آراءثقافة

الدلالة الخاصة للحرف.. في الشعر والتصوف

يُرجع الصوفية الحرف إلى النَّفس الرحماني، فهو منه وإليه، ولذلك جاءت حروف العربية ثمانية وعشرين حرفًا، بعدد مخارج الحروف، وبعدد مَنَازل القمر

د. أحمد بلحاج آية وارهام

تتمثل ماهية الحرف ـ داخل المتن الصوفي ـ في أنه ما يخاطبك به الحق من الإشارات، والخطاب هنا تأسيسٌ لعالم تُعْتَبَرُ فيه الحروف أُمَّةً من اُلْأُمَمِ ،هي أفصح لسانا و أوضح بيانًا.

بمعنى أن عالمَ الحروف هو عالم الوجود في مستوَيَيْهِ:الخَفِيِّ و الجَلِيِّ، و أن الوجود ما هو إلا حرف، وهذا الحرفُ مشاهدُ و أشكالٌ تُرينا الوحدة في عين الكثرة، والكثرةَ في عين الوحدة.

فإذا كانت الألف رمز انفصال وتعالٍ دالًّا على عالم الجبروت، فإن الباء هي رمزُ اتصالٍ دالٌّ على عالم الشهادة والظاهر (= عالم الناسوت)، ولها من المراتب المرتبة الثانية من الوجود، أي أنها بعد مرتبة الألف التي لها الأَحَدية، فهي ثانية الوحدانية، ولذلك اختُصَّت الأولوية (= أول الظهور)، وليس لأحدٍ ذلك المقام.

ويتجلى من هذا أن الألف ـ عند الصوفية ـ ليس بحرف، و إنما هو قَيُّومُ الحروف، يدخل فيها ولا تَدْخُلُ فيه، يُبْدِعها و لا تُبْدِعُهُ، ولذلك كانت له الأحدية باعتباره رمزا للذات الإلهية.

أما الباءُ فَبِهِ ظهر الوجود كله، والباء في اللغة هو النكاحُ والتوالدُ. والياءُ حرفٌ يتضمَّنُ الذات والروح، ويرمز إلى حالة الكائن في لحظةِ مفارقة الحياة. والواو رمزٌ لأجِنَّةِ الوجود المستَكَنَّةِ في الرحم الكائنة بين الكاف والنون، فهو شبيهٌ بها صورةً ،فإذا قالت القدرة (كُنْ) فإن هذه الأَجنة تَبْرُزُ إلى الوجود، وتظهر في (يكون)، وعلى هذا الأساس اعتُبر الحرف جسدا روحيا، وقامت الأسماء والعلوم عليه، إذ لا تسميةَ خارج الحرف، ولا مفهوم خارجَ استراتيجية التسمية، ولا علمَ خارج المفهوم.

ورغم تعدُّدِ ألقاب الحروف ووظائفها فإن مراتبها لا تخرج عن ثلاث؛ هي: الحروف الفكرية (=الخيالية)، أي تخيلاتك التي لا حدود لها.والحروف اللفظية (= النفسية) التي تُردِّدُها في نفسك، ولا يعرفها أحدٌ. والحروف الرقمية (البيانية) أي الخطية التي نكتب بها. وكل هذه الحروف لها وجودات متعددة، وأشكال مختلفةٌ وقيمٌ روحية وعددية، وأقسامٌ أخرى لا تُحصى. وهنا يحق التساؤل: من أين جاء الحرف؟ وكيف اكتسب كل هذه الأبعاد والمعاني والظلال؟

يُرجع الصوفية الحرف إلى النَّفس الرحماني، فهو منه وإليه، ولذلك جاءت حروف العربية ثمانية وعشرين حرفًا، بعدد مخارج الحروف، وبعدد مَنَازل القمر، ثم إن هذه الحروف التي هي من النفس الرحماني قد تَجَلَّتْ بالعشق، فخُلِقَتْ مراتب الوجود الثمانيةُ والعشرون على عددها وموازاة لها، كل مرتبة يتوجَّهُ عليها اسمٌ إلهي ويوازيها حرف من حروف الهجاء، فمثلا: المرتبة الأولى التي هي العقل الأول (=القلم) يوازيها حرف الهمزة؛ الذي هو حرف خالصٌ عند الصوفية، خلافا للغويين والنحويين، والمرتبة الأخيرة هي مرتبة المراتب يوازيها حرف الواو.

