آراءثقافة

في تراجيديا العقل.. العقل المجرد ضامن التّفكير الخلاّق

ينسلخ العقل الناظم من المنتظم كالثعبان من جلده

– يدخل العقل في مواجهة مع العقل، وحينها فقط نفتح طريقا نحو الإبداع الحقيقي، ذلك الذي نسمّيه -تسامحا- جنونا، وهو حالة يفيض فيها العقل النّاظم ويتجرد عن المنتظم، إذن ما الإبداع؟ إنّه حين ينقلب العقل الناظم على العقل المُنْتَظَم. ذلك لأنّ العقل الشّائع، رهينة لقواعد اشتباك تفرضها سلطة الباراديغم، ورقابته.

– ينسلخ العقل الناظم من المنتظم كالثعبان من جلده، متى فقد العقل المنتظم نجاعته وبات عِبئا على العقل الفاعل.

إنّ فعل تجرد العقل الحقيقي، هو حين يقلب الطاولة على القواعد المقررة، حين يعانق لحظة التجرد القصوى التي تسبق إعادة الهيكلة. هل يا ترى يتخلّى العقل المجرد عن كل قواعد الاشتباك؟ لا، ولكنه يطبق ما هو ثابت في كل باراديغم، لعل واحدة منها لزوم المقدّمة لِذَيِّها، وتبعيتها له اشتراطا واطلاقا، فلا طريق لإعادة الهيكلة إلاّ بواجب الانقلاب.

– أُذَكِّر بأنّ مفهوم العقل المجرد عندي من الآن فصاعدا، هو لحظة انسلاخ العقل الفاعل عن سُلطة العقل المُنتَظَم، وهذا الإنسلاخ ليس رغبة، بل ضرورة، إنّها لحظة قصوى في تراجيديا العقل.

– العقل المجرد ليس استقالة بالعقل النظري عن تعقيد العالم، بل هو شجاعة قصوى لربط الاتصال بهذا التعقيد، إنّه يتجرد على تلك القواعد المجرد نفسها، تلك التي منحها البارديغم سلطة مصادرة حقّ العقل في توسيع مداركه، في مغامرته داخل اللاّقياسية.

– إنّني أتأمّل في الشات جي بي تي، يا له من حدث عظيم، هذا ما يقوله العقل الشائع مندهشا. الأهم فيه هو الجانب التقني، كيف تشغل محرك البحث، حيث تهندس عقلا ذكيّا يستطيع أن يطوف بكل هذا المخزون وينطوي على هذه الداتا، كيف تصبح البرمجة منتجة عبر مخرجات خواريزمية وضعها الإنسان، تجعل الشات جي بي تي لن يبدع شيئا، بل هو يعطينا فكرة على طريقة اشتغال العقل الشّائع، إنّه القياس، هذا ما يفعله الشات جي بي تي بعد اختبار طويل لمحصوله، تتكرر لازماته، كل عبارة تفتح له مسارا للتكرار، أمامه فسحة، ولكنها لا تخرج عن المقايسة، يعوزه الحدس، الافتراض، الاحتمال، من هنا، فهو يفكّر -تجوُّزا- بالطريقة نفسها التي يفكر بها عموم من يعقلون ولا يعقلون، الذين يعقلون بقانون القصور الذّاتي للعقل المُنتظم، وهو ما يجعل القياسية أسلوبا لا غنى عنه لدى من يعقلون بالواسطة لا بالفعل.

– لن يفيد شات جي بي تي العقل لحظة ثورته التّاريخية، سيكون حارسا للباراديغم العام، سيتحوّل إلى إعاقة، يُنظم أشياء يتوصل إليها بقياس ميكانيكي، لكنه عدوّ النظرة اللاّقياسية، بقوة الطبيعة التي أورثه إياها المُبرمج.

– سيعزز الذكاء الصناعي من عصر التّفاهة، سيجد فيه سُرّاق الأفكار ملاذا، سينافسهم أيضا، سيغرق العالم بالتكرار ومحصول مُقايسات لا غرو أنّها ستصل إلى الباب المسدود.

– التفكير والإبداع هو طريقة العقل لحظة تمرده على المقايسة، لحظة تشبثه بالاحتمال، خصوبة الحدس وطراوة الخيال وشجاعة عقل فاعل آبق من قواعد المُقايسة.

– إنّ تاريخ الفكر والتّفاكر هو تاريخ الولاء لقواعد تفكير لا فكاك عنها، هو إعادة إنتاج للنمط العقلي نفسه، وربما ستجعلنا التقنية أكثر انخداعا، لأنّها ستعيد توزيع هذه الأطر نفسها بصورة توحي بأنّ سرعة تحصيل المعلومة وكمية الداتا انتقال إلى نمط جديد في المعرفة، بل إنّنا ما لم ندرك حاجة العقل للثورة، ستصبح التقنية حامية الجمود ومُغرقة العالم بالتِّكرار.

– إنّ الخدعة الكبرى هي حين يصبح همّنا أن نفكّر، بينما المطلوب: كيف نفكّر، لا بل وفق أي نمط وجب التفكير، بتعبير آخر: ضمن كل هذه الخيارات، كيف نعقل، كيف نرسي برنامجا بيئيا ومناسبة موسمية للانسلاخ من جلد الباراديم، متى أصبح معيقا للحركة، متى نُنصت لحاجة العقل ونمنحه حرية الإنصات لندائه الداخلي، لتأنّنه في مشوار مليئ بالمغالطة، والمقايسة، والمناكفة، وكل ما من شأنه تسطيح الوعي والعالم عبر عقل مرتهن لقواعد تفكير تقوّض التفكير.

https://anbaaexpress.ma/hoh4m

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى