آراءتقاريرسياسة
أخر الأخبار

إنطلاقاً من جُزُر الخالدات.. شهادات تاريخيّة تؤكّد سيَادَة المغربِ على صَحْرَائه منذ القرن الثامن عشر

على هامش الذّكرى 49 للمَسِيرَة الخضرَاء المُظفّرة

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي 

شهادات تاريخية دامغة جاءت في كتاب -“الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي” (قسم كنارياس وشمال غرب إفريقيا المجلّد الثالث ص 54) ضمن مجموعة من الوثائق التاريخية والمراسلات الرّسمية الإسبانية الكنارية –تؤكّد اعتراف إسبانيا بسيادة المغرب على رأس بوجدور وسائر المناطق والتخوم في الصحراء الغربيّة منذ القرن الثامن عشر، إتّضح لنا ذلك على إثر جُنوح سفينة صيد كنارية عام 1784 قبالة السّواحل المحاذية للصّحراء.

من هنا تبدأ هذه القصّة المثيرة التي تُجليِّ  لنا هذه الحقيقة التاريخية التي لا يرقى إليها شكّ ولا ريب.

تجدر الاشارة فى هذا القبيل  أنّ الباحث الجامعي  الكطلاني-الإسباني المعروف الدكتور “ماريانو أرّيباس بالاو” (Mariano Arribas Palau) كان قد قدّم هذه الوثائق أواخر التسعينيات من القرن الفارط ضمن مداخلة له في إطار الحوار التاريخي الكناري – الأمريكي تحت عنوان: “وثائق حول كنارياس في الأرشيف التاريخي الوطني قسم شؤون الدّولة، ملفّ رقم 3565 صندوق رقم 2”. ولهذه الوثائق والمراسلات التاريخية الاسبانية صلة وثقى بحادث غرق أو جُنوح أو إرتطام سفينة الصّيد الكنارية المُسمّاة “نْوِيسْترَا سِينيُورَا دي أنغُوستياس” (Nuestra Señora De Angustias) أمام رأس بوجدور عام 1784.

شهادات وثقى 

يتّضح لنا من خلال هذه الوثائق كيف أنّ كلاّ من القنصل الإسباني في المغرب فى ذلك الإبّان، (خوان مانويل غونساليس سالمُون)، والجنرال (ماركيز دي برانثيفورتي)  حاكم جزر الخالدات، أبلغا رسميّاً الوزير الأوّل الإسباني في ذلك التاريخ (الكوندي فلوريدا بلانكا)، عن حادث الغرق الذي تعرّضت له السفينة الآنفة الذّكر، معترفين جميعاً، ضمنيّاً، بما لا يترك مجالاً للشكّ، بسيادة عاهل المغرب آنذاك على هذه المنطقة من الصّحراء على عهد السّلطان المولى محمّد بن عبد الله المعروف عنه تاريخياً اهتمامه المتواصل بالصّحراء المغربية الذي جدّد ولاية شيوخ قبائلها في العديد من المناطق والجهات مثل واد نون، وأدرار، وماسّة، والسّاقية الحمراء وسواها من المناطق الأخرى.

وجاء في النصّ المتعلّق بهذا الموضوع، بالحرف الواحد ما يلي: “في أواخر شهر أغسطس  من هذه السنة (يقصد 1784) بعد أن غادر مركب الصّيد الإسباني (نويسترا سينيورا دي أنغوستياس) جزر الكناري وعلى متنه 27 صيّاداً من البحّارة الكنارييّن يتألّف منهم طاقم المركب متوجّهاً إلى السّواحل الإفريقية لجمع السّمك المُجفّف والمُملّح الذي كان يُستعمل كغذاء لمعظم سكّان هذا الإقليم، صادف هذا المركب سوء الطّالع حيث ارتطم بيابسة الشطّ في شهر سبتمبر عند المكان المُسمّى رأس بوجدور في السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب (كذا) ولم ينجُ هذا المركب من قدَره المحتوم، كما لم يتمكّن من التخلّص من النتائج التي ترتّبت عن هذا الحادث”.

إسبانيا تُناشد عاهلَ المغرب عام 1784 لإنقاذ الصيّادين الكنارييّن

وممّا جاء في هذه الرسالة كذلك: “ولقد بثّ هذا الحادث الرّعبَ والهلعَ في ما يقرب من ثمانين شخصاً من بينهم نساء، وآباء، وأطفال ليس لهم من عائلٍ سوى هؤلاء البحّارة المنكوبين” وتضيف الرسالة بالحرف: و”فيما يلي قائمة هؤلاء الذين خلّفت نكبتهم أثراً بليغاً في قلوب جميع (المستشارين) في هذا المجلس الجزيري الذين طلبوا منّي أن أخبركم بهذا الأمر، والذي أنفّذه وأنا أشعر بمشاعر الأسىَ والحزن، وَاعِزِي في ذلك هو ما نسعىَ إليه من تطوير وتنمية لقطاع الصّيد البحري”.