إني أتهيب الحرفَ حين أريد أن أستعمله، لكوني أعلم أن هذه الأمة التي لا تموت (الحروف) ستُحاسبني إن أسأتُ التصرفَ، ولذلك أستغربُ مِمَّن يُطلق الألفاظ في الهواء كما تُطلق الحجارة، ولا يُقيم وزنًا للدلالة الحافَّة والدلالة الكُلاَّنية. فمثلا: الصوفي، والمتصوف، والمستصوف، ليست في درجة دلالية واحدة كما هو مشاعٌ في الغالب.

فالصوفي هو مَنْ أتقن فَنَّ الحياة، وانفتح على اللانهائي، وعلى العالم والكائنات، وكل مفردات الوجود (=كلمات الوجود) لتحسيس الإنسان بعلاقة جديدة مع العالم، و لإرجاعه إلى قلب هذا العالم و أشيائه، كي يتحوَّلَ ويتجدَّدَ تبعًا لتجدُّد التجليات الإلهية.وبذلك يكون انفتاحُه ولا تناهيه، بحيث يغدو لا مكانَ له ولا وقتَ. فالمكان عنده يصير متحركًا ومتغيرًا ومتجددا، لكل لحظة مكانُها، كما أن لكل صورة معانيها المتميزة، ولا تشابُه مطلقا بين الأمكنة، كما أنه لا مِثْلِيَّةَ بين الكائنات والصور الوجودية.

وبهذا الوعي يكون سلوكه الصوفي سلوكا حداثيا، وفنا للحياة ممكنا، وتكون رؤيته رؤية جمالية مغايرة للرؤيات السائدة، لأنها توجد اهتماما بما يقع وراء الكائن البشري، وبكيفية تحقيق الإنسانية الكاملة للإنسان Potential Humanness، لخلق ثقافة (الأوم Om) التي بواسطتها يمكن الجمع بين كل المعتقدات الدينية من أجل تشجيع السلم والروحانية في كل المعتقدات والمِلَلِ والنِّحَلِ عن طريق التفاهم والتجاذب الجمالي.

أما المتصوف فهو ذلك الشخص الذي تَفَعَّلَ السلوك الصوفي، وانسحب من الحياة، مؤملاً خَلَاصَ نفسه لا غير، قامعا الجسدَ بلذةٍ احتقاريةٍ، قاطعا صلته بالحياة على الأرض، مُرَحِّلًا الحقيقة عُلويا، ضاربا بآلاء الله المتجلية على الأرض عُرض الحائط، لا هَمَّ له إلا أَنْعُمُ السماء. لا يرى غير التجلي الإلهي الذي يومن به، أما غيره من التجليات الإلهية التي يومن بها الآخرون فهي لا تعنيه، لأنها في اعتقاده زيغ وانحراف. وهذا الضرب من المتصوفة هو الذي ابتليت به الحياة العامة قديما وحديثا.

ويبقى المستصوفُ، وهو ذلك المتَطَفِّلُ على الميدان، والمتقنِّعُ بقناعه، قصد اجتناء مكاسب مادية، ومراتب سلطوية روحية. فهو منتهزٌ وذئب في جلدِ حملٍ، يسير مع كل الرياح، ويركب كل الأمواج للحصول على متاعِ الدنيا الذي هو غايَتُه من اُسْتِصْوَافِهِ.

والذي يكشفُ بواطن الثلاثة هو لغتُهم، فالصوفي تكون مواجده ومواقفه وحالاتُه أثِيرِيَّةً، فتنتج عنها لغة خاصة لها نظامها الإشاري السيميائي، وحقلها الترميزي والاستعاري الخارج عن الحقول التي أَلِفَتْ اللغة حراثَتَها. والمتصوف تكون لغته استنساخية نمطية مكرورة مُقَلِّدَةً.

أما المستصوف فإن لغته تكتال من الرياح والأمواج والمواضعات التي يركبها، فتجد فيها انحيازا لكل هذا، لا انحيازًا لحرارةِ التجربة ونارها الجوانية.

https://anbaaexpress.ma/tnp87

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى