آراءمنوعات

الحلم والواقع ولغة الرياضيات

كم نحلم أن نعيش واقعا آخر، حياة وعوالم ومشاهد أخرى، تسبح بنا أحلامنا هذه إلى حد التماهي مع ما يستحضر وما يتخيل في أذهاننا وتصوراتنا

عبد المجيد بن شاوية

قد تأخذنا الدهشة أو الشغف في أول وهلة عند سماعنا حكايات ما أو أخبار ومعلومات ما عن عوالم أو ظواهر لدى غيرنا أو عند رؤيتها لأول مرة، ويسبح بنا الخيال للوقوف على معرفة جوانب تلك العوالم والظواهر عن قرب، وسبر أغوارها بشكل يملأ خانات ما ينقصنا من معلومة تجاهها، خاصة فيما نختلف فيه مع غيرنا على مستويات عدة، سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي، السلوكي أو القيمي، المعرفي أو العلمي، الاقتصادي أو التقني، العمراني أو الحضاري..

ونحن في رحلتنا القراءاتية تطالعنا من حين لآخر كتابات وإنتاجات من كل جانب ومجال من مجالات الحياة على اختلافها، بأمور أو أفكار أو قراءات تسعفنا على أخذ صور ومشاهد عن عوالم بذاتها، تتنوع مستويات كتابتها، سواء قصصية، روائة، ثقافية، سوسيولوجية، أنثروبولوجية، فكرية، تاريخية، فنية، جمالية، اقتصادية، أو علمية.. من خلالها نقف عند حدود واقع ما وتجلياته ومظاهره المتعددة الجوانب، وبذلك نقترب من الصور والمشاهد شيئا ما، ومما يشكل هذا الواقع من ماديات ورمزيات تعاش بداخله وفي علاقات بنيوية متشابكة، حيث في مضمار هذا الشغف المعرفي والثقافي ينضح الإبداع الثقافي والمعرفي والفكري عموما، بكل عدته اللغوية والتخيلية والسردية والحدثية – نسبة إلى الحدث – والزمكانية، والثقافية والحضارية.. ليجلي لنا مشاهد وأحداث عديدة وغيرها من العوالم بحسب القضية المتناولة في القضايا المتناولة لدى كل كاتب، مما يخلق الرغبة في الحلم أكثر لدى القارئ، وعزمه لمعانقة ما يقرأه مستقبلا في واقع آخر غير واقعه.

كم نحلم أن نعيش واقعا آخر، حياة وعوالم ومشاهد أخرى، تسبح بنا أحلامنا هذه إلى حد التماهي مع ما يستحضر وما يتخيل في أذهاننا وتصوراتنا، عن طريق ما نشاهد أو نسمع، عبر العديد من الوسائل، خاصة في زمننا المعاصر هذا، الذي أصبحت فيه كل بقاع العالم، قرية صغيرة، لا سيما إذا ما كانت أحلامنا تتجاوز سقف واقعنا المعاش، الذي لا يستجيب لتطلعاتنا وما يمكن أن نستحقه في رحلتنا الحياتية المستقبلية، بحسب ما هو معطى على أرضه، أكان ما نتطلع إليه علميا، أم ثقافيا، أم ماديا، أم كانت تطلعات وأهداف ومكاسب نتوخاها من وراء أحلامنا تجمع بين هذا وذاك، في أفق تحقيق الذات بنجاحاتها كما يتخيل لنا باستمرار، ألم يكن الحلم هو الخروج عن المألوف وتحقيق المستحيل؟ ألم يكن الحلم هو توق إلى ما لا ليس هو في الإمكان في واقعنا الذي نعيشه؟ ألم يكن الحلم هو كسر الطوق الذي يضرب على أعناقنا في واقع يحضن ما تذهب إليه مقولة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”؟

ألم يكن الحلم هو القضاء على ما فشلنا فيه أو ما يجعلنا نفكر فيما هو قائم كونه لا يساعد على بلوغ الأهداف والمرامي والمقاصد المتوخاة، ومحو أسبابه وتحدي لأقداره، وبالتالي تجاوز خيبات آمالنا وتطلعاتنا؟ ألم يكن الحلم هو وعي بالأقدار المعطاة والمعاشة في بيئة ما، على اختلافها، قد نطلق عليها أقدار السياسة والاجتماع والثقافة والتاريخ والحضارة.. في محاولة لتجاوزها ومعانقة أقدار أخرى في بيئة أخرى، وأننا سوف نكون على غير وضعياتنا إذا ما سنحت الظروف في قطع المسافات والوصول إلى بر أحلامنا كما نتوقع؟ أسئلة وأخرى كما هي عديدة بخصوص الحالمين ومواقعهم ومراكزهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية..

