لم يدر بخلد فلاسفة اليونان قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، سؤال ما الذي له الأولوية هل مصلحة مدينة أثينا ومصيرها أقوى من ديمقراطية أهل أثينا وشعبها، لكن الأمر جد مؤرق في المغرب حيث ظل مطلب الديمقراطية في المغرب يتعرض إلى التأجيل في أكثر من محطة، منذ أول دستور كشف عنه الزعيم علال الفاسي في حفرياته في بداية القرن الماضي مع عزل السلطان المولى عبد العزيز ومبايعة المولى عبد الحفيظ، إلى المطالبة بعودة محمد الخامس قبل التفاوض حول الاستقلال والديمقراطية، إلى انتصار الوطنيين لفكرة الاستقلال أولا والديمقراطية ثانيا، وفي 1975 تم تأجيل الديمقراطية لصالح قضية الوحدة الترابية، وتم تمديد عمر البرلمان في نهاية الثمانينيات وتأجيل الانتخابات بسبب الوحدة الترابية، وما عبر المغرب من أحداث كبرى، كانت الأحداث التي تعرفها الأمة المغربية ترفع أولوية الاستقرار والوحدة الوطنية فوق مطلب الديمقراطية.
هل تبدو الديمقراطية ممنوعة من الصرف بالمغرب؟ كيف يتم تأجيلها في كل مرة بدوافع كلها ترفع شعار لصالح الوطن وقضايا الوحدة الترابية.
عقدة التاريخ التي تحولت إلى استثناء دوما يتكرر
ظل حزب الاستقلال كتجسيد لمكونات الحركة الوطنية يرفض التفاوض على أي مطلب ديمقراطي مع الاستعمار الفرنسي قبل عودة السلطان محمد الخامس إلى عرشه، وحين انتصر زعماء الحركة الوطنية لمبدأ الاستقلال أولا، تم تأجيل الديمقراطية وهو ما ستؤدي الحركة الوطنية ثمنه غاليا فيما بعد: سجونا ومنافي واغتيالات وإبعادا عن السلطة فيما يشبه الجرح التاريخي، وهم يرون كيف حكم الحزب الدستوري تونس وجبهة التحرير الوطني الجزائر، وغيرهما من الدول حديثة العهد بالتحرر الوطني، وظلوا وحدهم خارج دواليب السلطة.
في ماي 1992 تأسست الكتلة الديمقراطية التي جاء في بيانها التأسيسي أن الشق الثاني من وثيقة الاستقلال المقدمة للإقامة العامة الفرنسية في 11 يناير 1944، لم يتحقق ولو مع مضي 36 سنة يومها على حصول المغرب على استقلاله، والسبب هو التأجيل المستمر للديمقراطية تحت ضغط النداء الأعلى للوطن، الذي اكتسى لُبوسات متعددة، من عودة السلطان إلى عرشه، إلى الاستقلال أولا، ثم مع أولوية الوحدة الترابية، وظللنا شهودا على إعادة التاريخ لنفسه في أكثر من واقعة، إن ما اعتبرناه استثناء غداة إجماع كل الوطنيين على مبدأ الاستقلال قبل أي إصلاح سياسي، أضحى اليوم ذلك الاستثناء الذي يتكرر بقوة حتى ليترسخ كقاعدة في المغرب المستقل، فكيف ساهمت القضايا الكبرى للوطن: استقلال أو وحدة أو استقرارا أو استرجاع… في بطء وتيرة معانقة المغاربة لهذه المعشوقة الفاتنة المدللة: الديمقراطية؟
الديمقراطية المعطلة تأجيلا أو تزويرا بروح وطنية
يقول المفكر الراحل محمد عابد الجابري: “إذا جاز للمرء أن يبرز في مغرب القرن العشرين أكثر الطموحات الوطنية التي تعرضت لـ”سوء الحظ”، فإن قضية الديمقراطية تفرض نفسها على رأس القائمة، إن هذا يعني أن المثل المغربي “بابور المغرب عمرو ما يقلع” قد انطبق فعلا على مغرب القرن العشرين في مجال الديمقراطية بالتحديد. ويرجع الجابري في مقال يحمل عنوان: “الديمقراطية في المغرب من التأجيل إلى التزوير”، نشر بالعدد الرابع من سلسلة “مواقف”، سبب ذلك ليس إلى تقاعس المغاربة عن المطالبة بالديمقراطية، ولا إلى عجزهم عن ممارستها ولا إلى عدم وعيهم بأهميتها، بل لقد كان ذلك راجعا إلى نوع من “التواطؤ التاريخي” قوامه التنافس، إن لم يكن التعارض، بين القضية الوطنية والقضية الديمقراطية.. أعني بذلك أنه كلما طرحت قضية الديمقراطية إلا ووجد المغاربة أنفسهم أمام قضية وطنية تفرض نفسها كصاحبة الأولوية.
وبحدس المؤرخ، يستعرض اللحظات المفصلية في المغرب السياسي المعاصر التي تم فيها تأجيل الديمقراطية لصالح القضية الوطنية، والتي كلها مرتبطة بالملكية أو بتهديد حوزة الوطن ووحدته واستقرار مؤسساته، إن النخبة المغربية حين تجد نفسها بين أولويتي الديمقراطية والوطن، تنتصر للثاني على حساب الأول، وفي كل محطات الصراع السياسي كان الفاعلون السياسيون والقصر يتفقون على تأجيل الديمقراطية إلى حين، فالوطن أولى..
يمكن أن نجد خيطا ناظما للحظات تأجيل الديمقراطية بالمغرب في المحطات الكبرى التالية:
التصدي للأجنبي أولى من مشروع الدستور
في العقد الأول من القرن العشرين، ظهرت أول حركة دستورية سنة 1908 “بلغت أوجها مع عزل السلطان عبد العزيز وتولية المولى عبد الحفيظ مكانه على أساس بيعة مشروطة، مرفوقة بمشاريع دساتير قدمها أصحابها كأساس لتدشين العمل بالديمقراطية الحديثة في المغرب”، لكن مع التغلغل العسكري الفرنسي بعد هزيمة إيسلي ومع فرض الحماية في 1912، تم تأجيل المطالب الدستورية لترسيخ الديمقراطية تحت ذريعة إعطاء الأولوية للقضية الوطنية الأولى التي هي التصدي للتدخل الأجنبي..
وقام أهل الحل والعقد بتجييش الرأي العام المغربي لحماية ثغور الوطن من أطماع الإفرنج، وهكذا كان الخارج مساهما في وأد الديمقراطية والعمل بالدستور وإصلاح المؤسسات، وهذا جزء من عطب التحديث القسري الذي لم يأت كتطور طبيعي لمؤسسات الدولة المغربية.
الحماية وبنودها تعطل وثيقة الدستور
في دفتر “مطالب الشعب المغربي” الذي قدمته كتلة العمل الوطني سنة 1934 إلى السلطان محمد الخامس وإلى سلطات الإقامة العامة، تم التنصيص على ضرورة سن إصلاحات سياسية، لكن الأمر لم يتطرق إلى نص وثيقة الدستور، يقول الجابري: “فالسكوت عن الدستور، الذي هو أساس الديمقراطية، كان من أجل القضية الوطنية التي كانت تتمثل يومئذ في المطالبة بتطبيق معاهدة الحماية تطبيقا يُعيد للملك سلطاته ويسير بالمغرب إلى مرحلة الاستقلال”.