ويضيف الحاكم العسكري، الجنرال ماركيز دي برانثيفورتي، في رسالته إلى الوزيرالأوّل الإسباني (الكوندي فلوريدا بلانكا) قائلاً: “وأرجو من معاليكم التفضّل بإشعار جلالة الملك حتى يطالب عاهلَ المغرب باسترجاع هؤلاء الأشخاص لتعمّ السكينة قلوبَهم وأهاليهم وذويهم نظراً لما جُبل عليه جلالتُه من شفقة فطرية” (تجدر الإشارة أنّ هناك نسختين إثنتيْن من هذه الرسالة ضمن الرّزمة المذكورة).

وفي ذات السّياق، يُخبر القنصل الإسباني في المغرب، (خوان مانويل غونساليس سالمُون)، كذلك الوزير الأوّل، (كوندي دي فلوريدا بلانكا)، بتاريخ 18 ديسمبر من السنة نفسها مشيراً إلى أنه: “في السّابع من هذا الشهر كان قد كتب إلى ملك المغرب حول مسألة 27 بحّاراً كناريّاً الذين جنحت سفينتُهم في المنطقة الآنفة الذكر”، ويعود تاريخ جواب الوزير الأوّل الإسباني، (كوندي دي فلوريدا بلانكا)، عن رسالة المركيز برانثيفورتي، إلى 25 يناير 1785 وقد جاء فيها ما يلي: “جواباً على رسالتكم في 3 نوفمبر التي تتعرّض لنكبة المركب الكناري (نويسترا سينيورا دي لاس أنغوستياس) الذي كان قد غادر جزيرة غران كناريا في نهاية شهر أغسطس، والذي ارتطم في رأس بوجدور قبالة السّواحل الإفريقية، يمكنني القول إنّ قنصل صاحب الجلالة في طنجة، (دون خوان مانويل سالمون)، هوعلى علم بهذا الحدث المُؤسِف، وقد حاول التعرّف بشتّى الوسائل على مكان تواجد البحارة السبعة والعشرين الذين كانوا على ظهر المركب الإسباني المنكوب، وقد علم فيما بعد أنّهم يوجدون في أماكن غير بعيدة من مكان الحادث تقع بعضها تحت سيطرة مولاي عبد الرّحمن، نجل ملك المغرب، الذي كان يرفض الانصياع لنفوذ والده (كذا)، كما تقع أماكن أخرى تحت هيمنة بعض الخواص من سكّان المنطقة، كما يوجد بعض هؤلاء في أماكن موغلة في الصحراء”.

وتشير الرّسالة إلى أنه، حتى وإن لم يصل نفوذ عاهل المغرب إلى بعض الأماكن النائية، إلاّ أنّه بهدف التوصّل إلى إطلاق سراح هؤلاء 27 بحّاراً، فإنه كان لابدّ ولا مناص من مناشدة حماية العاهل المغربي ودعمه في هذا المسعىَ حتى ولو استدعى الأمر استعمال عدّة وسائل أخرى غير مباشرة.

وتؤكّد الرّسالة أنّ تلك كانت هي رغبة ملك إسبانيا رأفةً بهؤلاء العاثري الطالع، وإشفاقاً على عوائلهم وذويهم، وقد أصدر تعليماته للقنصل المذكور لمتابعة هذا الموضوع عن كثب وبعناية خاصّة.

من أعلى اليمين: الدكتور ماريانو أرّيباس بالاو والسلطان المولى محمّد بن عبد الله وكوندي فلوريدا بلانكا وماركيز دي برانثيفورتي وخوان مانويل غونساليس سالمون

العاهل المغربي يستجيب ويأمر بإنقاذ البحّارة

وبتاريخ 15 يناير 1785، يخبر القنصل الإسباني بمدينة طنجة، الكونت فلوريدا بلانكا، بما يلي: “إنّه من نتائج الاتصالات التي أجريتها بتاريخ 7 ديسمبر الأخير لدى جلالة ملك المغرب حتى يعمل على إنقاذ و تحرير هؤلاء 27 بحّاراً كنارياً الذين كانوا في حوزة عرب واد النّون والذين صادفهم سوء الحظّ وارتطموا بذلك السّاحل، فإنّ عاهل المغرب قد أجابني على ظهر رسالتي نفسها أنّه قد أصدر أوامره لهذه الغاية وأنه بعد أن يصل هؤلاء إلى حضرته العليّة فإنّه سوف يعمل على إرسالهم لي”.

وفي تاريخ 23 فبراير، يكتب الوزيرالأوّل الإسباني، الكونت فلوريدا بلانكا، إلى المركيز دي برانثيفورتي، الحاكم العسكري لجزرالكناري، حول الموضوع نفسه قائلاً: “تتضمّن النسخة المرفقة خبراً مفادُه أنّ القنصل العام قد أبلغني ضمن رسائله الأخيرة حول إطلاق سراح بعض الأسرى الكناريين الذين غرقت سفينتهم في شهر نوفمبر في تلك السّواحل، والأمل في أن يلتحقوا جميعهم بمنازلهم سالمين، وإنه لمن دواعي سروري إبلاغكم بهذه الأخبار حتى تعملوا بدوركم على إبلاغها لمجلسكم ولسائر الأشخاص الذين يعنيهم الأمر”.

وبتاريخ 16 مارس، يوجّه الجنرال الحاكم العام الكناري الرسالة التالية مجيباً الوزير الأوّل الإسباني، الكونت فلوريدا بلانكا قائلاً: “إنّ الخبر الذي تفضلتم معاليكم بإبلاغي إيّاه بتاريخ 25 يناير الأخير حول العناية الفائقة، والمساعي الحميدة التي اضطلع بها قنصل صاحب الجلالة بمدينة طنجة بغاية العمل على إطلاق سراح 27 رجلاً الذين كان يتألّف منهم طاقم مركب (نويسترا سينيورا دي لاس أنغوستياس)، الذي ارتطم في رأس بوجدور الواقع على السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب (كذا)، كما أنّ الاهتمام البالغ الذي أبداه صاحب الجلالة الذي أصدر تعليماته ليحاط هذا الأمر بالعناية الخاصّة، كلّ ذلك كان له الأثرالبليغ في هذا الإقليم، ونظراً للعطف الذي يشعر به جلالة الملك في قلبه الطيّب فقد قمتُ بإبلاغ المجلس الجزيري (Consejo Insular) وكذا عائلات هؤلاء المنكوبين بالأمر الملكي، وقد أكّد لي ممثّلهم في هذه الجزيرة أنّ الدموع قد انهمرت من عيونهم أمام الملأ فرحاً واستهلالاً بهذا الأمر الملكي، وقد صاحت الحناجر بالدّعاء له بطول عمره الغالي وهو ما يرجوه دائماً من العليّ القدير جميع الذين يتشرّفون بخدمة جلالته في هذه الجزر”.

رجوع البحّارة إلى أهاليهم سالمين

وجاء في هذه الوثائق: “وهكذا يتّضح لنا من خلال هذه الرسائل كيف أنّ مساعي القنصل الإسباني في المغرب قد توّجت بالنجاح بفضل مساعدة ملك المغرب”. وتشير هذه الوثائق عرَضاً كيف أنّ مولاي عبد الرحمن، نجل السلطان، قد عاد إلى بلاط والده ليطلب منه الصّفح والغفران- حسب المصدر أعلاه- وقد أسهم هذا الحدث في التوصّل إلى النهاية السّعيدة للبحّارة الكنارييّن.

ونجد ضمن هذه الوثائق رسالة للقنصل الإسباني، (مانويل غونساليس سالمون)، موجّهة للوزير الأوّل الإسباني، (الكونت فلوريدا بلانكا)، جاء فيها: “أمس وصل إلى هذه المدينة (يقصد طنجة) سيدي الطّاهر عبد الله فنّيش الذي سلّم لي عشرة إسبانييّن من البحّارة الذين كانت قد غرقت سفينتهم قرب نهر واد النّون، وسوف أعمل على أن يبحروا على البارجة الوطنية التي توجد بهذا الخليج لشحن القمح إلى قادس (Cádiz)”.

وتضيف الرّسالة نفسها: “هؤلاء الناس يوجدون في حالة جيّدة، وهم يرتدون أرديةً متواضعة، وكان العاهل المغربي، كما أخبرت معاليكم من قبل، قد أمر بتنظيفهم  والعناية بهم عندما استقدموهم إلى المغرب، وأنه في واد النّون لم يبق هناك سوى كناريّ واحد في مقتبل العُمر، حيث حكى لي هؤلاء البحّارة العائدون أنّه آثر البقاء والمكوث هناك بعد أن أرغمه مولاه على ذلك مهدّداً إيّاه”، إلى أن يقول: “وإنّه من الصّعوبة بمكان الآن استرجاعه”.

ويشير القنصل الإسباني في الرسالة نفسها إلى أن: “اثنين من هؤلاء البحّارة قد توفّيا هناك، وأنه إذا أضيف 14 بحّاراً الذين سبق أن سلّمنا إيّاهم صاحب الجلالة ملك المغرب إلى 10 المذكورين وإلى 2 اللذين توفّيا هناك، وواحد مكث هناك، يكون الحاصل 27، وهو مجموع  الصيادين الذين كانوا على ظهر المركب الكناري عندما غرق في ذلك المكان”.

وتجدر الإشارة أنّ جميع هذه الوثائق والمعلومات قد استُقيت بالحرف من كتاب الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي، قسم كنارياس، شمال غرب إفريقيا المجلّد الثالث (صفحة 54) الكائن بمكتبة بلدية جزيرة “غران كاناريا” بأرخبيل الخالدات.

سيادة المغرب على صحرائه على امتداد التاريخ

ونذكّر فى هذا الخصوص أنّ مديرة الوثائق الملكية الاستاذة  بهيجة سيمو، كانت قد قدّمت بدورها فى التاسع من مارس 2024 ضمن محاضرة قيّمة ألقتها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط: “وثائق تاريخية أخرى تثبت سيادة المغرب على الأقاليم الصحراوية منذ القدم، وتعكس حضور الصّحراء في منظومة الحُكم على غرار باقي مناطق المملكة.

وسلطت  المحاضرة الضوء على الوشائج والصّلات التي ظلت قائمة بين مختلف مناطق المغرب على امتداد تاريخه، قديمه وحديثه” وتوقفت المؤرخة: “عند الاستنتاج البارز في هذا الاتّجاه، متجلّيا في كون الدول الثماني التي تعاقبت على حُكم المغرب، منذ عهد الأدارسة إلى الدولة العلوية، جُلّها من المنطاق الجنوبية ومن الصّحراء بمداها الممتدّ، أيّ من حواشيها وعمقها الإفريقي”.

وهكذا تؤكّد جميع هذه المراسلات التاريخية، والوثائق والمراجع والمظانّ الرسمية – كما يلاحظ القارئ الكريم – بما لا يترك مجالاً للرّيبة والشكّ، كيف أنّ الحُكّام الكنارييّن والإسبان لم يجدوا بدّاً، ولا ملاذاً، ولا مخرجاً، ولا مناصاً منذ وقت مبكّر من التاريخ، من مناشدة سلاطين المغرب من أجل الاستغاثة واسترجاع بحّارتهم المفقودين، الشيء الذي يثبت ويؤكّد بشكلٍ حاسمٍ وقاطع سيادة المغرب على امتداد التاريخ على مختلف مناطق وتخوم وأصقاع وسواحل صحرائه المسترجعة الى حظيرة الوطن.

هذه الوثائق التاريخية الإسبانية الرّسمية الثمينة التي تعود لعام 1784 التي قدّمناها أعلاه وسواها تُضاف إلى العديد من مثيلاتها من الوثائق والمُستندات التاريخية الأخرى فى نفس السّياق، وإلى الفيض الهائل من المراجع، والمصادر، والمظانّ، والأغراض الأدبية، والنصوص، والسّرديات، والرّحلات، والأسفار، والأشعار وغيرها من الوثائق التي لا حصر لها، التي تكتسي أهمية بالغة عن تاريخ تلك المناطق من الأقاليم والأرباض والضواحي والتخوم الصّحراوية..

كما أنها تبيّن بجلاء، والحالة هذه، مدى الوشائج المتينة، والأواصر المكينة، والصّلات الراسخة التي لا انفصامَ لعُراها الوثقى التي ربطت سكّان تلك الأقاليم الجنوبية الغالية بالوطن الأب على امتداد التاريخ هذا الوطن الذي آلىَ على نفسِه  إيلاءً ألاّ يُفرّط قطّ فى حبّة رملٍ من صحرائه المسترجعة إلى حظيرته إلى أن يَرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.

* *جميع الوثائق والمراسلات التاريخية المُدرجة ضمن هذا المقال أعلاه تمّت ترجمتها من مصادرها الأصليّة باللغة الإسبانية من طرف صاحب المقال.

* سفير سابق فى العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية، وقنصل عام سابقاً فى جُزر الخالدات، كاتب، وباحث، ومترجم، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- (كولومبيا).

https://anbaaexpress.ma/eryd3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى