوم الموت” ربما كان وما يزال يعتبرمن أكبرالتظاهرات التي يقيمها الأحياء للموتى، فالمكسيكيّون يعتقدون أنّ موتاهم فى هذا اليوم يعودون إلى دورهم فيعدّ لهم أهاليهُم أطيبَ المأكولات، وأشهىَ الأطعمة، وبالذات تلك الأطباق التي كان يحبّها الميت عندما كان على قيد الحياة، فضلاً عن إعداد أنواع كثيرة من الفواكه، والعسل، والسكّر، والملح وبعض الحلوى يطلقون عليها “خبز الموتى” ويعتقدون أن موتاهم يخرجون إليهم فى ذلك اليوم فيقضون الليلَ كلّه معهم فى المقابر ويسهرون فيها حتى الصّباح.
عادات مُجترّة ضاربة فى القدم
تستمدّ هذه الإحتفاليات الغريبة أصولَها وجذورَها البعيدة من العادات القديمة للسكّان الاصلييّن فى القارة الامريكية، وتتمثّل هذه التظاهرات فى الإحتفال بيوم الموتى أو يوم الموت، وقد أصبحت هذه العادة مزيجاً بين العادات الشعبية المتوارثة الضاربة فى القدم، وبين المعتقدات التي إستجدّت بعد إكتشاف أمريكا عام 1492.
وما زالت هذه العادات منتشرة بين الناس على إختلاف طبقاتهم، ومستوياتهم الإجتماعية والثقافية، ولهذه الإحتفالات عندهم طقوس ومفاهيم، ورموز عميقة، وهي تجسيم لمفهوم الإنسان فى هذا الصّقع النائي من العالم، ونظرته للموت كحدَثٍ طبيعيّ لا يمكن ردّه أو صدّه أو التغلّب عليه، أو تفاديه، أو الفرار منه، إنّه يشلّ حركة الكائن، ويعود به من حيث جاء أوّل مرّة.
عرفت محتلف الحضارات البشرية القديمة هذا النّوع من الطقوس التي تحتفل بالموت كظاهرة طبيعية مُحيّرة، وقد خلّفت لنا تلك الحضارات معالم، ومآثر، ومقابر أشهرُها أهرامات مصر، والحضارات السابقة للوجود الكولومبي فى أمريكا، ومُجسّمات كلها ترمز للموت أو الموتى.
يعتبر الموت فى هذه الحضارات نوعاً من التصرّف العُلوي، حدوثه لا يثير أيَّ حزنٍ أو همٍّ أو ألم أو حسرة أو حِداد. وكان الناس يتقبّلونه كحدَث طبيعي، وظلّ هذا الشعور مستمرّاً حتى تاريخ الإكتشاف، ويرجع الإحتفال بالموت أو الموتى فى الحضارات المكسيكية إلى ما يزيد على ألفي سنة قبل المسيح.
أي أنه يعود الآن لأربعة آلاف سنة خلت. ومثلما هو الشأن عند الفراعنة وعند بعض الحضارات القديمة الأخرى، فقد عثرت على بقايا هياكل أدمية وبجانبها حاجياتها الخاصّة، ومجسّمات مُصغّرة وأقنعة وأواني وجواهر ومعادن وحليّ نفيسة من ذهب وفضّة.. إلخ، وكانت كلّ ميتة عندهم لها تفسير خاص، فالمحاربون عندما يموتون يصبحون “رفقاء الشمس” وكذلك النساء اللاّئي تدركهنّ المنيّة عند الولادة.
ويذهب الأطفال إلى مكان أشجارُه وثمارُه تذرّ لبنا،أمّا هؤلاء الذين يموتون على إثر مرضٍ عُضَال، أو الذين ماتوا على إثر نزول صاعقة، أو هبوب عاصفة، أو الذين ماتوا غرقاً فلهم مصير آخر بعد الموت أقلّ درجة من السّابق.
