قد نفهم بعض قواعد العقل، لكن لا زال العقل حاضرا بفعاليته على اختلاف أنماطه، لكنه يظل غائبا في التعريف والماهية. هل لأنه أوضح الواضحات فلا يُعرّف أم لغاية تعين إدراكها؟
ماذا لو عرف الإنسان حدود العقل ومكمنه؟ أفلا يكون ذلك طريقا لاستئصاله، لخلعه، لزرعه؟ ما معنى أن نضع موازين للمعرفة في حدود عقل عصيّ عن التعريف؟ هل العقل هو قواعده؟ وهل هو هو أيضا في حدود قواعده؟ أم هو لاقط هوائي، في واحدة من روائع القول الموراني؟ وهل قواعده إلاّ مستوى من التعاقلية: عقد تعاقلي به ترتسم سيادة العقل والمعرفة الناتجة عن التعاقل؟
وحده الحدس كما ذكرنا مرارا يملأ الفراغ الذي تثيره تساؤلاتنا، ريثما نقبض على تعاقل جديد في حدود ما يتحفنا به الحدس. ليس الحدس قضية أساسية في تعاقلاتنا البرهانية في إطار قواعد العقل الزّمنية فحسب، بل يجب أن تصبح المعرفة أيضا في حدود الحدس، يل وحب أن نضع العقل نفسه في حدود الحدس الذي يمنحه أفقا للتمدّد. العقل يكبر بقدر قوة الحدس وفعاليته، ويصغر بقدر اضمحلال الحدس ونذرته.
لا زالت ظنون البشر مهيمنة على نشاطهم الذّهني، لا زالت مساحة الكسل في هذا الذّهن تحت طائلة القياس الظّني.
والأخطر في كل هذا أنّهم يعتبرون أنّ ذلك من العقل، وحتى العقلاء أمام هذه الفوضى هم عاجزون عن إيقاف صبيب الأقيسة الظنية المهيمنة على النظر والعمل في حياة البشر.
هذه الحفنة التعاقلية كما تبدو في قطاعات علمية كالرياضيات والعلوم الدقيقة، هي قطاع محدّد ومحروس بقواعد يدخلها الإنسان وهو يدرك عواقب خرق النسق، كما يدرك أنه متحلل من كل هذا متى خرج عن هذا القطاع، وهو أيضا عاجز عن ترييض كلّ نشاط الذهن في مجال العلوم الإنسانية.
هذه الفجوة بين العلوم الدقيقة وعلوم الإنسان، جرّأت على صعود نجم فوضى التعاقلية بشرط الاجتماع بوصفه موضوعا غير مجرد ولا هو فيزياء طبيعية، رخاوة الاجتماع الإنساني وديناميته تفرض ضربا آخر من التعاقلية، لكن في أي حدود يجب تأمّل حقيقة الاجتماع؟
وهل السوسيولوجيا حدّدت تلك الحدود واستوفت تلك القواعد؟ ماذا عن اللاّمفكر فيه في تلك الحدود؟
شكّل المنعطف الرومنسي حالة انعتاق من حدود العقل، بوصفها حدودا قلّصت من وفرة المعنى، قيّدت تدفّق الظاهرات إلى الواهمة كما لو أنّ العالم تعرّض إلى حالة خصاء. في المنعطف الرومنسي بدت المساحة أوسع لعبور ممرات المعرفة والسفر في عمق الظاهرات، وإنتاج معرفة بالنومين خارج الحذر الكانطي. منحت الخيال سلطة خارج فوبيا حدود العقل.
ما سبب ثورة العلم نفسها سوى التحرر من عقدة الإخفاق في القبض على حقيقة الأشياء، في المختبر يتراجع الكوجيطو وحدود العقل المحض، ليلتقي العلم بالخيال، وهو ما يدفعنا لاكتشاف رومانسية العلم، على أمل تحقيق رومانسية الفلسفة.
إنّ الفلسفة اليوم هي الأخرى تنتظر علاجا، وعلاجها أن تكتشف المستوى الأكثر حيوية من التعاقلية التي يتيحها فعل إعادة تفجير عصر التّأملّ الأكبر خارج حدود العقل الكلاسيكي، المُصالحة مع الحسّ المشترك بعد إعادة اكتشاف ما استبعده العقل الكلاسيكي من مصادر المعرفة الخام، اكتشاف اللحظة الخلاّقة والشجاعة الفائقة لتقبل العالم في ديناميته التركيبية،والحدس قادر على استيعاب التركيب.
إنّنا نكتشف العالم مفكّكا، كأحناط ميتة، لكنّنا سنجهل الوظيفة الخلاّقة للتركيب. إنّنا نعرف العاَلَم بعد اغتياله، كما نمارس العقل بعد اعتقاله. منذ متى فقدنا الشجاعة إزاء وجود طرّي يستفز حدوسنا؟وإلى متى سنبقى نخادع العقل بالعقل..