اعتدنا أن نسمع، من جديد، في موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، عن مزاج الولايات المتأرجحة السبع التي تحدّد عادة وحدها من يدخل البيت الأبيض. لكنّنا في مواسم الكوارث التي تحلّ بنا، أوّلاً في قطاع غزّة ثمّ في لبنان وربّما في بلدان أخرى، نعوّل على ما يتأرجح في الولايات المتحدة لعلّه يوقف تأرجحنا العدمي المقيت. فاز دونالد ترامب.
بات الرئيس الـ 47 متأبّطاً ما يفيض من الوعود إلى داخل البيت الأميركي، وما قلّ منها يمكن الاستناد إليه لنفهم شكل وحركيّة العالم في السنوات الأربع المقبلة.
شوهد بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين يبتسمان بحبور ابتلعت كثير من عواصم أوروبا ريقها قلقاً. قلبت بكين بصمت وبرود صفحة راهنٍ لم تحبّه وفتحت صفحة من عرفته وخبرته من جديد. قيل إنّ وجوماً ساد وجوه قادة الحكم في طهران، وإنّ كلّ عواصم المنطقة استقبلت الحدث بارتياح.
ليس بالضرورة هياماً بالفائز، بل لأنّ ما تشهده المنطقة من فوضى وعبث دموي يجعلها متعلّقة بأيّ فائز يجوز أن يضع مخارج ما لأنفاق لا مخارج لها.
يحبّ ترامب الملاحم الدرامية الكبرى. تراه يخرج من نصوص شكسبيرية، فيحلّ ضيفاً ثقيلاً على نخبة واشنطن، ويفرض نفسه، بسوقية تاجر العقارات، على الحزب الجمهوري. يطرد الكهنة من معبد العاصمة، فيُسقط منافسيه داخل الحزب العريق واحداً واحداً، قبل أن “يرفس”، عام 2016، هيلاري كلينتون، بنت الأصول واختصاصية القانون وزوجة رئيس متمكّن، خارج الحلبة، ويتربّع متنمّراً على “عرش” الولايات المتحدة لولاية لم ينسَها العالم أجمع.
النّاس تريد بطلاً.. حتّى لو وَهماً
نزل خبر انسحاب الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، من السباق، كالصاعقة على قلب دونالد. ظهر مرتبكاً، مرتجلاً شتم المرشّحة البديلة، كامالا هاريس. فقد في لحظة عُدّة الشغل. ماذا سيقول عن امرأة من أصول أفروآسيوية شابّة مقارنة بكهولته. صار برمشة عين أكبر المرشّحين سنّاً في تاريخ الولايات المتحدة. كان الفارق بين تقدّمها في الاستطلاعات وتراجعه يتّسع وكأنّه إعلان لقدر محتوم.
دونالد ترامب آلة ضخمة لحصد الأصوات. عقله يعمل وفق قواعد البزنيس. الأفكار والأيديولوجية مضيعة للوقت والجهد والأصوات. يهمّه مزاج العامّة ولا يكترث لتقويم النخب. جاب الولايات يوزّع الوعود ويعِد بالخلاص.
من يسمع الرجل يخال الولايات المتحدة في قعر التاريخ تقبع على ضفاف العدم والاندثار تنتظر أميرها المنقذ. كان شاعرنا عنترة بن شدّاد يضخّم في أبياته من شأن خصمه قبل أن يعلن القضاء عليه. والأرجح أنّ الناس تريد “بطلاً” حتى لو كان صنيعة أوهام، وحتى لو أيقنوا أنّه لن ينفّذ العهود والوعود.
نعرف الرجل في ولايته الأولى. لا بدّ أنّه اكتسب مذّاك خبرة ومراساً وبات يحسن الصنعة. في عهده الأوّل عادى الحلفاء في أوروبا فلم يفهموا الأمر وتعايشوا مع قدر اعتبروه زائلاً. عادى الصين، وهو لم يفعل إلّا اتّباع ما رسمته “الدولة العميقة” منذ باراك أوباما.
اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل منفّذاً تشريعاً كان صدر عن الكونغرس قبل عقود. تبرّع من عنديّاته بالاعتراف بهضبة الجولان جزءاً من سيادة إسرائيل. وطبع خرائط لـ “صفقة القرن” بمبضع صهره، جاريد كوشنر. لن تجد إسرائيل، ونتنياهو بالذات، حليفاً صادقاً كترامب الذي اكتشف في عزّ مقتلة غزّة كم أنّ إسرائيل صغيرة المساحة وتحتاج إلى تمدّد واتّساع.
ماذا عن إيران النّوويّة؟
في خطاب النصر الذي خرج به من فلوريدا ظهر الرجل منتشياً بنجاح كاد يكون مستحيلاً. لكنّه في خطبه التي ألقاها خلال شهور حملته الانتخابية، ظهر غاضباً حاقداً واعداً بالانتقام. لا نعرف ما إذا كان سلوكه كرئيس لكلّ أميركا وزعيم لأكبر دولة في العالم سيغيّر من عناوين مزاجه وسياساته. أخرج ترامب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018.
يعود الرجل بعد 6 سنوات من ذلك التاريخ ليستنتج أنّ إيران باتت، ربّما بفضله، على حافة العتبة النووية بمستويات تخصيب عالية أتاحها انهيار قيود اتفاق بات، بفضله أيضاً، حبراً على ورق.
لا نعرف كيف سينهي حروب صديقه نتنياهو في المنطقة. كما لا نعرف كيف سينهي حرب صديقه بوتين في أوكرانيا. لا نصوص، لا خطط، لا نظريات في علم إدارة العالم ومصالح الولايات المتحدة داخله. لطالما تفاخر بنزوعه لإخراج بلاده من حروب الآخرين. حين أخرج خلفه بايدن قوّات بلاده من أفغانستان صبّ ترامب غضباً من “انسحاب مهين”.
كرّر خلال الأشهر الأخيرة مقولة افتراضية لا دليل لها. قال: “لو كنت رئيساً” لما نشبت حروب العالم. ثمّ أضاف ممعناً: “حين أصبح رئيساً ستنتهي كلّ الحروب”. لا شيء غير الوعود، وهي زوّادة مرشّح أعاد من جديد اقتحام ما اعتبر البعض أنّه بات محرّماً.
كانت نانسي بيلوسي، القيادية الديمقراطية ورئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، قد وعدت بأن لا يدخل ترامب البيت الأبيض ثانية. قبل يومين، وحين أيقنت على ما يبدو أنّه بات يجول في حيّ ذلك البيت، حذّرت من وفاته في منصبه وكارثة أن يتسلّم نائبه السلطة من بعده. بدا أنّ نانسي تستعين بالسماء في مواجهة قدر ذلك الذي لا تقتله رصاصة قنّاص حاقد.