كان من عادة الأزتيك أنه عندما كان يموت أحدهم يجعلونه يجلس القرفصاء ثمّ يوثقونه جيّداً، ثم يضعون الجسم فى نسيج من قطن حديث الصّنع، ويضعون فى فمه قطعة من يَشْم كانت ترمز إلى قلبه وعليه أن يتخلّى عنها وهو فى طريقه إلى “متكتلات” وهو مكان الموتى عندهم ثمّ يخيطون الكتّان والجثّة بداخله.
وفى ساحة بعيدة عن المدينة يعدّون منصّة عالية يضعون عليها الميت محاطاً بحاجياته الخاصّة التي إستعملها فى حياته مثل درعه، وسيفه وتعدّ الأسرة بعض المأكولات التي غالباً ما تكون من عجّة الذرة، واللوبياء، والبازلاّء وبعض المشروبات.
ويقوم كبير القوم ليتأكّد من أنه لا شئ ينقصه ، ثمّ تُضرم النيران عليه على طريقة الهندوس، وعندما يعلو اللهب فى الفضاء يجلس أفراد عائلة الميت وهم يتأمّلون نهاية عزيزهم وينشدون أغاني هي مزيج بين الحزْن والفرح فى آنٍ واحد، ثمّ يوضع الرّماد داخل وعاء إلى جانب اليشم، وكان الأزتيك يعتقدون أنّ الموت ليس سوى شكل جديد للحياة، كما كانوا يؤمنون بالعالم الآخر، وكلّ ميت يأخذ طريقه نحو هذا العالم، ويصنّف حسب الأعمال التي قام بها فى حياته، وعندما يصل الميت إلى السماء السابعة كدليل على حسن تصرّفه، عليه أن يترك هناك قطعة اليشم التي وضعها الأحياء فى فمه.
الإيمان بالبعث
وكان السكان الاصليّون فى أمريكا السابقة للوجود الكولومبي يؤمنون بالبعث أيضاً وهم يفسّرون ذلك بإختفاء النجوم وراء الأفق، ثم تعود للظهور من جديد، كما يشبه عالم الأموات عندهم كذلك بالذرة التي بعد أن تُرمى فى أحشاء الثرىَ وتموت تعود للحياة من جديد فى شكل نبات قائم جميل مثمر، كانوا يعتقدون أنّ الوجود الحقيقي هو للرّوح وليس للجسد الذي يلحق به الفناء.
وكانت الجمجمة فى عُرفهم لا ترمز للموت وحسب، بل إنّها ترمز للحياة كذلك، إذ أنها تعني الأمل فى البعث من جديد. يقول شاعر أزتيكي فى هذا الخصوص:
إنّنا نأتي لهذا العالم فقط لننام / إنّنا نأتي فقط لنحلم
فليس صحيحاً أنّنا / نأتي للأرض لنعيش
كانت الأرض عندهم بمثابة محطّة للمرور، أو جسر للعبور والإنتقال إلى عالم آخر، وهكذا كان مفهوم الزّمن أوالفضاء، أو الحيّز، أو العالم المرئي، والعالم غير المرئي ليس سوى عالم واحد، وهنا تكمن ثنائية الإعتقاد فى الموت والحياة، وأنّ الموت هو دليل الخلود وليس العكس.
مغزىَ يوم الموت
الموت يسوّي بين جميع الأحياء ولا يمكن لمخلوق أن يفلت منه، وهو واقع يومي يحاول الناس نسيانه، إلاّ أنه يدركهم فى آخر المطاف مهما طال مقامهم فى هذه الديار، ويقاسم الشاعر الأزتيكي الكبير “نِيزَاوَالكُويُوتل” شاعرنا العربي القديم زهير بن أبي سلمى هذه الحقيقة فيقول هو الآخر:
هكذا نحن أحياء – أموات / لابدّ لنا يوماً أن نرحل
عن هذا العالم الأرضي / مهما طال بنا به المقام
وللموت آلاف الأسماء فى مختلف لغات الأرض ،فالأموات الذين كانوا يوماً أحياء يرزقون فى الأرض ليس من السهولة نسيانهم فى الحياة، وعليه يحاول الناس فى المكسيك مرّة من كل عام فى هذه التواريخ أن يرتدوا لباسَ المنيّة، أوأن يتدثّروا بمسُوح الموت، أو قناع الحمام يتمثّلونه فى الحياة قبل الممات إستذكاراً وإستحضاراً لموتاهم، ومن ثمّ جاءت هذه الإحتفالات حيث يخيّل للناس أنهم سيلتقون بموتاهم.
وفى هذه الأيام يوقد فى أعلى مكان من المنزل نور خافت إلى جانب مائدة وُضعت عليها أشهىَ المأكولات، وأطيب الفواكه وألذّ الحلويات التي كانت أثيرة لدى الميت فى حياته، ففي يوم 31 أكتوبر يبدأ الإحتفال وعندما تُقرع وتُسمع ضربات النواقيس (12 ضربة) عندئذٍ توقد الشمُوع والأنوار فى مختلف الدور وفى تلك اللحظة تخلو المدينة من المارّة ويسودها سكون شامل، ويبدأ الأطفال فى إيقاد عيدان الندّ والبخور التي تشيع روائح زكية فى مختلف أركان البيوتات والمنازل، وتوضع إلى جانب المائدة ورود وأزهار، وشموع بيضاء، واحدة لكلّ ميت.
كما يوضع كوبٌ من ماء ومُجسّمات من طين وفخار ولعب لإستقبال الموتى، وفى الصّباح يتخيّل الناس أنّ موتاهم الصغار والاطفال يأتون لزيارتهم ويشاركونهم طعامَ الإفطار، وفى الساعة الثانية عشرة زوالاً تستبدل الزهور البيض بالصّفر ثم تقرع النواقيس من جديد لإستقبال الموتى الكبار، كما تُستبدل الشموع بقناديل سوداء، وشموع أكبر من الشموع السابقة، وفى الساعة الثانية عشرة ليلاً يتمّ الترحّم على الأموات، وعند الصباح تقرع الأجراس من جديد عندئذ يخرج الناس من دورهم ويتّجهون للمقابر، وقد أوقدوا الشموع من جديد، وأشاعوا البخور فى الأجواء، ويقضون الليلَ كله إلى جانب أحبّائهم الرّاحلين وقد غطّوا القبور بالورود والأزهار، وفى ثالث نوفمبر يتزاور السكّان فيما بينهم ويتبادلون الأطعمة والأطباق التي كانوا قد أعدّوها لموتاهم، وهكذا يقيمون روابط وأواصر ووشائج فيما بينهم.
كما يتّجه الناس فى هذا اليوم أفواجاً وزرافات ليلاً إلى مدينة “مكسيك” القريبة من العاصمة العملاقة مكسيكو سيتي للترحّم على أجدادهم القدامى، وهم يحملون آلاف الشموع والقناديل المضاءة، ويشكّلون بذلك منظراً مثيراً حيث تتلألأ خلاله الأضواء الصغيرة تحت عباءة الليل الحالكة، وينوف عدد الذين يزورون هذه المدينة فى هذه المناسبة على مليوني شخص، يؤمّون مختلف منازل ذويها، ومشاهدة الأطعمة التي أعدّت للموتى فى كلّ دار.
ليلة السّاحرات أو هالوين
لا يُعرَف كيف وصلت حفلات شبيهة بتلك التي تجري فى المكسيك وبعض بلدان أمريكا اللاّتينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا تحت إسم “هالويّن” أو ليلة الساحرات، ويُعتقد أنه ربما تكون قد وصلت إليها من إنجلترّا، أو إيرلاندا، (السّلتيك) حيث كانت وما تزال هذه العادة منتشرة إلى اليوم بشكل أوسع من السابق، وكانت بعض بلدان أمريكا اللاتينية قد عملت على منع إقامة هذه الإحتفالات خاصة فى الأماكن العامّة، والشوارع وفى المدارس والمعاهد. وقد دأب الناس فى معظم هذه البلدان على إحياء هذه الإحتفالات حيث يرتدون أقنعة مختلفة وأردية تنكّرية مخيفة.
متحف فريد للموت
ويوجد فى المكسيك متحف فريد من نوعه خاص بالإحتفالات بيوم الموت والموتى، وفى هذا المتحف العديد من الأجنحة تشمل تقاليد مختلف جماعات السكّان الاصليين، ولا يتعلق الأمر بمعرض لنماذج من الموائد التي يتمّ إعدادها فى مختلف الأقاليم بهذه المناسبة بل هو معرض حول كلّ ما له صلة بهذه الإحتفاليات،وهومفتوح على إمتداد الحَوْل للتّذكير بالموت، أو هو فى الواقع تذكير بالحياة، والأحياء، ذلك أنّ العديد من السكّان يرون فى هذه الإحتفالات مناسبة للتأمّل وإعمال النظر والفكر فى الحياة الحاضرة،والحياة الأخرى التي تنتظر المرء.
فيبدأ فى مراجعة نفسه ويحاسبها حتى لا ينسىَ أنه مجرّد طيف عابر، أو ظلّ زائل فى هذه الدار، وأنه لابدّ راحل لا محالة يوما نحو العالم الآخر. وكان المتحف البريطاني فى لندن قد أقام منذ سنوات معرضاً حول مختلف المراسيم التي تقام للموتى فى المكسيك حيث تسنّى للأوروبييّن التعرّف على تفاصيل هذه الإحتفالات الغريبة، وكيف ينظر المكسيكيون إليها.
يوم للموت للكُتّاب والمُبدعين
إعتاد “الإتحاد العام للكتّاب المكسيكييّن” على إقامة مناسبة خاصّة للتذكير بالكتّاب والفنّانين والمبدعين الرّاحلين، ومائدة الكتّاب على عكس التقاليد السّائدة هي لسيت من مأكولات وحلويات بل من نور وزهور، وهذا التقليد جديد فى المكسيك لم يسبق إليه أحد من قبل.
ويتمّ إقامة هذا الحفل فى مسرح كبير بالمدينة فى حيّ “كيوكان” وهو حيّ معظم قاطنيه من الكتّاب والفنّانين، وتقدّم خلال الإحتفال أشرطة، وتسجيلات حول حياة هؤلاء الكتّاب مع قراءة بعض إنتاجاتهم القصصية أو الشعرية، أو عرض بيان حول أعمالهم التشكيلية، كما تقام موائد مستديرة حول تلك الأعمال حيث يتخيّل المحتفون أنّ الرّاحلين حاضرون معهم خلال هذه الأمسية، وذلك بإستعمال أدوات تسجيل حديثة ومتطوّرة تتضمّن أصوات هؤلاء.
وهكذا تمتزج التقاليد بالفنون فى جوّ تنبعث منه روائح البخور الزكية والشمع المحروق، وقد حقّقت هذه التجربة نجاحاً كبيراً على الرّغم من أنه كان هناك مَنْ عارض إقامتها معتبراً ذلك تجنّياً وتطاولاً على تقاليد ما زال السّواد الأعظم من الناس ينظرون إليها بنوع من التبجيل.
كما تقدّم خلال هذه الإحتفالات بعض الأعمال المسرحية التي تجلّي عمق هذه العادة، وتحلّل رمزيتها، وهكذا يكتسب هذا التقليد بالإضافة إلى طابعه الرّوحي طابعاً إجتماعياً وثقافياً وفنيّاًحيث يتذكّر فيه الناس أحبّاءهم الراحلين، ويستحضر الخلاّن أصدقاءَهم، وتذكير المشاركين فى هذه الإحتفالات بأنّ عالم الأموات فى العمق غير بعيد عنهم بل هو جزء لا يتجزّأ من عالمهم، ولهذا يحتفي الناس بهذه المناسبة ولا يبكون موتاهم.
الأدب والموت
كُتب الكثير عن الموت فى مختلف العصور والدهور ،وهناك عشرات الكتب والمجلّدات والقصص والحكايات والأساطير التي تتناول هذه الظاهرة الطبيعية، فمن وجهة نظرالمواطن المكسيكي الموت يعيش بيننا، ويضحك، ويبكي، ويغنّي، والإحتفالات التي تقام للموت إنما تأتي إنطلاقاً من هذا المنطق.
وهذا المفهوم نجده مبثوثاً فى العديد من الحِكَم، والاشعار، والأمثال السائرة، فالموت فى هذه الموروثات هو رفيق كلّ من تدبّ فيه الحياة، وهكذا فالجمجمة المصنوعة من القرع (اليقطين) والعيش المرشوش بمسحوق السكّر والملح والحلويات والزهور ذات اللون الأصفر (يرمز إلى الشحوب والذبول)، واللون الأحمر (رمز الحياة والحيوية)، كلّ ذلك يقدّم فى الإحتفال وإلى جانبه تكتب الحِكم والأمثال والاشعار التي تذكّر بالموت.
وكلمة الموت هذه التي تقشعرّ لها الأبدان فى مختلف أنحاء العالم هي بالنسبة للمكسيكي شئ مألوف، فهو يلاطف الموت، وينام إلى جانبه، ويرتمي فى أحضانه، بل إنه لا يتورّع من السّخرية منه.
وليس فى الآداب العالمية شاعر أو كاتب لم يتعرّض لموضوع الموت فى أعماله، وهو موضوع كان له وجود فى مختلف العصُور، فى ملاحم بلاد الرافديْن، وفى مصر الفرعونية القديمة، وعند الرّومان، والإغريق، وعند قدماء السكان الأصليين فى أمريكا اللاتينية، وفى الأدب العربي قديمه وحديثه.
وهناك العديد من الشعراء والفنّانين الذين تغنّوا بالموت أو كتبوا عنه، ففى الأدب الإيبروأمريكي نجد ممّن كتبوا عن الموت الكثيرين، منهم على سبيل المثال وليس الحصر: داريّو، وبورخيس، ونيرودا، وساباتو، وغاليانو،ولوركا، وألبرتي، وخوسّيه بوسادا، وبرونو ترافين، وأوكتافيو باث، وبرناردو أورتيس، وطامايّو، وفريدا كاحلو، وريفيرا، وخوان رُولفو الذي قدّم لنا فى قصّته الشهيرة “بيدرُو بارامُو” بطلاً من الأموات، وكارلوس فوينتيس يتعرّض لموضوع الموت فى شخص رجلٍ مُسنّ يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية الى بلده خلال الثورة المكسيكية بحثاً عن الحِمَام (بكسر الحاء) لأنه يعتقد أنّ إستشهاده فى هذه المعركة أكثر شرفاً له من أن يموت موتة طبيعية.
كما نجد موضوع الموت عند معظم الشّعراء لدى معظم الأمم، منهم زهير، ولبيد، وطرفة، والأعشى، والخنساء، وأبو العتاهية، وأبو تمّام، وابن الروّمي،والحطيئة، والمتنبّي، والمعرّي (فى داليته الشهيرة وسواها)، وعمر الخيّام، وطاغور، وبودلير، ورامبو، وكافكا، وباسكال، وريلكه،وكامو، وهمنجواي، وسواهم من الأدباء والشعراء العالميين وهم كثير.
وقديماً قال المتنبّي:
أصارع خيلاً من فوارسها الدّهرُ / وحيداً وما قولي كذا ومعي الصّبرُ
تمرّسْتُ فى الآفاتِ حتى تركتُها / تقولُ أمَاتَ الموتُ أو ذُعِر الذّعرُ!
ويقول شاعر آخر:
الموتُ باب وكلُّ الناسِ داخلُهُ / فيا ليْتَ شعري بعد الباب ما الدّارُ ؟
الدّارُ دارُ نعيمٍ إن عملتَ بما / يُرضي الإلهَ وإن عصيت فالنّارُ
وقال آخر:
تزوّد من الدنيا فإنك لا تدري / إذا جنّ الليلُ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من سليمٍ ماتَ مِنْ غيْرِ عِلّة ٍ / وكمْ من سقيمٍ عاش حيناً من الدّهرِ
وكمْ من فتىً أمسىِ وأصبح لاهياً / وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري.
* كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا كولومبيا.