أحمد متراق
هي العبارة الأهم والمحورية التي جاءت في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية من السنة التشريعية الرابعة.
حيث قال جلالته أمام برلمانيي الشعب: “لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف. ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة رد الفعل، إلى أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية”.
عبارة تلخص مسارا طويلا دام لأزيد من ربع قرن من العمل على تغيير العقلية والتوجه العام لتعامل الدولة المغربية مع ملف الصحراء لنصل لما وصلنا له اليوم..
فمنذ بداية النزاع مع البوليساريو بعد خروج المستعمر الاسباني من الصحراء المغربية سنة 1975 ظل المغرب في وضعية المدافع والمدبر للأزمة دائما، عبر التفاعل مع ما كانت تقوم به الجبهة وصنيعتها الجزائر وداعميها ليبيا وكوبا وغيرهم من مناورات واستفزازات دائمة سياسيا وعسكريا، دشنها بتشييد الجدار العازل على المنطقة الحدودية مع موريتانيا على مسافة تتجاوز 2700 كلم لإحكام المراقبة وتضييق الخناق على ميليشيات البوليساريو المسلحة الذين قرروا حمل السلاح في وجه المغرب.
بعد ذلك وفي ظل التوغل الكبير للوبي الجزائري في العمق الإفريقي ودعمه للبوليساريو مكنته من كسب اعترافات عديد الدول بالجمهورية الوهمية، وتوج ذلك بالانضمام الرسمي كدولة عضو المنظمة الوحدة الإفريقية..
هذا الانضمام قابله بالاعلان الرسمي عن انسحابه من المنظمة سنة 1984.
سنة 1991 تم الاعلان عن وقف إطلاق النار، ودخول الأمم المتحدة للصحراء من أجل تنظيم استفتاء حالت دون إقامته عدة اختلالات، أبرزها عدم قبول الجبهة باغتبار الصحراويين الوحدويين كمصوتين.
ليظل الوضع قائما على ما هو عليه وتعود الأمور لطاولة المفاوضات داخل أورقة الأمم المتحدة لكن بدون وجود أي مبادرة مغربية تواجه الأطروحة الانفصالية المنادية بالاستقلال.
سنة 1999 وبعد اعتلاء الملك محمد السادس نصره الله عرش المملكة، كان واضحا ومنذ البداية بأن الحركية ستعود للملف لكن بنفس جديد ورغبة ملكية قوية في خلق دينامية برؤية جديدة وهي ما وصفه جلالته اليوم “بمسار التغيير”
فكانت أولى المؤشرات عن هذا التحول والمسار، إعفاء وزير الداخلية والمتحكم الأول في ملف الصحراء آنذاك “إدريس البصري” من مهامه، تلتها الخطوة الذكية بالإعلان عن تأسيس المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية سنة 2005، هذا المجلس الذي وازن في تركيبته بين الكفاءات الصحراوية الشابة والمثقفة، وأخرى من شيوخ الصحراء من خبروا أسرار وتاريخ المنطقة وخباياها.
فكانت كهيئة استشارية ملكية يعهد لها النظر وتقديم الاقتراحات وإبداء الرأي في المستجدات المرتبطة بالملف وأيضا في البرامج التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بها الدولة بالأقاليم الجنوبية، كما تم اعتمادها كهيئة شريكة في المفاوضات مع البوليساريو.
سنة 2007 سيتوج المغرب بقيادة جلالة الملك “مسار التغيير” هذ التحول السياسي في مسار تعامله مع ملف الصحراء من خلال تقديم ولأول مرة مبادرة ملكية جادة وطموحة كحل واقعي، عملي وصريح لملف الصحراء تمثلت في منح الصحراويين حكما ذاتيا تحت السيادة الملكية لتدبير شؤونهم الخاصة بشكل توافقي.
ومنذ ذلك التاريخ تحول مسار الملف بشكل كلي فتغيرت لغة الخطاب المغربي الذي اعتبر المبادرة الملكية الحل الوحيد والأوحد للنزاع، وتحرك في هذا السياق خارجيا ليجذب اعترافات الدول ودعمها لهذا المقترح خاصك الدول الأعضاء داخل مجلس الأمن.
كانت للجولات المكوكية وسياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي والديني، التي نهجها الملك محمد السادس داخل القارة الافريقية ابتداء من سنة 2010 دور فعال وأساسي في توالي الاعترافات والنجاحات الديبلوماسية بالمنطقة، توجت بعودة المغرب سنة 2017 لحضنه الإفريقي كدولة عضو في الاتحاد الإفريقي وهو ما عزز من مكانته وقوته في المنطقة، كما حافظ المغرب على شركاءه التقليديين وعلاقاته مع فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الخليج أساسا.
سياسة فتح القنصليات والتمثيليات لأكثر من عشرين دولة إفريقية وعربية بمدينتي العيون والداخلة كان لها تأثير قوي هي الأخرى، حيث جسدت بالملموس وممارا يدع مجالا للشك الدعم القوي الذي تحظى به الأطروحة المغربية.
سنة 2020 كانت حاسمة بشكل كبير في هذا الملف بعد عملية تحرير معبر الكركرات والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، لتستمر سلسلة الاعترافات الدولية من مدول عظمى وقوية سياسيا واقتصاديا كألمانيا وبلجيكا واسبانيا وكانت آخرها فرنسا.
هكذا إذن تحول المغرب خلال الربع قرن من حكم الملك محمد السادس من التدبير وانتظار الفعل لمقابلته برد الفعل مع قضية الصحراء، إلى سياسة التغيير والمبادرة والانفتاح.
وهكذا حصدنا نجاحا تلو نجاح بفضل تظافر الجهود والعمل وفق رؤية ملكية سليمة في ملف عمر طويلا داخل أروقة مجلس الأمن.
* كاتب، وأستاذ باحث في العلوم السياسية
تعليق واحد