كل شيء أضحى وبات ومازال ناقص وباهت، وَحدهُ الفقر والقهر 100% في غزّة، وكل يوم جديد كان شعار جوال، ومن الحرب فصاعداً أصبح شعار غزّة، ففي القطاع كل يوم جديد من يأس ومزيد من الإحباط والمعاناة والتشرُّد والموت والبؤس..!
وإذا كانت الحاجة أم الاختراع فهنا بغزّة الحاجة بنت كلب، أطفال فقدوا عذريّة طفولتهم على قارعة الطرقات وبين كراتين المساعدات وفي طناجر ‘التكيّات’ وفي لغة الحرب جمع “تكيّه” أي مكان يتجمع فيه الناس فوق بعضهم البعض وتسمع من بعيد صوت حناجرهم وطناجرهم وصوت أمعائهم الخاوية وهي تكفر بالعدس وتحمد الله على رز بنكهة القدرة أو كما يسميها الناس “قدرة كذابه” و”مقلوبه كذابه” و”فَتَّه كزابة” وهنا “كزابه” هي كلمة السر والاختصار لبدون لحمة ومن دون جاج!’.
حتى أن صينية الجاج بالبطاطا الكزابه هي الأخرى لم يعد يَقوى عليها الناس بعد اختفاء الدجاج وارتفاع سعر البطاطا وأضحت البطاطا الحلوة هي الحل والتحلايه لانخفاض سعرها قياساً بأسعار الخضار النار وشحها واختفاء كثيرها في الأسواق!
لا شك أن وجود “التكيّات” في ظروف الناس مهم وقد يسد جزء يسير من حاجة الناس لكن الأهم هو احترام آدمية الغزي وكرامته فهي آخر ما تبقى لنا كغزيين بعد أن فقدنا غزة وكل شيء في غزة..!
والوقت الذي نعيش ليس وقت الدعايات، فليس هناك وقت لشيء أو كما أردد دوماً إحنا أصلاً مش فاضيين ورانا حرب! ولكنه وقت المسؤوليات، أن يسأل فيه البعيد عن القريب، الصديق عن الصديق، الآمن في بيته وسِربِه عن الخائف الجائع الضائع في غزة..!
بعد عام على الحرب، على الخيمه، على الخيبه، مازال الغزّي مُجبراً على الإبداع في توفير مستلزمات بقاءه، في ظل ظروف خشنه وقاسيه، فما يحدث لا تحتمله طاقة بشر، وضع يكاد لا يصدقه عقل، ولا يخضع لقواعد منطق، حالة أقرب للجنون، كل شيء يكاد مجنون في هذه المدينة، الأخبار مجنونة، الأسعار مجنونة، كل شيء هنا مثير للجنون، وللكآبه..!
وضع لا يوصف أقل ما يقال فيه أن الغزّي عاد فيه الزمن إلى أدنى سلم الأولويات في “هرم ماسلو الشهير” حيث الاحتياجات البدائيه من مأكل ومَلبس ومَسكن ومَزفَت، لم يكن في أسوء كوابيس أهدافنا ولا سلم أولويات حياتنا أن نطمح بما يتم تقديمه من مساعدات ومعلبات وأغطيه وشوادر وخيام، لقد كان طموح الغزّي ولازال أن يعود لبيته، لعمله، لمصدر رزقه، لآدميته لكرامته، لمستقبله، لحياته الطبيعية التي تحياها كائنات الكوكب الظالم، فنحن بالمناسبه كائنات طبيعيه لسنا خارقين للبشر نحب الحياة والرقص والعمل والسفر والتعليم والفرح ونحب أن نعود لطبيعة الكائنات الحية في ممارسة ألف باء الحياة..!
رغم قتامة المشهد، وبؤس الواقع، والأفق المسدود والمستقبل المجهول، مازال هنا في غزّة جنود مجهولين كوادر طبيه تنام من تعبها على مجازر، سائقي وضباط إسعاف بحاجه لمن يسعف قلوبهم من هول الأحياء والأشلاء، عمال نظافة بأبسط الامكانات، جرافه تزيل الركام وتفتح ما تبقى من أمل وشارع، دفاع مدني بحاجة لمن يدافع عن امكانياته المتواضعه، عمال وأسلاك اتصالات تُرسل بصيصاً من انترنت، ومبادرين في مساعدة الناس، وإغاثات صحيه ومعيشيه، وتجربة تلفت الانتباه في زحمة التكيّات مطابخ غزة العزّة برعاية مؤسسة مجموعة الاتصالات الفلسطينية ومجموعات باديكو التي حَرِصَت ولازالت على تنظيم وتقديم خدماتها بصمت ضمن معايير انسانيه محترمه في مناطق متعددة على مستوى القطاع في محافظات الشّمال وخانيونس والوسطى بالنصيرات ودير البلح..
والتي بحسب اتصال وتواصل صديق الحرب من نابلس العزيز بشار المصري “أبو تمارا” مؤسس سلسلة المطابخ تتيح تقديم الاستفادة لعشرات الآلاف من النازحين وأن السعي قائم لتقديم مليون وجبة بشكل يومي، من هنا فإن محاكاة هذه التجربة وانضاج غيرها من المبادرات من خلال القطاع الخاص المحلي بالضفة الغربية وداخل الداخل 48 والقطاع الخاص الفلسطيني والعربي بالخارج هي مساهمه وطنيه محدودة لكنها مطلوبه في توفير احتياجات الناس وتعزيز بقاءهم.
فالمسؤولية في هذه الحرب فردية وجماعية، مُؤَسَّسِيّه ووطنيه، وعلى كافة المستويات وهي ليست مسؤولية اجتماعية بقدر ما هو واجب انساني ووطني وأخلاقي ليس على طريقة الطالب الفاشل في أداء واجبه، ففي المدرسة كان هناك من الطلاب من يؤدي واجبه تأدية الطالب العادي على مضض، وكان هناك من يتقاعس ويرسب ويفشل، وهناك دائماً من يتميز في أداء واجبه وهذا ما يجعله يتفوق أمام أقرانه ومدرسيه ومحبيه..
وفي مدرسة الحرب هناك من تَفَوَّقوا وهناك من رسبوا وما زال الامتحان مستمراً إن بقي في العقل والعمر والقلم بقيّه..!