في التحليل النّفسي للمغالطة، لا بأس ببسط القول بعد باع طويل في اصطياد طيف المغالطة، وكيف تتفاعل النّفس لحظة المغالطة، وهو أمر لا زال المنطق عاجزا عن توفير مصحة عامة ولم يتحوّل إلى إكلينيك حقيقي لضبط المغالطة عبر أدوات تحليل-نفسية. وفي غياب هذه المهمّة، تعيّن رصدها في ذلك الإلتفاف الكبير على الوسط المنطقي في العملية الاستدلالية.
لا يطرأ شيء على الرّويّة ما دام إدراك المقدّمات ليس هو العامل الأساسي في الاستنتاج. هذه عملية تتعلّق بصفّ معطيات صفّا صفّا.
يهيم المُغالط في بسط القول في المقدمات، وحتى حين الوصف، لا يقف على العنصر المعني بإيراد المقدّمة، حيث إيراد المقدمات يتحدد بحاجة المتلقِّي لا بإرادة المُخاطب. ويشطّ المغالط فيما ينفع ولا ينفع من المقدّمات في العملية الاستدلالية.
وهو إذ يطنب في المقدّمات، إنّما يساعد المتلقي على خفظ نباهته، قبل أن يمرر بخفة ذلك الوسط المظنون، ضمن كلّ هذه الإيرادات البديهية لمقدّمات يتراخى في استقبالها الذهن، فتشكل مخدرا بفعل التكرار الجالب لتبلّد الإحساس، فيصبح المنطق تحت طائلة المغالطة عنصرا في التخدير حين لا نحترم ما تقتضيه العملية الاستدلالية من حجم المقدمات، احترام زمن الاستنتاج، لأنّ العملية الاستنتاجية حين تتأخّر عن موعدها الفوري تفقد قيمتها ويخفّ إنزيم التشوق لها وتنخفض كمية الأدرينالين المصاحبة لانفراج الدليل.
إنّ الاستدلال الصحيح يورث صاحبه عقلا وقّادا، بينما تكمن معضلة المنطق في هذه الهشاشة التي تسمح بمرور المغالطة، وكل الحكاية تكمن في استبصار الوسط أو الحجة المنطقية التي بها تثبت الكبرى للصغرى في القضايا الحملية. إنّ المشكلة ليست في الموضوع ولا في المحمول بل في الوسط.
فأمّا المغالط الذي يقع في المغالطة وهو جاهل بقواعد المنطق، وإنّما يستسلم لغريزة المغالطة في مكر الطبيعة الغريزية، هو أهون ممن أدرك بعض قواعد المنطق الكلاسيكية أو المحدثة، فتأتي المغالطة ممنطقة في لبوس خادع، يتوسّل التّكلُّم ويلتفُّ على اللّغة فقها وفلسفة. وما بين الحقيقة والمجاز تسكن المغالطة.
من يمارس المغالطة باستئناس شعوري، وهي جنحة ترقى عند العناد إلى جريمة ضدّ الدّماغ البشري، يكتسب سمة نفسية سرعان ما تتراكم فتورث فسادا في الذهن والضمير. لكن لا ننسى أنّ طريقة تفكيرنا تؤثر تشريحيا على الدّماغ كما تؤثر نمطيا على التفكير، تلك عدالة الطبيعة.
سيغالط المغالط نفسه بعد حين، وسيختلّ التصالح مع العقل والنفس، ويحصل شكل من الاضطراب النفسي الذي ينتج عن الضّحالة والخواء المنطقي للنفس، حيث تصبح الذات مرتهنة لعبودية المغالطة القهرية، كالوسواس القهري، وهي شخصيات معرضة للإكتئاب الحادّ.
المُغالط كائن هارب من كل التزاماته المنطقية والأخلاقية تجاه الحقيقة، تارة يختفي في اللغة حدّ الرّطانة، وتارة يختفي في نوبات ذُهانية، وغالبا ما تنتهي لعبة المغالطة إلى مغالطة مُسَرْطِنَة، فالمنطق أيا كانت نواقصه ليس ضامنا للصحة الفكرية فحسب، بل هو أيضا ضامن للصحة البدنية. فمن المغالطة ما قتل.
مشكلة المنطق إمّا أن تكون ذات صلة بالجهل، فيكون المدار في أزمة المنطق هو العلم والجهل، وتارة هي مشكلة نفسية حادّة، فوجب العلاج. فالذين يصعب عليهم فهم المغالطة أو عدم استيعاب فكرة التناقض، وهي أسّ المنطق حتى أنّنا ما يبدو بديهيا كمبدأ الهوية يقوم هو نفسه على مبدأ نفي التّناقض، إنّ رائد الحكمة المتعالية سبق وأوضح بما لا رجعة فيه من حيث قوة بداهته.
حيث وضع ثلاثة حلول: الأول ما يعني إعادة تأهيل من فاتته القواعد العقلية والمباديء الرياضية كي يدرك استحالة التناقض على الشروط المقررة في هذه الاستحالة، وإلاّ تعرض للعلاج إن غلبت عليه المُرَّة وعكرت مزاجه وإلاّ: عرّضوه للحرق (لا تذهب بعيدا، لنقل الكيّ) حتى يميز بين الحرق واللاّحرق، وبعبيري: يتعرض للركل حتى يميز بين الركل واللاّركل، الصفع واللاّصفع، آبْشاكي واللاّآبْشكي.
إنّ ما تعانيه البشرية اليوم مع تسونامي التواصل والمعرفة التي جرفت معها سيلا جارفا من المغالطات، هو ظاهرة الأُنس بالمغالطة والإستهلاك العمومي لها، كلّ شيء تبرره مهارة التّفاهة، موت الضمير وتراجع أخلاقيات الاعتراف.
إنّ سوق الأفكار فسدت، فقلّما ترى رأيا نقيّا وخالصا من شوائب المغالطة في الآن وفي المآل. والمغالطة لم تعد قضية تحملها جُمَلٌ لغوية، مفيدة، بل باتت ابتزازا باللغة والرمز والإيمائية والمسرح الصامت والناطق، حيثما وليت وجهك تصفعك مغالطة، حتى باتت هي الهواء الذي به نحيا.
هذا يؤكّد بأنّ المغالطة عانقت شموليتها، وهي تتطلّب ثورة حضارية تمسّ الدماغ والنفس والذّوق والحياة العامّة، قضية الصحة والتربية والوعي والاقتصاد.. لذا لا ينفع الحجاج، إلاّ في مزيد من المغالطة، فهي باتت تتقمّض مهنة المنطقي، هي كالفيروس يخترق الخلية ويبرمجها ويجعلها هي من يقوم بوظيفته.
هكذا حينما هيمنت المغالطة على العالم، جعلت كل شيء في خدمة التّفاهة: التربية والمعرفة والاقتصاد والفن والسياسة وحتى الأخلاق، باتت هناك أخلاق تسند التّفاهة باعتبارها رأيا أو نظرا أو آخرية أو أنسنة أو..
علّمتني الحياة، أنّ العالم بات برّية للقول الخفيف، والعقد الاجتماعي للمغالطة بات مقدّسا، ولا يكفي المنطق أن يكون محصّنا للفكر من الخطأ إلاّ بشرط أن يكون محصنا لنفسه أوّلا من النّقائص، لعلّ أهمها إسناده بالتحليل النفسي للمغالطة، إنشاء إكلينيك خاص بالمُغالِط كعُصابيّ، صناعة دواء (أقراصا وإبر) ومضادات حيوية للمغالطة.
في كنانيش السياسات والحركات والأحزاب ويوميات القول الخفيف، تجتاحنا مغالطات تجعل من الحياة قطعة من جحيم، وتؤكد أن أكبر خدعة في عالم النوع هي أنّنا على قدر هائل من المعرفة، بينما لا زلت أشفق على أنفسنا، بأننا كلّما تقدمنا في خبرة الحياة شعرنا بالجهل يزداد سيطرة على العقول والمُهَج، لذا لا زلت أتعلم الكثير من إيماءات الطفل وذكاء القطط الوقاد غير المصحوب بالعجرفة الخادعة ونفاق العقل برسم طوره اللّعبي (homo-ludens) وحقبته الدّلوية، ليس بالمفهوم التنجيمي، بل الحقبة السّطلية، حيث استوى العلم والجهل وانهار الحسّ المشترك.