لقد كان همّ الوطنيين هو تذكير الإقامة العامة الفرنسية ببنود معاهدة الحماية ودفعها للالتزام بما سطرته، وتحاشى الوطنيون الإشارة إلى الدستور، لأن الاعتبار الأساسي كان هو الدفاع عن عودة الاختصاصات الأساسية للسلطان الذي كان قد أصبح يمثل رمزية القضية الوطنية أكبر من أي وثيقة دستورية.. أضحى السلطان محور كل فعل سياسي، كان الاستثناء هو محمد بلحسن الوزاني الذي كان متفقا على مطلب الإصلاح السياسي قبل تسليم المستعمر البلاد للمغاربة حتى يكونوا خلال مرحلة انتقالية قد تدربوا على الديمقراطية، لكنه لما تعرض للتخوين تراجع عن موقفه ليرفع بدوره مطلب الاستقلال أولا من خلال مذكرته في 13 يناير 1944 أي بعد يومين من وضع وثيقة منافسه حزب الاستقلال.
قطران “بلادنا” ولا عسل “ديمقراطيتهم”
هذه المحطة كانت مع تقديم وثيقة الاستقلال في 11 يناير 1944، والتي بموجبها تحولت الديمقراطية إلى مجرد قضية جزئية أمام مطلب الاستقلال، يقول علال الفاسي: “أما التلويح لنا بالديمقراطية فلن يخدعنا نحن ولا أي مخلص من أفراد الشعب المغربي عن الحقائق الملموسة، فحزب الاستقلال لا يقبل أي حل لا يقوم على أساس الاعتراف بالاستقلال الكامل وتحرير الأمة من الحجر الأجنبي” (الحركات الاستقلالية)، وهكذا هيمنت القضية الوطنية الأولى: استقلال الوطن، ودخلت الديمقراطية في غرفة الانتظار.
وهنا جزء من مآسي حزب الشورى والاستقلال وزعيمه محمد بلحسن الوزاني الذي طالب بوثيقة دستورية وبإصلاح المؤسسات وإقامة الديمقراطية كمرحلة انتقالية قبل الاستقلال، فتعرض للتشكيك في وطنيته، فلا مطلب كان يعلو على استقلال الوطن.. الاستقلال التام أو الموت الزؤام كما كان يقول علال الفاسي، لذلك اتفق كل الفرقاء على وضع جنين الديمقراطية في غرفة العناية المركزة.
لا ديمقراطية قبل عودة ملك البلاد
رفض الزعماء الوطنيون الذين تفاوضوا حول مائدة “إيكس ليبان” بزعامة الراحل عبد الرحيم بوعبيد، “الاقتراح الفرنسي الذي يقضي باعتراف فرنسا باستقلال المغرب أولا وتكوين حكومة وطنية تشرف على وضع دستور، تليه انتخابات ديمقراطية لبرلمان مغربي يكون من مهامه اتخاذ قرار بعودة محمد الخامس”، يعلق صاحب “العقل العربي” على هذه اللحظة التاريخية بالقول: “ليست الديمقراطية وحدها هي التي تم تأجيلها هذه المرة، بل طال التأجيل الاستقلال نفسه، وصارت عودة محمد الخامس أولى الأولويات”.
لسبب معقول يتمثل في أن السلطان محمد الخامس أصبح رمزا تجسيديا للأمة وللوطن، لذا رفض حزب الاستقلال كليا، أي تفاوض قبل عودة السلطان، الذي أضحى أولوية أولويات نضال الحركة الوطنية، فرغم إيمانها العميق بالديمقراطية فإن قضية عودة السلطان إلى عرشه، أضحت ذات أولوية حتى على مطلب الاستقلال، التقى في عودة الملك البعد الديني والوطني، حيث أضحى تجسيدا لانبعاث الأمة المغربية، حتى قبل التفاوض على مبدأ الاستقلال الوطني فبالأحرى الحديث عن الدستور والانتخابات والمؤسسات…
مطلب الحكومة المنسجمة يؤجل الديمقراطية
بعد حصول المغرب على استقلاله مع عودة الملك مجمد الخامس من المنفى، وبعد سعي النظام لكسر قوة الحركة الوطنية وخلق تعددية حزبية ولو شكلية تم خلق حكومات تدبيرية تحاول الحد من هيمنة حزب الاستقلال على مؤسسات البلاد عبر مزاحمتها بفعاليات موالية للقصر، وهو الأمر الذي أغضب حزب الاستقلال الذي طالب بضرورة “الحُكومة المنسجمة”، والتي كانت عتبتها الأعلى، خروج الاستقلاليين من حكومة البكاي في 20 أبريل 1958، لقد ظل الحزب يطالب بحكومة وطنية منسجمة لانتقال البلاد من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، ضد من كان يسميهم أذناب الاستعمار، وهو ما لم تتم الاستجابة له، وبذلك جرى تأجيل الديمقراطية مرة أخرى!
