آراءالشأن الإسبانيثقافة

فى الذكرى الثّامنة والثمانُون.. لإغتيال زنبقة الشّعر الإسبانيّ المُعاصر فيديريكُو غارسيَا لُوركا

عندما تُقرع نواقيس الموت

د. محمّد محمّد الخطّابي

في 18 من شهر أغسطس الفارط من السنة الحالية 2024 حلّت الذكرى 88 لمصرع الشاعر الإسباني الأندلسي المعروف فدريكو غارسيا لوركا الذي اغتيل في هذا التاريخ نفسه من عام 1936 مع بداية انطلاق شرارة الحرب الأهلية الإسبانية التي لم تحطّ أوزارها حتى 1939.كان لوركا قد وُلد في الخامس من شهر يونيو من عام 1898.

ولقد احتفلت الأوساط الإسبانية مؤخراً بذكرى اغتيال هذا الشاعر الذي طالما غنّى للحرية، وللحبّ، والحياة. ولكن، مَنْ ذا الذي اغتال لوركا؟ وكيف تمّ ذلك؟ ولماذا؟

للإجابة عن هذه الاسئلة المُحيّرة، سال مداد غزير، وكُتب عنها الكثير، ووُضعت كتب، ودراسات، ومؤلفات حاولت برمّتها إلقاء الأضواء الكاشفة على هذا الموضوع الشائك الذي شغل العديد من المؤرّخين، والمثقفين، والنقاد، والشعراء لعقود من الزمن، ومع ذلك ظلت تلك الأسئلة وعلامات الاستفهام معلقة في الهواء لسنواتٍ عديدة بخصوص هذه المأساة التي هزّت الأوساط الثقافية في إسبانيا وفي العالم ساعة حدوثها، وكانت قد شكّلت وصمة عار في جبين الوطنييّن الإسبان تحت إمرة الجنرال فرانسيسكو فرانكو الراحل الذي حكم اسبانا زهاء اربعين عاماً بيدٍ من حديد، بعد دحرها للجمهورية الإسبانية الثانية اليسارية التي انبثقت من رحم صناديق الاقتراع، وحاولت إسبانيا آنذاك تلميع صورتها بشتى السّبل والوسائل لأنّ الشاعر المغتال كان معروفاً في مختلف أنحاء المعمور بما كان قد أصدره من كتب، ودواوين شعرية، ومسرحيات، وبعد أن زار وأقام في الولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك) وفي بعض بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية.

أيّام لوركا الأخيرة

في هذا السياق، كان قد صدر عن دار النشر الإسبانية المرموقة “بلاسا-خانيس” كتاب من تأليف الكاتب والصحافي الاسباني “إدواردُو مُولينا فاخاردُو”، تحت عنوان “الأيام الأخيرة لغارسّيا لوركا”، يتضمّن العديد من السجلاّت، واليوميات، والوثائق، والمراسلات، والمذكرات التي استقى منها الكاتب مادة كتابه، حيث يحكي لنا فيه بدقّة متناهية تفاصيل اغتيال أحد أكبر الشعراء في تاريخ الأدب الإسباني وهو لوركا، بل إن المؤلف يحكي في كتابه اللحظات الأخيرة التي طبعت حياة هذا الشاعر ذائع الصّيت قبيل إطلاق النار عليه من طرف عناصر من الجيش الوطني من أتباع الجنرال فرانكو.

