ولدت في أسرة متوسطة الحال أب و أم و اخوات بنات، كان همها تحقيق أحلامها الكبيرة، دراسات عليا و وظيفة تليق بما ستحققه من شواهد عليا، كان والداها فرحين بها و بطموحها و بسمو أخلاقها، كانت هي نبع الحنان داخل الأسرة، وجودها يبعث السعادة و الدفء بين جميع مكونات الاسرة الصغيرة، من خلال كلامها و الحكم التي تنطق بها و المواضيع التي تتطرق لها تفتح نقاشات و تديرها بمهنية كبيرة وكل هذا و هي صغيرة السن.
كانت قارئة بامتياز تختلي بنفسها حاملة كتابا تلتهمه إلتهاما أو مجلة لا تتركها إلا و قد أحاطت بكل مواضيعها، و لما بلغت من العمر ستة عشر سنة أصيب والدها بمرض خبيث سرطان الحنجرة، فنزل الخبر على أسرتها كالصاعقة إرتج عرش البيت جميعهم دخلوا في حزن عميق، ماذا وقع ؟ و كيف وقع ؟ و لماذا الآن؟..
أسئلة تناثرت أمام حيرتهن جميعا ؟؟؟ طرحن سؤالا واحدا ما العمل أمام هذا المصاب ؟.
المرض خطير و كلفته مرتفعة و الدولة لا تدعمه الا بفتات لا يسمن و لا يغني من جوع ؟ الأب مو ظف بسيط مثله مثل كثير من المواطنين البسطاء إقتنع بفكرة قبر الحياة شراء شقة بسيطة بأقساط تمتد عبر الزمان لتصل لخمس و عشرين عاما، تحصد ربع الراتب و كل ما يتبقى موزع على مصروف يومي، مأكل و مشرب و تطبيب و دراهم للنقل عبر وسائل عمومية له و لبناته، راتبه ينتهي قبل متم كل شهر، غابت لمة الأسرة و غابت الإبتسامة من الوجوه كل واحد دخل في توقعات و تخيلات و فرضيات، هل الخبر قابل للنشر ؟ كيف يتم تصريفه داخل العائلتين عائلة الزوج و عائلة الزوجة ؟
بدأت حصص العلاج الكميائي و بدأت ملامح وجه الأب و صحته يتغيران و الأوجاع تتعب الاب و الزوجة تكابد في صمت و البنات يتناوبن مع والدتهن في العناية به، و إستمر الحال لمدة سنتين، فتدخل صديق الأسرة صديق والد البنات و طلب من صديقه المصاب أن يهب الشقة الوحيدة التي يملك على الزوجة و البنات مخافة من تشردهن بعد وفاته، فاستحسن الوالد ذلك العرض و لكنه صدم بأن البنك الذي أقرضه مبلغ الشقة لغياب الضمانات و هو المريض بمرض مزمن كلفته تفوق الخيال.
فرفض السماح له بذلك بعدما علم المدير بحالة زبونه الصحية فزاد حزنه وصدمته و جرح قلبه إيلامًا لما حكاه له صاحبه من حوادث وقعت لأناس تركوا زوجة و بنات، فكان الضياع و التشرد و خاصة عندما تكون الزوجة ربة بيت و لا وظيفة لها سوى رعاية البنات و البنات يكن في سن صغير يعني قاصرات.
بنته النشيطة التي كانت هي دينامو البيت أصابها حزن عميق إثر على عطائها و جعلها مكتئبة و خاصة بعد سماع صديق والدها لما حكاه له أمامهن و كانت الصدمة أكبر عندما سمعن برفض مدير البنك لطلب والدهن، ومضت سنتان أخريتان و الزوجة و البنات في سباق مع الزمن.
الوالد يقاوم و مقاومته لم تقو على هزم هذا العدو الفتاك الشرس، بل أصبح جسده عظام نخرة غير مكسوة بلحم و عيون جاحظه و رموش طولها مثير للناظر، خلال هذه المدة زيارات الأهل والأولاد كانت قليلة و شحيحة و كل ما كان من مال على قلته ذهب وراح.
و تراكمت الديون و إنقطعت البنت النشيطة عن متابعة دراستها و الأم أصبحت تشتغل خلال أيام الاسبوع في تنظيف الشقق مقابل مال لا يكاد يسد الحاجة، فاشتغلت البنت في مقهى و تعرضت لكل أنواع الاهانة و التحرش.
كانت صابرة محتسبة راضية بقدرها، همها مساعدة والد لم يكن يبخل عليها بشيء من مأكل و مشرب و ملبس و تطبيب و نقود للنقل العمومي و كتب و مجلات، فعرضت عليها “صديقة ” الاشتغال معها في مطعم ملهى ليلي لتحسن من مدخولها لما علمته من حال والدها و مرضه المكلف و المرهق للأسرة صحيا و ماديا.
فقبلت على مضض كيف لا تقبل و هي ترى والدها يتألم ووالدتها التي كانت معززة مكرمة تشتغل داخل البيوت و تتعرض بدورها للإهانة بشتى تلاوينها.
نعم قبلت و هنا بدأت تحرشات أخرى من نوع “راق” دعوتها للسهر بعد العمل و هي الجميلة خلقا وخلقا و أمام الإغراءات و حالة والدها التي تزداد سوءا كانت تستسلم و بدأ ضياعها من خلال إعتيادها على التدخين بجميع أصنافه مخدرات و تناول مسكرات و إعتياد على السهر.
مات الوالد و دخل الورثة “العصبة ” على الخط و بيعت الشقة و بقيت البنت هي المعيلة للأسرة جميعها، لم تفرط و لم تجعل اخواتها يغادرن التمدرس و هي التي ضحت بكل شيء في مجتمع لا يرحم و مجتمع منافق كثير من أهله، عندما يتعلق الأمر بالارث يتلون عليك الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية و عندما يتعلق الامر بالتضامن و التآزر و التزاور يعتذرون لكثرة المشاغل ؟
هل البنت كانت ضحية ؟ أم كان عليها أن تسلك مسلكا آخر؟ و هل طرقت أبوابا أخرى و لما سدت في وجهها ذهبت حيث علمتم؟ و هناك من يقول الحرة لا تأكل بثدييها ؟ و هناك من سيقول..
و لكن المثل المغربي يقول “ما تيحس بالمزود غير المخبوط بيه و لا المدگوگ فيه”.
هنا تكون حكايتنا قد إنتهت و لم تنته معها معاناة ورثة بنات و مرضى سرطان، و تحرش ضد النساء، و تسلط من تسقط بأيديهن من يطلبن لقمة حلالا و هلم جرا.