مع وصول ترامب إلى السلطة وهو رقم 47 من سلسلة رؤوساء أمريكا وجب وضعه للدراسة في صور ظاهرة الهوبريس وهو مصطلح يوناني قديم يفيد غطرسة القوة والتأهل. فقد ظهر للسطح كتاب يسلط الضوء على أهمية صحة السياسيين العقلية والبدنية عند اتخاذ القرارات، هو للسياسي الطبيب البريطاني دفيد أوين، بعنوان مرض من كان في منصب القوة.
وأذكر أنا من كتب هيكل أنني حين أقرأ لمقابلاته مع روكفلر الأمريكي والشاه البهلوي أو مونتجمري قائد الصحراء البريطاني ضد رومل النازي، أن هؤلاء القياديين والسياسيين والحكام وأباطرة المال؟؟
كانوا ينحنون لهيكل ويطلبون وده؟!! وهو مرض انتفاخ من كان في السلطة أو شم رائحتها وذاق طعمها، ولذا لا أحمل كلامه محمل الجديد، ولذا لم أكلف نفسي بسماع أي حلقة مما تحدث بها في الجزيرة، وأفضل لنفسي أن أرجع للمصادر الألمانية الموثقة فهي تزيدني علما..
مع هذا فأنا أقرأ للجميع مع فلترة الأخبار.. وقصة الأمراض عجيبة فلولا المغناج يوجينيا وولي عهدها مع مرض زوجها نابليون الثالث، لربما لم تنفجر حرب 1870 بين ألمانيا بسمارك وفرنسا ولما مات 170 ألفا من الأنام، وربما انقلبت محاور التاريخ على نحو مختلف، فالأقدار العجيبة تفعل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون..
ودفيد أوين كان قد عني منذ تخرجه من كلية الطب في عام 1962م بهذا الموضوع وكان محط اهتمامه؛ فبعد أربع سنوات فقط من ممارسته مهنة الطب وإجرائه بعض البحوث عن كيمياء الدماغ اختير نائباً في البرلمان البريطاني عن حزب العمال، مرشحاً من دائرته في منطقة بلايموث سوتون شمال غرب الجزيرة البريطانية.
ولفترة وجيزة حاول أوين الجمع بين العمل البرلماني وبحوثه في مجال الطب، ولكنه في عام 1968م قرر ترك مهنة الطب التي لم يعد إليها مطلقاً. ومنذ ذلك الحين عمل أوين وزيراً للصحة، ثم وزيراً للخارجية ورئيساً للحزب الديمقراطي الاجتماعي، ويعمل حالياً مديراً لجامعة ليفربول وعضواً في مجلس اللوردات.
وفي السنوات الست التي قضاها في مهنة الطب تعرف أوين إلى عدد من الأطباء الذين كانوا يعالجون كبار السياسيين، ولاحظ على الفور الضريبة التي يفرضها العمل السياسي على الشخصيات العامة. وهكذا بدأ يهتم بالعلاقة بين الصحة والسلطة، وهو الاهتمام الذي بلغ ذروته عندما اكتشف ما أصدر كتابا بعنوان (متلازمة هوبريس).
وتتركز الفكرة التي يدور حولها هذا الكتاب في أن تولي السلطة يتسبب في تغيرات في الحالة العقلية والسلوكية للشخص، وأن هذه التغيرات ليست مجرد تغيرات في السمات الشخصية للفرد، بل هي حالة مرضية أطلق عليها المؤلف اسم (متلازمة هوبريس)، ومن ثم يصل الكتاب إلى نتيجة مؤداها أن المرض العقلي ينبغي إعادة تعريفه ليشمل هذه الحالة. وفي هذا الكتاب الأخير للمؤلف الذي أصدره بعنوان (في المرض وفي السلطة) ينظر المؤلف في حالات معينة ساهمت فيها الإصابة بأمراض معينة، مع الإصابة بهوس السلطة، في تشكيل عديد من القرارات الكبيرة لبعض قادة العالم في القرن العشرين.
ويتناول الكتاب بالشرح حالات أربعة سياسيين أضعفت الأمراض التي عانوا منها قدراتهم على اتخاذ القرار في ظروف الأزمات، وهؤلاء السياسيون هم رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، الذي عانى من إصابة المسالك المرارية أثناء أزمة السويس في عام 1956م، والرئيس الأمريكي جون كنيدي الذي أصيب بمرض الغدة الدرقية خلال أزمة خليج الخنازير في عام 1961م، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي أصيب بسرطان الدم في السنوات الأخيرة من حكمه، والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، الذي كان يصارع سرطان البروستاتا في الفترة بين عامي 1981م و1995م، أثناء حرب الفوكلاند، وتفتت يوغسلافيا وعمليات التطهير العرقي في رواندا.
وبين كل هذه الحالات تبقى حالة رئيس الوزراء البريطاني إيدن، الذي أصيب بمرض المسالك البولية أثناء أزمة السويس، أوضح نموذج تاريخي لتأثير الإصابة بالأمراض الخطيرة في القرارات السياسية. لم تكن تصرفات إيدن طبيعية أثناء سير الحرب، التي شاركت فيها كل من المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل في الهجوم على مصر من الجانب الآخر.
فقد كان متوترا وقلقا، وعانى الأرق، وحسبما يقول أوين فإن فشله في مواجهة ظروف الحرب المعقدة – التي انطوت على مصالح متعارضة لأربع دول متحاربة، بينها دولتان عظميان، إضافة إلى تعقيدات التعامل مع قرارات الأمم المتحدة – يعود إلى تقلبات المرض الذي أصيب به خلال هذه الفترة، إذ من المعروف أنه يسبب اضطرابات الكبد ونوبات من الحمى.
ولم تكن تأثيرات العقاقير التي كان يتناولها بأقل من تأثيرات المرض نفسه، فعقار الدريناميل، على سبيل المثال، يسبب التوتر والحساسية الشديدة وفرط الثقة بالنفس.
يقول دفيد أوين الطبيب السابق السياسي اللاحق عن أنتوني إيدن السياسي البريطاني الذي خلف تشرشل بعد طول انتظار، إن تقديره للأمور أصيب بقدر كبير من الضعف عندما اتخذ بعض القرارات الخطيرة التي كان من أهمها قراره الدخول في الحرب بالتواطؤ مع إسرائيل، وخداعه للرئيس الأمريكي، وإخفاؤه قرار المشاركة عن مجلس العموم والكذب عليه حتى بعد بدء العمليات.
فقد نجح المسؤولون الإسرائيليون والفرنسيون في إغراء إيدن بالمشاركة، رغم ما عرف عنه من حذر في مثل هذه الظروف، وكان قراره هذا خاطئا من الناحية الاستراتيجية، وتسبب فيه إصابته بالمرض والعلاج الذي كان يتناوله كما يقول أوين.
وليست الأمراض التقليدية فقط هي التي تصيب رؤساء الدول حسبما يرى أوين، ذلك أن الوجود في السلطة قد يتسبب في تغيرات نفسية تؤدي بدورها إلى شعور بالزهو والنرجسية وبروز تصرفات غير مسؤولة. ويعتقد الرؤساء المصابون بهذه الأعراض أنهم قادرون على إنجاز أعمال عظيمة، وأن هذه الأعمال العظيمة متوقعة منهم دائما، وأنهم قادرون على اختيار أفضل القرارات في الظروف كافة، وأن أعمالهم لا يمكن أن تحدها القيود التي تحد أعمال الأشخاص العاديين.
بل يصر مثل هؤلاء الأشخاص على أن الشعوب التي يحكمونها قوى خيرة لا يمكن أن تبادر إلى ارتكاب عمل خاطئ، وأنهم ببقائهم في السلطة لأطول فترة ممكنة يتيحون المجال لتطور هذه الخصال. ويضرب المؤلف عديدا من الأمثلة على ذلك، مثل الرئيس الصيني ماو تسي تونغ والرئيس الكوبي فيدل كاسترو والرئيس الزمبابوي روبرت موغابي.
ونتيجة هذا كله في رأي المؤلف الفشل في اتخاذ السياسات الصحيحة. ولتوضيح أعراض (متلازمة هوبريس) يركز أوين على قيادي يعرفه جيدا هو رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وآخر حظي بمقابلته هو الرئيس الأمريكي جورج بوش. وعن بلير، الذي فكر في احتراف مهنة التمثيل قبل أن تجرفه السياسة، يقول المؤلف إن السياسة منحته مسرحا كبيرا لممارسة هواية التمثيل، مشيرا إلى أن السياسيين الممثلين يتصفون عادة بقدر كبير من النرجسية.
وإضافة إلى ذلك سيطر على بلير شعور بأن دوافعه في كل ما يأتي به سليمة دائما، وهذه الثقة هي التي جذبته إلى الرئيس الأمريكي بوش، الذي ينتابه أيضا شعور بأن أعماله تستهدف دائما تحقيق أهداف عليا.
وقد يلجأ السياسي المصاب بهذا الداء إلى الكذب، وربما اتخذ قرارا بغزو دولة أخرى من أجل تحقيق أهدافه التي يعد تحقيقها رسالة يجب عليه أن يبذل كل ما في وسعه لتحقيقها. وبمرور الوقت، وتزايد نفوذه نسبة لبقائه الطويل في السلطة، وتأييد المقربين لكل ما يتخذه من قرارات، تقوى لدى مثل هذا السياسي ثقته المفرطة بنفسه، وعندئذ يبرز المرض في أجلى صوره.
ومن الأخطاء التي يقع فيها الأطباء في نظر المؤلف اعتقادهم الدائم قدرة مرضاهم على اتخاذ القرار، ومثل هذا الخطأ الذي يتكرر يوميا يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة إذا كان المريض تحت العلاج رجل دولة.
وأوين ليس أول من لاحظ إصابة رؤساء الدول بمتلازمة هوبريس، ولكنه أول من أكد الصفة المرضية للحالة، ودعا إلى دراستها بجدية، وطالب ببحث تأثيراتها في صنع القرار. ويبدو رأيه هذا منطقيا، وخاصة إذا أمعنا النظر في السنوات الثماني لفترة الرئيس الأمريكي بوش، ولذلك فإن قراءة هذا الكتاب ضرورية بالنسبة للأطباء الذين تهمهم صحة رؤساء الدول، كما أنها ضرورية أيضا بالنسبة لهؤلاء الرؤساء أيضا.