ونجد في هذا الكتاب وثيقة سريّة لشرطة مدينة غرناطة تعود إلى عام 1965، تلقي الضوء على دوافع ودواعي اغتيال هذا الشاعر؛ إذ على الرّغم من أنه لم يتعاط السياسة إلاّ أنه كان يُبدي نوعاً من التعاطف مع اليسار الإسباني في ذلك الإبّان.يحكي لنا المؤلف كيف أن أحد الشعراء الإسبان من المعاصرين للوركا، وهو “لويس رُوسَاليس”، أخفاه في منزل عائلته وكان على وشك أن يُغتال هو الآخر وتمّ إنقاذه من حبل المشنقة بعد أن طُلب منه توقيع رسالة يؤكّد فيها عدم إخفائه للشاعر لوركا، وتؤكّد هذه الوثيقة أن الشاعر روساليس كذب في ذلك الاعتراف الذي وقّعه لإنقاذ حياته. يحكي لنا الكاتب في كتابه عن الظروف التي سبقت عملية اغتيال لوركا بتفاصيل دقيقة فيقول:

“إنه بعد أن اقتيد بقوّة من منزله في فوينتي باكيروس من طرفِ رجلٍ ضخم الجسم، له عينان غائرتان وكان حاجباه كثّيّن معقودين، كان الليل بهيماً حالكاً لا يظهر فيه قمر، وكان لوركا يمشي الهوينىَ بتؤدةٍ وتأنٍّ، كان مرفوقاً بخمسة من العساكر، وكان يسير إلى جانبه ثلاثة من المعتقلين الآخرين، وهم معلّم في مدرسة ذو شعر أبيض، كانت إحدى قدميه من خشب، ومُصارعيْن للثيران كانا مناوئيْن لفرانكو. وُضعوا جميعُهم في سيارة داكنة اتجهت بسرعة خاطفة نحو مكان تملؤه أشجار الزيتون، كان بأيدي العساكر مسدّسات من نوع “أسترا 900″، وبنادق ألمانية الصّنع من صنف “موسر”، وكان الجميع يعلمون أنهم ميّتون لا محالة”.

ويشير الكاتب إلى أن الغاية من التجمعات والمناورات التي كان يقوم بها فرانكو إلى جانب الحرس المدني، وعناصر اليمين هي تصفية “الجبهة الشعبية” التي كانت قد تشكّلت من قوى اليسار، والتي كانت قد ربحت الانتخابات العامة، وإنقاذ البلاد ممّا كانوا يعتبرونه الجمهورية الثانية، وهو نظام الحكم الذي كان قد أقيم عام 1931 في إسبانيا بعد طرد الدكتاتور العسكريّ “ميغيل بريمُو دي ريفيرا”.

شهادة الشّاعر ألبرتي

يخبرنا المؤلف أن جميع أصدقاء الشاعر وأفراد عائلته كانوا على يقين بأنّ لوركا تحدّق به المخاطر من كلّ جانب بعد أن وصل إلى غرناطة قادماً من مدريد ليختفي ويحتمي بين أهله وذويه في منزل أبيه بـ”فوينتي باكيورس”، كما أكّد ذلك الشاعر الأندلسي المعروف “رفائيل ألبرتي” الذي كان قد كشف النقابَ قبيل رحيله عن تفاصيل اغتيال لوركا، حيث يقول في هذا الخصوص: ” إن طبيباً إسبانياً يُدعىَ فرانسيسكو فيغا ديّاث كان شاهدَ عيان في مقتل الشاعر لوركا، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق السيارة التي كان لوركا بداخلها إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر من الحرس المدني الإسباني.

كانت الطريقة التي قتل بها لوركا لغزاً محيّراً، غامضاً، وقد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الحادث المأساوي، وحسَب الطبيب ديّاث، فانّ سائق السيارة كان قد زاره في عيادته في 31 غشت 1936 وحكى له أن الأحداث وقعت في جُنح الليل، وقد تعرّف السّائق على الذين تمّ إلقاء القبض عليهم وكان من بينهم الشاعر لوركا بواسطة الكشّافات التي أوقدها العساكر للقيام بعملية الاغتيال”.

يشير ألبرتي أن لوركا كان قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه بغرناطة؛ إذ كان يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر. وفي غرناطة لن يحدث له شيء، إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلّ منّا يحمل قدَرَه معه”.

ولقد سمع سائق السيارة لوركا يقول لقتلته: “ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا؟”، ثم ألقى العساكر به وبالشخص الذي كان معه-كان مُسنّاً وأعرج-داخل غمْرٍ منخفض، فبادر الشاعر إلى مساعدته على الوقوف ممّا زاد في حَنَق العساكر فضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه على أمّ رأسه وطفق القتلة ينعتونه بأحطّ النعوت، ثمّ أطلقوا النارَ عليه.

وأكّد السّائق أن إثنين من مُصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين كانوا قد قتلوا كذلك في تلك الليلة المشؤومة، وتتوافق رواية الشاعر ألبرتي مع السّرد الذي ساقه “إدواردُو مُولينا فاخاردُو” في كتابه الآنف الذكر.

كان لوركا قد تعرّض قبل هذا التاريخ لهجومٍ عنيف في منزله من طرف عناصر من “فالانخي”، (وهو حزب سياسي إسباني أسّس في 29 أكتوبر 1933 من طرف خوسّيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا، ابن عمّ الدكتاتور ميغيل بريمُو دي ريفيرا). حيث جرجروه على سلاليم منزله وأوثقوه إلى جذع شجرة في حديقة منزله وأشبعوه ضرباً مُبرحاً، كان لوركا يشعر بذعرٍ رهيب لأنه كان لا يخفي تعاطفه مع الجمهوريين، وكان قد صرّح لأحد أصدقائه من الصحافيّين البارزين قائلا: “بما أنني لم أعر اهتماماً ليوم مولدي، فلن أعيرَ اهتماماً ليوم مماتي”.

الصّديق عند الضّيق

ويقول الكاتب فاخاردو: “كان من المنتظر أن يعود العساكر إليه بعد يوم أو آخر، وهذا ما حدث بالفعل؛ إذ عندما كان مختبئاً بمنزل صديقه الشاعر لويس روساليس وصلت كوكبة من السيارات العسكرية وعلى متنها حوالي مئة عسكري وحوّطوا المنزل، عندئذٍ خرج الشاعر لوركا وهو يرتعد من الرّعب، وألقوا القبض عليه واقتادوه إلى بناية حكومية غير بعيدة عن منزل صديقه الشّاعر روساليس، وعندما هبط الليل أخذوه إلى الهضاب المجاورة وزُجّ به في سجنٍ كان في قريةٍ تُسمّى فيثنار.

عندما استُخرِج لوركا من سجن فيثنار، اقتيد إلى عمق الخلاء الحالك اللصيق بالطريق الرئيسية المعبّدة، حيث أمر العساكر المعتقلين بالتوقّف عن السّير، ورفعوا أسلحتهم في وضع التسديد عندئذٍ تعثر لوركا بحشائش الأرض اليابسة فلطمه أحد العساكر على رأسه ثمّ أطلقوا وَابِلاً من النار عليه فتوقف عن الحركة، ولكن هذه المرّة إلى الأبد”. وتزامن اغتيال لوركا مع انطلاق شرارة الحرب الأهلية الإسبانية التي لم تحطّ أوزارَها سوى بعد مرور ثلاثِ سنواتٍ عجاف.

يعتبر النقاد الإسبان، وغير الإسبان، فيدريكو غارسيا لوركا من أكبر وأكثر الشّعراء شعبيةً، ومن أبرزهم تأثيراً في الأدب الإسباني في القرن العشرين. وبالإضافة إلى الجائزة الشعرية العالمية الكبرى التي تنظّم كلّ سنة باسمه، تقام العديد من الاحتفالات، والتظاهرات الثقافية، والأدبية، والشعرية، والنقدية الهامّة حول لوركا بمشاركة العديد من الشّعراء والنقّاد الإسبان والأجانب، وغالباً ما تنظّم هذه اللقاءات في مسقط رأسه بمدينة فْوِينْتيِ بَاكِيرُوسْ، التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن غرناطة.

وقد أصبح منزل لوركا اليوم متحفاً له ولكافة أعماله الإبداعية على تنوّعها، كما يضمّ بعض مخطوطاته الشعرية الأصلية القديمة، وصوره، ورسوماته، ورسائله، وآثاره، ومخلّفاته، بما في ذلك البيانو الشّهير الذي عزف عليه لوركا نفسُه قيد حياته وبعض كبار الموسيقييّن الإسبان وغير الإسبان من المشاهير.

عندما تُقرع نواقيس الموت

بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936، وقد خلف لنا عشرات القصائد المبثوثة في العديد من دواوينه منها: “كتاب الأشعار”، و”قصائد غنائية”، و”القصائد الأولى”، و”أغاني الغجر الشعبية”، و”شاعر في نيويورك”، و”بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس”، وسواها من الأشعار والمسرحيات التي كان بارعا في كتابتها كذلك.

لم يتوقف لوركا عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة من هذا الطراز، كان للأندلس فيها نصيب الأسد، كان شاعراً مُجدّداً وفريداً، وطائراً غرّيداً في الشعر، كان من الطليعييّن حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين بدون منازع.

قال عندما كان على بضعِ خطواتٍ قليلةٍ من نهر “الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل اسمَه العربيّ القديم إلى اليوم:
أصواتُ الموت دَقّتْ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه، وَمَاتَ على جنب
كات له مقدرة هائلة في التغنّي بالجمال، والتحلّي بالأمل، وتجسيم الآلام والمعاناة، إنه يقول:
ما هو مآلُ الشّعراء، والأشياء الناعسة؟
التي لا يذكرها أحد، آهٍ يا شمس الأنواء؟
أيّها الماء الزّلال، والقمر الجديد
يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابيّة
إنني أشعر اليومَ في قلبي ارتجاج النجوم
وكلُّ الورود ناصعةُ البياض كحسرتي.

كان لوركا دائمَ الحديث عن الموت في شعره، إنه يقول في مرثيّةٍ مؤثرة عن أحد أصدقائه من مُصارعي الثيران:
فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء، عن السّماء الجريحة الزّرقاء.
امتلأ قلبي الحريريّ بالأضواء، والنواقيس الضائعة
والزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً

إلى ما وراء تلك الجبال، إلى ما وراء تلك البحار قريباً من النجوم.

ويقول في قصيدةٍ أخرى:
خليلي أريد أن أموت، بريئاً على سريري
الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية **
الشّاعر مِعزَفٍ كونيّ مُتعدّد الأوتار والألحان.
الشاعر مِعزَفٌ كوني

كتبت الناقدة المكسيكية “إِيرْمَا فوينتيس” تقول عن مأساة اغتيال لوركا: “الشّعراء مثل الأبطال يطبعونَ شعوبَهم بطابعهم الخاص ويجعلونها تتميّز عن الشعوب الأخرى، ويندّ عن قصائدهم ضوءٌ مشعّ وهّاج متعدّد الألوان، يجعل الرّجالَ يتوحّدون على الرّغم من اختلاف أجناسهم، وتباين ثقافتهم.

وكلّ شاعر بغضّ النظر عن الزّمن الذي قيّض له قدرُه أن يولد ويعيش فيه، يُصبح شبيهاً بمعزفٍ كوني متعدّد الأوتار والألحان يأخذ بألباب كلّ موجود حيّ في أيِّ صقعٍ من أصقاع الأرض.

ولذلك، فإنّ فقدان أيّ شاعر يشكّل حدثاً تراجيدياً تمسّ مأساتُه الإنسانيةَ جمعاء، وأمّا إذا اغتيل شاعر ظلماً مثل حال الشّاعر لوركا، فإنّ الشّعور بالمأساة يكون أكثر فداحةً وأعمق إيلاماً”.

شاعر أندلسيّ في كوبا ونيويورك

إختار فيديريكو غارسيا لوركا مصيره المحتوم وهو بعد صبيّ غرّير بقريته المغمورة إبّانئذٍ فوينتي باكيروس ،ثمّ وهو طالب في إقامة الطلبة بمدريد وأخيراً وهو شاعر بدأ يشقّ طريق الشهرة الواسعة بديوانه (شاعر في نيويورك)، وبرسائلة العائلية الحميمية التي وجّهها لوالده ولأسرته من غربته النائية حيث اختار طريقه كشاعر مصداح لا يشقّ له غبارأينما حلّ وارتحل.

