آراءمجتمع

في ذكرى استشهاد تشي غيفارا.. الثائر اللاتيني يغني للنيل

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

تطغى على الشخصية العامة دوره على الساحة أكثر من إبداعه، إذا كان قد خاض بعض أجناسه، وهو ما حدث للثائر الكوبي الأرجنتني غيفارا، إذ طغى دوره السياسي في الثورة الكوبية على كونه شاعرًا وقاصًا، نظم قصائد متعددة بدءًا من حبه لزوجته إلى قصائده الثورية والاجتماعية، ومن بينها قصيدة عنونها “أغنية إلى النيل”.

وقد عثرت على هذه القصيدة بالمصادفةً، لكنها لم تترجم إلى العربية، لهذا آثرت محاولة نقلها إلى لغة الضاد. وهي قصيدة مكثفة، تصور تلك الفترة التي كانت تعيشها مصر من تأميم قناة السويس بقرار من صديقه جمال عبد الناصر، واصفًا النيل في صور بلاغية صافية. وفيها ربط بين النيل وإفريقيا وما كانت تموج به من حراك ثوري، وأثر هذا النهر منذ فجر التاريخ والدروس المستفادة منه.

ربما لم يغمط حق كاتب مثلما حدث في حالة غيفارا، إذ تحول إلى أسطورة سياسية، إلى نصب تذكاري وشخصية خارقة للطبيعة، المحارب البارز، ما طمس غيفارا الحقيقي، غيفارا الإنسان، الكاتب ذي الفكر الثوري، وصاحب الأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كل هذا من خلال صورته المطروقة التي لم تفسح المجال أمام كونه أحد الشعراء المهمين، أحد أبرز دارسي ومنظري الفكر الاشتراكي. وقد صدر مؤخرًا كتاب يضم اشعاره وقصصه في بوليفيا.

تمر اليوم ذكرى استشهاد هذا الثائر الماركسي المولود في الأرجنتين الذي آثر الخط الثوري في أميركا اللاتينية على ممارسة الطب الذي درسه. شارك في حركات ثورية في القارة ووصل إلى أن أصبح شخصية رئيسة في الثورة الكوبية إلى أن تمكنت منه أذرع وكالة المخابرات المركزية الأميركية وقتلته في العاشر من سبتمبر عام 1967، ليصبح أيقونة ورمزًا في كل مكان وأصبحت صورته شارة عالمية ضمن الثقافة الشعبية.

كانت تجمعه بعبد الناصر علاقة طيبة، ما جعله يزور مصر مرتين. كانت الأولى في نهاية الخمسينات، بعد نجاح الثورة الكوبية، لدراسة تجربة الإصلاح الزراعي بغية نقلها إلى كوبا، وخلالها التقى بعبد الناصر، وأقام له حفل عشاء فى قصر القبة. إلا أن الزائر لم يكن جيفارا يحب قيود البروتوكول، وحاول عدة مرات تضليل مرافقيه ليذهب إلى المناطق الشعبية ويلتقي بالبسطاء.

جاءت الزيارة الثانية في فبراير 1965 ونظم عبد الناصر حفلًا أهدى فيه غيفارا وسام الجمهورية العربية المتحدة من الدرجة الأولى، وألقى بعدها على المصريين خطابًا عن الثورة الكوبية، وعن المساواة الاجتماعية والثورة الصناعية، ورافق غيفارا في زيارته بعض قادة الثورة الكوبية، وقد أخبر غيفارا عبد الناصر أنه يريد أن يتوجه إلى أفريقيا للقيام بنوع من النشاطات الثورية هناك.

وأخبره بأنه سيتجه إلى الكونغو لأنها أكثر بقاع الأرض توترًا، لأن جيفارا كان يريد عولمة ثورة أمريكا الجنوبية في جميع بقاع الأرض، فالتحرر والموت من أجل ذلك تلك هي العقيدة التي عاشقها غيفارا ومات من أجلها. بيد أن عبد الناصر نصحه بالتريث حتى لا يكون طرزان أبيض في غابات إفريقيا.

أترك بين يدي القارئ ترجمتي لهذه القصيدة للثائر الأميركي اللاتيني إرنستو تشي غيفارا:

أغنية إلى النيل

هائل هو ماضيك
بحر متمرد من المد والجزر
سيمفونية التماسيح التي لا تهدأ
أعطى إطارًا للمهندس المتجانس؛
صلوات الإنسان تنقذ مستقبله
من المفهوم الذي تعلمتَهُ عن الحياة
دمك اللزج
ملأ الأراضي بأغانٍ خضراء؛
آليتك للزخم الكوني
حملت إفريقيا عبر العصور
قبل أن تُبجلَ الثيران
لكن كم من الوقت نِمْتَ،
أربعون قرنًا حتى صرخة الشجاعة
هذا فقط قشعريرة عضلاتك الجريئة
إذا كنتُ أغني اليوم لأمس من حجر ميت
وأستحضر ذكريات طِيْبةَ،
الحاضرُ يظهرُ في ماضيك،
يعيش في سد أسوان
وفي السويس المُستردة
أغنية للصرخة الجديدة من حلقك الرنان،
لتكريم قعقعة خطى عظيمة
تنضم إلى مصيرها في غبار الصحراء،
أغني لليد القنوع بيقينها الحميم،
اليقين البسيط للبدوي الأخير.

في هذه الظروف الحالكة الظلام تحضرني صورة جمال عبد الناصر وأحدق الأفق الذي لا يبشر بالخير، فيخاطب خيالي مارواء الطبيعة، لأجد نفسي أتساءل: ألا من مُنقذ لهذه الأمة من الهلاك في غزة ولبنان؟! تحمل الريح صرختي وتعيدها في شكل صدى متحشرج من ألم اللحظة، من ضبابيتها، بينما تملأ الغربان أفق الحديقة التي أحدقها من نافذتي غارقًا بين أرفف مكتبتي باحثًا عن مخرج في كتب القدامى والمحدثين.

رغم هذا فإنني أرى بصيص أمل في شباب الأمة، فمن يقترب منهم رغم كأبة المشهد، يدرك أن هناك أملًا في خلاص الأمة، وهو ما لمسته في لقاء مع شباب مصر للحديث عن آفاق التعاون مع أميركا اللاتينية، من خلال مدرسة جنوب جنوب التي عقدت ندواتها مؤخرًا في عاصمة نور البشرية الحقيقية، القاهرة، التي ألقت بشعاعها لتنير الطريق للبشرية منذ آلاف السنين، بينما تتلمس طريقها نحو سلام دائم وعادل، فتخرج أشعتها عبر بؤريتها الجغرافية.

الشباب ينفثون في الأفق أملاً بينما تتعرض أرض الكنانة للتأمر، لقطع شريان حياتها القادم من الحبشة، وتطحن إسرائيل الأشقاء في الشمال وتدمر دولهم. رغم المشهد القاتم فإن الأمل يحدوني، أمل في مستقبل أفضل، مستقبل ينتصر فيه الحق ويحل السلام وتعود المياه إلى مجاريها والأراضي لأصحابها.

https://anbaaexpress.ma/h26k8

خالد سالم

أستاذ في المعهد العالي لترجمة الآداب والفنون.. أكاديمية الفنون القاهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى