من المؤكد أن الشعب الجزائري يتسائل اليوم في صمت وباستغراب إلى حين عن ذلك الذي حدا بنظامه العسكري أن يقامر على مدى نصف قرن من هدر المال العام ومن الخيرات وثروات ذلك البلد في خدمة أجندة ليس لأنها فقط عديمة الجدوى، بل هي سياسة فاشلة ومفلسة ضربت في العمق القوت اليومي للانسان الجزائري،
لقد بنى النظام الجزائري دبلوماسيته طوال خمسة عقود على معاداة المغرب ومحاولة ضرب أمنه واستقراره، لأنه كان يتوجس كثيرا منه كبلد يتوفر على كل المقومات اللازمة التي ترشحه بامتياز كي يصبح قوة ضاربة في المنطقة وخارجها، المغرب قوي بتاريخه الضارب في القدم باعتباره أقدم مملكة في العالم بمؤسسات وازنة قبل أن ترى النور في مناطق أخرى، كذلك قوي بجغرافيته التي لا مثيل لها في البعد الاستراتيجي باعتباره صلة وصل بين قارتين ويطل على واجهتين بحريتين إحداهما توصله بالقارة الثالثة التي إكتشفها الشريف الإدريسي قبل أن تطأها أقدام كرستوفر كلومب بفضل بحارة أمازيغ تأكد وصولهم إليها بعد عثور أنتروبولوجيين على لقى أثرية أمازيغية في جنوب القارة.
هذان الرصيدان التاريخي والجغرافي، قياسا بدولة أنشأها المقص الاستعماري، شكلا على الدوام الهاجس الأبدي والعقدة التي لازمت على الدوام النظام الجزائري يحيث لن يهدأ له بال مع وجود دولة من هدا العيار الثقيل ولن يستقر على حال كما لن يستتب له أمر ما لم تتم محاصرة ذلك البلد الذي اعتاد حكام الجزائر على الإشارة إليه فقط بأصبع السبابة من دون القدرة على ذكر إسمه إمعانا في حقدهم عليه.
نصف قرن من الهدر الميؤوس أنفق خلاله النظام الجزائري ما لا يحصى ولا يعد لا لشيء سوى من أجل إنهاك المغرب وإضعافه، انقلب السحر على الساحر، وأضعف النظام الجزائري نفسه وفي سبيله أهلك الشعب الجزائري، فيما المغرب خرج من تلك المؤامرات التي حيكت ضده قوي الشكيمة ليس فقط في مواجهة دولة الثكنات بل في إثبات ذاته في علاقاته مع الدول الوازنة التي أقرت بوجوده وثباته على المبدأ كقوة إقليمية يعتد بها في جميع المعادلات.
وبات المغرب في نظرهم مهاب الجانب بصدقه ومصداقيته واحترام التزاماته وعهوده، ووقف الجميع على حقيقة واحدة وهي أن المغرب لا يغمز جانبه كتغماز التين ومن أراد التعامل معه عليه أن يستحضر قواعد اللياقة والاحترام المتبادل، ويرفض أي ابتزاز من أية جهة كانت إذا كان هذا هو خطابه مع الدول العظمى خطاب الند للند، فليس له وقت أن يضيعه كي يرد على أشباه الدول التي لا تحترم عهودها والتزاماتها.
ومن أراد أن يقف على هذه الحقيقة، وأولهم النظام الجزائري، عليه أن يستأنس بالمسار الدي سلكته العلاقات المغربية الفرنسية من حالة مد وجزر ومن مساومات ظرفية استخدمت فيها الجزائر من طرف “ماماتهم فرنسا”.
وحاول النظام الجزائري آنداك أن يوظف في نفس الوقت باريس ضد المغرب لكن فرنسا كانت على بينة من قواعد اللعبة وحدودها، وتأكد لها بالملموس أن الطبقة الحاكمة في الجزائر ليس لها من المصداقية والشرعية ما يؤهلها إلى إقامة علاقات دائمة ومستقرة، مثل ما هو الحال مع المملكة المغربية، وتبين لها أيضا أن النظام الجزائري يتبع سياسات مناسباتية متقلبة قائمة على المزاجية وعلى التخبط، وخالية تماما من أي تخطيط محكم يستحضر ما هو آني ويوظفه لخدمة الأهداف المتفق عليها على المدى المتوسط والبعيد، ولعل ذلك هو الذي جعل فرنسا وإسبانيا وغيرهما من أن يعيدا حساباتهما مع هذا النظام الغارق في العزلة.
زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” خير دليل على قرائتنا للمشهد الدبلوماسي، الزخم الذي تميزت به تلك الزيارة والنتائج المبهرة التي أسفرت عنها جاءت بعد قناعة راسخة أنه لا بديل عن المغرب، قناعة تقاسمتها كل الأطياف السياسية في فرنسا على مختلف مشاربها، فهي ليست فقط وليدة الرئاسة الفرنسية فهي ثمار لسياسة دولة بأكملها من فئة حاكمة إلى رجال السياسة والإعلام ورجال الاقتصاد وأصحاب الشركات الفرنسية الكبرى.
وبالفعل توج ذلك من خلال مسار تدريجي مند شهر يوليوز المنصرم بخصوص الاعتراف والتأكيد على مغربية الصحراء بدءا بالرسالة التي بعثها الرئيس الفرنسي إلى صاحب الجلالة ووصولا إلى الخطاب التاريخي الذي ألقاه السيد إيمانويل ما كرون أمام البرلمان المغربي بغرفتيه والذي اختصر فيه كل المعادلة وهي أن “حاضر ومستقبل الصحراء لا يندرجان إلا في إطار السيادة المغربية”.
هذه الزيارة التي كان فيها الاستقبال قويا بطقوس مغربية صرفة تشهد عن عراقة المغرب وأصوله، شكلت ضربة موجعة للنظام الجزائري في تجلياتها البروتوكولية وفي مخرجاتها ونتائجها، كما ينتظر ترجمتها على أرض الواقع بما يشدد على مغربية الصحراء عبر استثمارات متنوعة في الأقاليم الصحراوية.
النظام الجزائري ما كاد أن يستعيد وعيه من الصفعة الأولى حتى لطمته يد الممثل الدائم للجمهورية الفرنسية لدى الأمم المتحدة الدي أكد على مسامع المندوب الجزائري دفاعه الواضح والصريح على مغربية الصحراء مما جعل هدا الأخير يفقد صوابه متهجما في ذلك على جميع المندوبين قائلا “إنني أعرف كل واحد منكم شخصيا وأنكم تتعرضون لضغوطات هنا في نيويورك ومن بلدانكم أيضا”.
يذكر أيضا أن المندوب الجزائري قد مني بفشل ذريع بعد رفض مجلس الأمن لتعديلين اللذين دعا ذلك المندوب إلى إدخالهما في مشروع أعدته الولايات المتحدة الأمريكية، هذان التعديلان يتعلقان بحقوق الإنسان الأول يخص زيارات مندوبية الأمم المتحدة لجقوق الإنسان إلى المنطقة، والثاني يتعلق بتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل حقوق الإنسان، التعديلان تم رفضهما من قبل مجلس الأمن، وعلى إثر ذلك تم الانتقال إلى التصويت على مشروع القرار كما أعده حامل القلم الولايات المتحدة الأمريكية، في هذه اللحظة فضل المندوب الجزائري الانسحاب من الجلسة ولم يشارك في التصويت الذي كان من المفترض أن يعارضه وبالتالي إنكشفت عزلته داخل المجلس، الانسحاب كان مدلا ومهينا بعد أن لاحقته أعين بعض المندوبين بسخرية وتهكم.
سلوك المندوب الجزائري المشين بالادعاء أن المندوبين يتعرضون للضغوطات هو سلوك يتنافى مع الأعراف الدبلوماسية ومع لغة الخطاب الدي وجب الالتزام به، الدبلوماسي لا يتعرض لضغوطات فهو لديه أصلا حصانة دبلوماسية والقانون الدولي في حمايته، بل هو مدعو إلى الالتزام بتعليمات بلده ولا يمكن له أن يتمرد عليها، والتعلميات ليست ضغوطات، المندوب الجزائري نفسه يتلقى تعليماته من رئيس هيئة الأركان الجنرال شنقريحة أي من أجل عسكري يحكم الجزائر كلها وليس من رجل سياسي أو دبلوماسي،ط.
والدعوة إلى إدخال حقوق الإنسان في اختصاصات المينورسو هي دعوة الجنرال شتقريحة، و”لو كان الخوخ يداوي لداوى راسو”، الجزائر هي آخر بلد في العالم يحق له أن يتحدث عن حقوق الإنسان، الاعتقالات بالجملة في صفوف رجال السياسة من المعارضين وكذلك رجال الإعلام، الانتخابات تفصل تفصيلا على مقاس عبد المجيد تبون، الاختطافات حدث عنها ولا حرج آخرها فضيحة المعارض هشام عبود الدي نجا في آخر لحظة بأعجوبة حينما انكشف أمر اختطافه من المخابرات الجزائرية في ميناء “مالقا” الإسباني.
وفوق كل هذا وذاك يورط النظام الجزائري نفسه في ضرب المبادئ التي يسوقها وعلى رأسها حق تقرير المصير وهو الحق الدي يتمسك به لتقسيم المغرب، ويحرم شعب “القبايل” من التمتع بهذا الحق ويمارس فيه مختلف أصناف القمع والكبت وملاحقة أبناء هذا الشعب بزجهم في السجون أو بالتصفية الجسدية عبر افتعال حرائق في غابات حيث عثر فيها على أجسام مفخمة من دعاة استقلال الإقليم.
وإن كانت هناك مؤاخدات في انتهاك حقوق الإنسان فهي تلك التي يعاينها المجتمع الدولي في مخيمات العار على التراب الجزائري من قبيل الاغتصابات وانتهاك الأعراض وقمع الحركات الاحتجاجية وفرض القيود على حرية التنقل ومنع القيام بزيارات إلى الأهالي في المغرب أو إسبانيا.
النظام الجزائري لا يمارس الضغوطات فقط، بل يتجاوزها إلى ما هو فظيع من خلال شراء الذمم والرشوة، ولولا حقائب الدولار لما دخلت جمهورية العجاج إلى منظمة الوحدة الإفريقية بعد أن تسلم “إدمو كودجو” الأمين العام آنداك نصيبه من مال الشعب الجزائري، النظام الجزائري ما زال يمارس سياسة الرشوة مع تونس قيس سعيد كما يستخدم سياسة العصا والجزرة مع دول أخرى وكذلك مع دول الساحل قبل أن تتمرد هده الأخيرة على النظام الجزائري.
بل أكثر من ذلك كيف يمكن فهم تجميد النظام الجزائري بعضا من أوجه التعاون مع إسبانيا حينما اعترفت وأقرت بصلاحية الحكم الداتي وبمغربية الصحراء، إن لم يكن ذلك من قبيل ممارسة الضغوطات على مدريد، المجال لا يتسع للرد على ما يدعيه المندوب الجزائري، فالتهديدات عديدة في الممارسة الجزائرية، فالسياق الدي تحدث فيه عن هذه الضغوطات دون مراعاة للقواعد البروتوكولية، فهي تسجل عليه وعلى حماقات النظام الجزائري.
تعددت المصائب على هذا النظام الجزائري، ويا ليتها جاءت لهذا الملعون فرادى، وتنوعت لتشمل الدبلوماسية والسياسة والرياضة وفي جميع المحافل الإقليمية والدولية ولم تسلم منها كدلك علاقات الجزائر الثنانية، معظم هده المصائب إصطاد النظام الجزائري نفسه فيها أي أوقع نفسه فيها بسبب اندفاعه اللامحسوب لغرض الإساءة إلى المغرب.
فالغريب أن ولاية عبدالمجيد تبون لم تكن سوى سلسلة من الإخفاقات واحدة تلو الأخرى ومع ذلك أرادت له المؤسسة العسكرية أن يظفر بولاية ثانية غصبا على إرادة الشعب الجزائري كما حدث في الولاية الأولى.
هده الظاهرة التي لا يمكن تسجيلها إلا في بلد اسمه الجزائر، تطرح سؤالا جوهريا أين هو الشعب الجزائري من هدا كله؟ وأين هو “النيف” الجزائري؟ وهل ما قيل عنه ببلد المليون شهيد قد يسمح لنفسه بأن يرضى بهدا الذل والهوان؟..
كثيرة هي الأسئلة الحارقة مطروحة على الأحرار في الجزائر، فأين هم رجالها، أعجبتني فيكم امرأة أمازيغية خرجت لتحطم جدار الصمت والخوف، فلكم فيها قدوة، ولعلها لحظة تصفية الحساب، فكونوا مع الحدث.