لا صوت يعلو على معارضة النظام
بعد الاستقلال، اختلفت مكونات الحركة الوطنية والقصر حول شكل النظام السياسي للمغرب وطبيعة السلطة السياسية، واختار الحزبان الرئيسيان في المغرب معارضة النظام السياسي وتتمثل هذه المحطة في تأجيل الديمقراطية في البلد حتى مع منح دستور عام 1963، بل إن هذا التأجيل سيطال أيضا الممارسة الديمقراطية وسط الأحزاب الوطنية، عبر تقديس الزعامة وتغييب قواعد الانتخابات وشفافية التدبير الحزبي ودوران النخب بدعوى وجود عدو واحد هو الاستبداد والسلطة الانفرادية، ولم يتم الدخول بالتنظيمات الحزبية إلى المختبر الديمقراطي عبر التداول على السلطة والاقتراع الحر بدل اللوائح والزعامات الأبدية حتى بداية التسعينيات.. وكان أي طرح لضرورة الاحتكام لصناديق الاقتراع واحترام الأغلبية عبر مسطرة الانتخاب بدل التعيين في توزيع المسؤوليات وإسناد المهام داخل التنظيمات الحزبية التي تطالب النظام بالديمقراطية، هو نوع من العمالة للنظام ونسف التنظيم والبوليسية وغيرها مما عانى منه مثقفون وفاعلون سياسيون لمجرد مطالبتهم بالديمقراطية الداخلية داخل تنظيمات الحركة الوطنية.
جاذبية الوحدة الترابية قبل غواية الديمقراطية
أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء واسترجاع الأقاليم الصحراوية في عام 1975، وهي المرحلة التي عُرفت بانطلاق المسلسل الديمقراطي، لكن على عكس المعلن، في مغرب تازمامارت وقرون من أحكام السجن الموزعة على تنظيمات اليسار الجذري وحضر الصحف ومواجهة الحركات الاحتجاجية في الجامعة والشارع.. ما سيطلق عليه سنوات الرصاص، فقد عرف المغرب تأجيلا للديمقراطية حتى مع الفورة الاقتصادية للفوسفاط، وتم تقديم أولوية القضية الوطنية على الدخول في المغامرة الديمقراطية، على الرغم من بعض ترتيباتها الشكلية: دستوري 1971 و1972، الانتخابات الجماعية والبرلمانية، عودة المؤسسة التشريعية إلى الحياة بعد حالة الاستثناء. وهو نفس الأمر الذي سيحدث في نهاية الثمانينيات مع تمديد عمر البرلمان وتأجيل الاستحقاق الانتخابي بسبب ضغط أجندة استعادة الأقاليم الصحراوية.. وتأجلت الديمقراطية مرة أخرى في عز انطلاق ما عرف بـ”المسلسل الديمقراطي”.
وعبر محطات كثيرة في كل مرة يحرن فيها حصان التمرين الديمقراطي للمملكة أو تتعرض إحدى المؤسسات الجوهرية لعطب تبرز قيمة المصالح العليا للوطن والوحدة الترابية وتتحرك الدعوات لحكومة الوحدة الوطنية، إنه ذلك التواطؤ التاريخي الذي يجعل مطلب الوطن أولا أما الديمقراطية فتظل في غرفة الانتظار.