لا يحبّ نتنياهو غالانت. سبق أن طرده من حكومته، ثمّ أعاده، ثمّ طرده ثانية قبل أسابيع، وربّما إلى غير رجعة.
لكنّ إسرائيل بأكملها تقف متضامنة مع المدانَيْن اللدودين، بما في ذلك معارضة، بمستويات مختلفة، انتقدت حرب نتنياهو ومراميه الشخصية منها. ولم يرمش لها جفن حين اعتبر غالانت بعد عملية “طوفان الأقصى” أنّ سكّان غزّة هم “حيوانات” وحسب. وهو ما وضع سكّة شرعيّة للجيش الإسرائيلي لارتكاب إبادة جماعية ضدّ المدنيين في القطاع، على الهواء مباشرة، وسط دعم الحلفاء الغربيين، وبالرعاية الكاملة للولايات المتحدة.
استنتج أهل غزّة أوّلاً، ثمّ العالم أجمع تالياً، أنّ ما يحصل هو إبادة وحشية وجريمة ضدّ الإنسانية. كانت الصورة تنقل الجريمة ثانية بعد أخرى، فيما حمم إسرائيل تغتال الحجر والبشر، وسط خطط أعلنها نتنياهو وحكومته عن إجلاء جماعيّ للغزّيين صوب سيناء في مصر. وكان القاتل ينفّذ جرائمه بفخر من دون أيّ رادع، وسط تصفيق داخلي وخارجي من المشجّعين.
ومع ذلك، وعلى الرغم من ارتكاب المذبحة علناً، وبكلّ شفافية وتعجرف، احتاجت المحكمة الجنائية إلى أدلّة وقرائن وشهود لتستنتج أنّ الأمر ليس حرباً تقليدية، بل إبادة لا تجري بالصدفة أو عرضاً، بل بناء على قرارات، تتحوّل إلى أوامر، صدرت عن أعلى سلطتين سياسية وعسكرية في البلاد. ولأنّ المحكمة الجنائية الدولية تلاحق الجناة، فإنّ المحكمة توجّه الاتّهام إلى متّهميْن اثنين وليس إلى دولة إسرائيل.
حماسة بوريل… وتبرّم حلفاء نتنياهو
مع ذلك يسهل في إسرائيل اتّهام قرار المحكمة في لاهاي بأنّه “معادٍ للسامية”. تهرع الولايات المتحدة، على لسان الرئيس جو بايدن، إلى اعتباره “عملاً شائناً”، فيما الأرجنتين تعتبره اعتداء على “حقّ إسرائيل بالدفاع عن النفس”. تصدر بريطانيا بياناً بارداً في حياده.
تحترم فرنسا استقلالية المحكمة. يسارع منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إلى تأكيد أنّه قرار مُلزم يجب أن يُحترم، وجميع الدول بما فيها الاتحاد الأوروبي ملزمون بالتنفيذ. يردّ فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، العضو في هذا الاتّحاد، وصديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنّه سيوجّه دعوة إلى نتنياهو لزيارة بودابست.
ما بين حماسة بوريل، الذي سيغادر منصبه قريباً، وتبرّم دول ملتصقة بإسرائيل ونتنياهو مهما يرتكبا من كبائر، فإنّ العالم يُظهر مكيافيليّة في التعامل مع قرار “مزعج” من خارج السياقات التقليدية، يُحرج العواصم الكبرى في إدارة تعدّد خطوط معاييرها ومواقفها في المطالبة بوقف الحرب ومجازرها، والاعتراف بحقوق الضحايا، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية، والاستمرار بتوفير التعاطف والتضامن مع إسرائيل.
قد يكون القرار تطوّراً رمزياً، لكنّه ليس كذلك. تكفي مراقبة حالة الغضب والصدمة التي انتابت نتنياهو ومحيطه من تحوّل على مستوى القانون الدولي لا يشبه ما حظيت به إسرائيل من هستيريا من الدعم الغربي دفعت زعماء الدول للزحف نحو إسرائيل تضامناً ودعماً وتأييداً في الساعات التي تلت “الطوفان”. لم يُجدِ “تحريك” قضية تحرّش جنسي ضدّ مدّعي عامّ المحكمة كريم خان في عرقلة قرار كان متوقّعاً. اتّخذت المحكمة قرارها بالإجماع، وبات نتنياهو وغالانت مطارَدين، ليس فقط من قبل الدول الموقّعة على المعاهدة التي يستند إليها إنشاء المحكمة، فالدول غير الموقّعة ستتجنّب حرجاً استقبال “هاربين” من العدالة الدولية.
سقوط مقولة “عدالة الرّجل الأبيض”
تنتظر نتنياهو قضايا قانونية داخلية في إسرائيل حال مغادرته السلطة. الأمر نفسه ينسحب على قرار المحكمة الجنائية التي تطارده على الرغم ممّا يمتلكه من حصانة بصفته زعيم دولة، وستطارده حتى حين يغادر السلطة ويعود إلى بيته. ولطالما اتُّهمت المحاكم الدولية بأنّها عدالة “الرجل الأبيض” حين لاحقت الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير، والرئيس الأسبق لساحل العاج لوران غباغبو.
واتُّهمت بأنّها “عدالة أميركا” حين لاحقت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واعتقلت وحاكمت زعيم صربيا الأسبق سلوبودان ميلوسوفيتش. ولا شكّ أنّ نتنياهو يتساءل عن أيّ تحوّل دولي سمح أن تنال منه محكمة لاهاي الشهيرة.
كريم خان هو قاضٍ بريطاني مولود عام 1970 في بلاد جلالة الملك، وفي إدنبره بالذات في اسكتلندا. هو ابن مهاجر غادر باكستان عام 1961. وهو ثالث مدّعٍ عامّ في المحكمة الدولية، وأوّل مدّعٍ عامّ يُنتخب بالاقتراع السرّي.
عمل الرجل بدقّة فنّية متناهية مكدّساً وثائقه، متحقّقاً منها، مشتغلاً خارج حسابات السياسة والإعلام. وحين قدّم الرجل الملفّ، صادق قضاة المحكمة مجتمعين، خارج إجماع غربي بدا قدراً حتمياً قبل عام يبسط فوق رأس إسرائيل وزعيمها خيمة قداسة تحصّنهما من سهام المحاكم وقضاتها.
ستحاصر “لعبة الأمم” خروج محكمة خان وصحبه عن المسموح في حسابات تقاطع الأجندات بأروقة العدل وغرفه. غير أنّ ما صدر يوم 21 تشرين الثاني 2024 سيكون تاريخاً له ما بعده في رسم مسارات الحكم في إسرائيل، لجهة حاجة هذا البلد إلى التخلّص من “خارجين عن العدالة” في صفوف السلطة. ستمنح سابقة المحكمة الجنائية هذه محكمةَ العدل الدولية مساحة جديدة للتحرّك بالاتّجاه نفسه.
أسقطت مذكّرات المحكمة الجنائية، باعتقال اثنين من كبار قادة الحرب الإسرائيليين، سرديّة “الحرب العادلة التي “اضطرّت” دولة ديمقراطية إلى خوضها ضدّ الإرهاب والإرهابيين”.
هي صفعة قد لا ينجو منها نتنياهو الذي لطالما اعتاد هضم كلّ الصفعات.