كان لوركا قد كتب ديوانه الشهير (شاعر فى نيويويرك) خلال وجوده بجامعة ‘كولومبيا الأمريكية’ بنيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، وقد نُشر هذا الديوان لأوّل مرّة عام 1940 أيّ 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعضَ المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرّحلة في العمق هو هروبه وإبتعاده عن جوّ المهاترات، والمشاحنات والبغضاء الذي كان قد أصبح سائداً في الوسط الدراسي بمدريد، حيث أصيب لوركا من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، وحزن عميق، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ على الشاعرالغرناطي، إلاّ أنه أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يُوسم بها الأمريكان البيض الأقليّةَ من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخةً مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري في هذا المجتمع الغارق فى التصنيع، والإغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة إحترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى إعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الاقتصادي، والتطوّر الاجتماعي ،والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.

يتألّف المخطوط الأوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة ،بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني”خوسّيه بيرغامين” (الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره) إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنجليزية “رولف هومفريس”، وظلّ المخطوط في النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية “مانويلا ساهافيدرا” وفي عام 2003 أمكن لـ ” مؤسّسة غارسيا لوركا” إستعادةَ هذا المخطوط بعد إقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم إشترته أخيراً وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007.

من القصائد التي يتضمّنها الديوان: ”السّماء الحيّة”،و”البانوراما العمياء لنيويورك’”، و”الموت”، و”غنائية الحَمَام”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل إسم ‘قصيدة الحمائم الحالكة)، و”قصيدة الثور والياسمين”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل عنوان “قصيدة الحلم في الهواء الطلق”، و”أرض وقمر”، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: “ديوان تماريت”، (كذا)، أيّ باستعمال كلمة (ديوان ) كما تنطق وتستعمل في اللغة العربية إلى اليوم.

أصواتُ الموت دَقّتْ بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير

من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره وإستمرّ في الكتابة حتى يوم إغتياله عام 1936 و قد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه مثل “كتاب الأشعار” ، و”قصائد غنائية” ،و “القصائد الأولى” ،و “أغاني الغجر الشعبية” ،و “شاعر فى نيويورك” ،و”بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس” ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو إستمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟

قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر ” الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل إسمه العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم :
أصواتُ الموت دَقّتْ ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه، وَمَاتَ على جنب.

على الرغم من شَغَفِه بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، كان لوركا مجدّدا و فريدا، و طائرا غرّيدا في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصور، والتشكيل، و الرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين.

على أوراق أحزانه،وفوق لجج هموم بحره منذ الصّغر، وإلى تلك المرثيّة التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا دائم الحديث عن الموت في شعره:
فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء، عن السّماء الجريحة الزّرقاء.
ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار:
إمتلأ قلبي الحريري بالأضواء، والنواقيس الضائعة
و الزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً
ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار
قريباً من النجوم.
ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى:
خليلي أريد أن أموت، بريئاً على سريري
الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية **.

ولم تتحقق له هذه الأمنية، فقد مات لوركا مقتولاً مُجندلاً، طريحاً.. مات مغتالاً برصاص الغدر، والخيانة، والكراهية من أعداء الكلمة الحرّة ،وأعداء الشّعر، وأعداء الحياة.
________________________________________
* كاتب وباحث مُترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية -الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا – كولومبيا.

** الأشعار والنصوص المُدْرَجة ضمن هذا المقال هي من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية.

*** تحريراً في مسقط رأس لوركا (فوينتي باكيروس) غرناطة الحمراء في ظهيرة فاتح سبتمبر 2024.

https://anbaaexpress.ma/figoi

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى