زرت الولايات المتحدة قبل أسابيع من الانتخابات الأميركية التي جرت في 8 تشرين الثاني 2016. كان دونالد ترامب ظاهرة جديدة على الطبقة السياسية في واشنطن وشخصية دخيلة على الحزب الجمهوري وتاريخه.
كانت الولايات المتحدة تودّع ولاية باراك أوباما، ويقدم حزبه الديمقراطي هيلاري كلينتون وريثة طبيعية لحكمه، ومرشّحة ذات حظوظ عالية أمام المنافس القادم من “بزنس” العقارات الكبير.
التقيت آنذاك بواحد من الباحثين الأميركيين، وكان شغل منصب مستشار الشؤون الإيرانية في وزارة الدفاع الأميركية أثناء ولاية أوباما الأولى. وقد بالغ في الحديث عمّا ستفعله هيلاري بعد فوزها وكأنّه حتميّ ويقين. وحين سألته عن سبب تأكّده من أنّها الفائزة، لاحظت في نظرته استغراباً من وجاهة طرح سؤال متشكّك من هذا النوع.
التقيت في وزارة الخارجية آنذاك أيضاً نائب مساعد وزير الخارجية، وكانت الوزارة تستعدّ لولاية “مسز كلينتون”. بعد أسابيع فاز دونالد ترامب وبكت هيلاري.
لا شيء مضموناً وموضوعياً وعلمياً محسوباً في أيّ انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة. وقلّما تطابقت استطلاعات الرأي مع مزاج صناديق الاقتراع النهائي، علاوة على فرادة النظام الانتخابي الذي حدث أن حمل إلى الرئاسة مرشّحين نالوا أصواتاً أقلّ من منافسيهم.
انتخبت الولايات المتحدة عام 2008 باراك أوباما، كأوّل رئيس أسود البشرة في تاريخ البلاد. عدَّ البعض الأمر ثورة، وعده بعضٌ آخر نزوةً وخطأ صدفة. لكنّ الأميركيين أعادوا انتخاب الرجل عام 2012 لولاية ثانية، وما زال، حتى الآن، شخصية مفصليّة في السياسة الأميركية. ولئن اختار المزاج الأميركي أسودَ رئيساً لولايتين، فإنّه مال بعده إلى نقيض “شديد البياض”، بالمعنى السياسي، بانتخاب ترامب خلفاً له.
قبل أسابيع من هذا الحدث، وأثناء زيارتي لواشنطن، التقيت صديقاً لبنانياً أتاني من ميتشيغن. صار الصديق، ابن بيروت والناشط العروبي المدافع عن فلسطين إبّان الحرب الأهلية في لبنان، رجل أعمال في الولايات المتحدة. لم يتخلَّ عن قناعاته القديمة. لكنّه، في لقائنا، شنّ هجوماً على أوباما والنظام الصحّي الذي فرضه، وحمل اسم “Obama Care”، بسبب أكلافه على الأعمال في البلاد. علمت لاحقاً أنّ كثيراً من الموظّفين والعمّال لم يلتحقوا بهذا النظام للسبب نفسه. كان الموقف سوريالياً، وأنا القادم من أوروبا حيث الرعاية الصحّية المجّانية ليست خياراً بل حقّ إنساني بات من المسلّمات.
في التعارف الميداني مع الولايات المتحدة، يمكن بصعوبة فهم مزاج الأميركيين في اختيار رئيسهم. أزعج ترامب في ولايته الأولى أوساط واشنطن وطبقتها السياسية التقليدية، الديمقراطية والجمهورية. أقلق أيضاً العواصم الغربية الحليفة التي تنمّر عليها وراح يحاضر فيها ويلقّنها دروساً في حسن السلوك. بات صديقاً حميماً للزعيم الروسي فلاديمير بوتين، ولزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. سخر في حملته الانتخابية من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأصدر مرسوماً عند دخوله البيت الأبيض يمنع بموجبه دخول مواطني 6 دول مسلمة إلى الولايات المتحدة.
عمق الانقسام
مع ذلك يعود الرجل من ظلّ إلى نور يقرّبه من جديد من عتبة البيت الأبيض. في التعليق على معركته الانتخابية مع جو بايدن عام 2020 تناولت في أحد مقالاتي مستسهلاً ما يمكن أن يكون عنصرية ويميناً متطرّفاً في فكره وسلوكه الذي طربت له التيارات الشعبوية في أوروبا.
وكنت أعتبر ذلك التقويم من البديهيات. فوجئت بتعليق لأحد المتابعين العرب المثابرين في الولايات المتحدة على قراءة ما أكتب، وربّما خسرته مذّاك. اعترض على تقويمي متحدّثاً بإسهاب عن تمثيل ترامب لتيّار الدفاع عن القيم المحافظة للعائلة في مواجهة تسونامي من الأفكار الليبرالية المحمّلة بقيم مقلقة في مسائل الجندر والإجهاض والدين ومجتمع الميم… إلخ. وحين كادت الولايات المتحدة أن تدخل ما يشبه الحرب الأهلية في يوم “غزوة الكابيتول” في 6 كانون الثاني 2021، كان سهلاً استنتاج عمق الانقسام الذي لا نعرفه داخل المجتمع الأميركي.
وفق هذا التعقّد يمكن محاولة فهم موقف العرب من الانتخابات الحالية. تشير معلومات المعهد العربي الأميركي إلى أنّ ربع الأميركيين العرب، الذين يصل عددهم إلى 3.7 ملايين نسمة، هم من المسلمين، بينما الغالبية منهم من المسيحيين. وكثيراً ما تحرّك صوت هذه الجاليات في العقود الماضية بناء على الموقف من فلسطين. لكن لاحقاً، وبسبب بلادة الانحياز الأميركي لإسرائيل، أيّاً كان ساكن البيت الأبيض، راح صوت الجاليات يجاري مصالحها في الولايات المتحدة، فتختار الأنسب لشروط عيشها اليومي. غير أنّ كارثة غزّة أعادت جذب الرأي العامّ العربي والمسلم إلى الموقف من هذه القضية بصفتها مقياساً للاختيار بين المرشّحَيْن كامالا هاريس ودونالد ترامب.
في بال بعض الناخبين العرب حيرة جعلته كالمستجير من الرمضاء بالنار. فإدارة بايدن أظهرت، كما إدارات واشنطن جميعها، دعماً غير مشروط لإسرائيل، فيما ترامب هو صاحب “صفقة القرن”. وعدت خطّته الفلسطينيين بتحويل ما بقي من بلدهم إلى جزر متشظّية متباعدة. وهو وراء الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالجولان أراضي إسرائيلية. وهو الذي يعتبر مساحة إسرائيل صغيرة ويعد بتوسيعها. وهو الذي يعتبر أنّ إسرائيل لن يكون لها وجود إذا انتُخبت هاريس.
ميتشيغن متأرجحة
على الرغم من أنّ أصوات العرب والمسلمين لا تشكّل سوى نسبة تقارب واحداً في المئة من المقترعين، لكنّهم رقم صعب في تقرير نتائج بعض الولايات المتأرجحة، وأهمّها ميتشيغن. قبل أيام قصد ترامب (كما هاريس) الولاية.
في الاحتفال هناك أعلنت وجوه قيادية ودينية من الجالية المسلمة هناك تأييدها له “لأنّه وعد بالسلام”. في التحليل أنّ الخيار دفاع عن قيم محافظة يتشاركونها مع “الترامبيّين”، ونكاية بالديمقراطيين لدعمهم نتنياهو وصحبه. بالمقابل لن يصوّت بعض هذه الجالية لأحد أو لخيار ثالث، بما يخفّض من رصيد هاريس ويصبّ في حسابات ترامب.
يردّد ترامب أنّه لو كان رئيساً لَما نشبت حرب غزّة ثمّ لبنان، وأنّه إذا انتُخب فسيوقف هذه الحروب. لا يكلّف الرجل نفسه عناء شرح كيف كان سيتصرّف لتجنّب تلك الحرب وكيف سيفعل لوقفها. وسط هذا الغموض غير البنّاء قد تنتخب أميركا، شاملةً أصواتاً من أصول عربية، الظاهرة “الترامبيّة” من جديد لقيادة الولايات المتحدة وإدارة أزمات العالم الكبرى. ولن نفهم يوماً الخلطة الأميركية لانتخاب رئيس للولايات المتحدة.