كل منا له دافع ليحلم وتبريراته وتأويلاته الخاصة، دون توقعات خسائر ممكنة، وإن استحضرت في أذهاننا، نتجاوزها بما يمكن تخيله في تحد لحلمنا القائم في ذات اللحظة، حتى لا نرتكس إلى ما يثبط عزائمنا وقدراتنا، ولو تخيلنا حلمنا تجربة مستقبلية، فإننا دوما نضع بين نصب أعيننا أننا سننجح في تحقيق المنشود، دون اعتبار لما يمكن أن يخلق عراقيل ما، ولا اعتبار لعوارض طارئة، ولا حسبان لأي عامل من عوامل التغيير التي سوف تطرأ في مسيرتنا المستقبلية التي سنقدم عليها، وأن في محاولاتنا سندخل معتركات الحياة ببيئة أخرى، ونحن مسلحين بكل قوانا الذهنية والثقافية والعملية للظفر بما كان هو عمود حلمنا السابق والمعد في برمجة مخيلاتنا..

مجهزين باعتقاداتنا المطلقة أو أحرى شبه مطلقة، بكوننا سننجح وسيكون كل ما حلمنا به في متناولنا وبين أيدينا نمسكه، ولا ينفلت منه جزء ما، فكأن بأيدينا الخاتم السحري الذي كيفما وضعناه بأصابعنا وأدرناه يمينا وشمالا، فما علينا إلا حيازة الكنوز الثمينة بين أيدينا وتحقيق النجاحات تلو الأخرى، في مشهد طوباوي لا يمكن أن ينسج خيوطه ومصائره إلا كائن في عالم غير العالم الأرضي..

إننا في عالم الإنسيات والثقافات والديانات والمعتقدات والحضارات، عالم كل فيه مختلف عن الآخر، حتى الفرد داخل الأسرة الواحدة لا يشبه أباه أو أخاه في شيء، إلا ما ندر من الحالات عالم النسبيات المتعددة في كل مجال من مجالات العمران الإنساني، إنه عالم النسبية المطلقة، كل شيء فيه نسبي، في كثير من الأحيان يحملنا تفكيرنا على حساب كل شيء بلغة الرياضيات، بمنطق الصرامة الرياضية، نحلم ونخضع أحلامنا إلى المنطق الرياضي الصرف، في عالم المتغيرات النسبية، ولا كان في وسعنا أن نستحضر الاحتمالات الممكنة، أو ما نطلق عليها العوارض أو الطوارئ أو الأحداث الممكن حدوثها، إنه الإنسان بطبيعته، يخال أنه سيد نفسه في كل المواقف والوضعيات، وحال لسانا يقول بلغة جاليليو غاليليو “لفهم الكون، يجب أن تفهم اللغة التي كتب بها، لغة الرياضيات”.

إننا نعتقد أن الحياة كمعادلات رياضية صرفة، تحسب فيها الخطوات بلغة رياضية، وكل سلوك نسلكه، سوف يؤدي بنا إلى نتائج مرجوة، وفق ما خططنا له مسبقا، عبر أحلامنا أو تفكيراتنا، وهذا ما لا يمكن توقعها في عالم يتغير باستنمرار، يراكم بين الفينة والأخرى أشياء وعوالم وأحداثا، بحسب ما يعتمل بداخل الكيانات المجتمعية، وكل منها يحاول أن يجد صيغة حضارية ليعيشها، في صورة فضلى كيفما يتصوره ويتخيله ويحلم به، مع وضع هوامش تتوزع بين الهامش العريض والهامش الضيق لاحتمالات عدة في مساراته، على اختلاف مجالاتها، في محاولات ضبط السفينة، ولذلك على من يحلم أن يضع حلمه في كفة الحلم كحلم، وأن يضع الحلم كتوقع، وليس كحقيقة مستقبلية ماثلة كعالم مطلق لا تشوبه شائبة التوقعات والطوارئ وعوالم المجهول.

* كاتب مغربي

https://anbaaexpress.ma/w6d0w

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى