آراءثقافة

نحو قتل الشخصية وتتويج ضمائر الأنا في السرد الجديد.. نحو تخفي الشخصية في السرد الجديد

قراءة في أنماط السرد بالضمير المتكلم من خلال كتاب: "السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع" لمحمد الداهي

إعداد: حياة البستاتي

 الكتابة وقوفا: شرط الإبداع الأدبي 

“لا يمكن الجلوس على كرسيين في الوقت نفسه”.. إلى أي حد تمتلك مشروعيتها في التفكير الأدبي؟

.. حين تتبدى الكتابة وقوفا لا جلوسا، حتى عندما نكتب جالسين لكمون هويتها في الإنجاز و الهمة والعزم، وهي مما تتناسب مع الوقوف أكثر، تضحى الكتابة كينونة واقفة، وباعتبار الكاتب ماهو إلا الموقوف بنظره والواقف بمواقفه، تأتي نصوصه تعاقب وقفات، ففي الأدب لا يمكن أن نبدع إلا بقومة الحس، وفورة رهافته، ويقظة الوعي، واستيقاظ الفطنة ونشاطها، وتأهب العقل إلى إعلان كلمته بعد أن يختار لها ألفاظا ودلالات، ويقيم لها أسلوبا مخصوصا، ليتولد من كل ذلك الوقفة الأدبية والموقف الفكري والفني مما تمثل في ذهنه عن الأشياء والأشخاص والأحوال، ثم يعبر من ذلك كله إلى كيمياء القراء.

وفي أدب الذات تتشابك خيوط الدراسات النقدية كتشابك خيوط السرد الشخصي، فلا تبقى رهينة جلوس أو وقوف والحال استنطاق لما يضحى له عمق في الزمن والذاكرة والجلد، و”نرجس” لم يعد من السذاجة ليبقى عاكفا على ملامح وجهه في الماء، ولا السارد الواحد صار قادرا على نقل كل انكسارات وشروخ الأنفس والجماعات. لتتحول كتابات الذات إلى وسيط جديد نحو فهم الحقائق، ونحو وعي متبصر بسعة عوالمها وكثرة مسالكها المدهشة، وحين يجتمع التخييل بالذات والكتابة، يصير الجمالي نفسه نمطا آخر من مقاربة الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأسلوبا متفردا في الإدراك والمعرفة. وسيرا حثيثا نحو طرائق جديدة للفهم والتأسيس.

الآلية الجديدة منطق جديد: آلية تخفي الشخصية: أبعاد ودلالات

ذكاء اللغة الأدبية:

كل آلية جديدة تُبتكر في الكتابة منطق جديد في الحياة،ليس والأدب ليس مجرد أقوال بين الفتنة والبلاغة، وبين الغواية والبيان، أو ساحة لِلُعبة التأويل وإمكانات التلقي المفتوحة، إنما هو أفعال اللغة التي تتجاوز الإفهام والكشف، وتَقَصُّد الإبهام والحَجْب، إلى الخلق والخرق والفتق، في ممارسة نوع من التفكير المتفرد في الحياة والظواهر والإنسان والزمن، وإذا كان التفكير الفلسفي طريقة للنظر العقلي المؤسس على قواعد ومعايير مضبوطة ومحددة مرتبطة بالخطاب الحجاجي ومباديء المنطق، فإن التفكير الأدبي نمط مختلف من الاشتغال والنظر، ينتج لغة ببعدين اثنين جمالي وحجاجي، وله منطقه الخاص الذي ويصبغ اجراءاته بخصوصيته، كما يطبع بطابعه العالي طرائق عرض موضوعاته، ومقاربتها بوجهات نظر مختلفة باختلاف توجهات ورؤى وتجارب أصحابها.

وهو يمضي إلى قرائه ببلاغتين بلاغة الإمتاع، وبلاغة الإقناع، و بأثرين أثر السياق أو ما يسميه القدماء المقام ومقتضى الحال، وأثر كيمياء القراءة ومرجعها القاريء نفسه، وطبيعة القراءة التي ينجزها للمقروء، ليتكونكون النصوص الأدبي ه قيمة في حد ذاتها بغض النظر عن مقاصدها التي يُفترض فيها الانشغال بالقيم الإنسانية الكونية الكبرى.

ولأن اللغة الأدبية لا تقول بالملفوظات فقط،إنما تفعل وتعني بمحور انتقائها، وطبيعة تراصفها وترتيبهاوتركيبها، فالإجرائية فيها غاية ووسيلة ، وكل تقنية فنية، أوظاهرة بلاغية، أو آلية جمالية، من مجاز وتقديم وتأخير وحذف وتكرار وتضام.. إنما تحضر بالشكل الذي تحضر به لتنتج بذلك معنى خاصا، لا لتقتصر على أداءؤدي وظيفتهاة التداولية والدلالية، لأنها فهي في حد ذاتها حاملة لرؤيا، وكاشفة لطريقة تفكير، بل هي الفكرة المطروحة في تجليها باللغة.

فوالتطور الذي يطرأ على أسلوب الكتابة من ثمة، هو نتاج تطور حاصل في الفكر الإنساني والتجارب المعيشة للكاتب إن على المستوى الاجتماعي أو المستوى الفردي.

وآليات الكتابة المستجدة ليست علامات بصرية وصوتية فحسب، بل هي تأدية لمعان لا تؤدى إلا بها، ومستويات من النظر جديدة، وبهذا تتفرد اللغة الأدبية بفطنتها واستشعارها اليقظ، ونباهة منطقها وهي تلتقط بلطف ما يحدث في الوعي والحياة من تغير، وفي ذات الوقت تدفع إليه وهو ما يجعلها نوعا من الذكاء الرمزي الملازم للوعي الإنساني، العامل من أجل حضوره الوجودي والمثار بأسئلته وحاجاته وآماله.

الكتابة عن الذات بين الأمس واليوم

ولا ندعي أن الكتابة الجديدة ليست وليدة اليوم، ففي عصور قديمة كانت هناك كتابات مختلفة دائما عن المألوفة الكلاسيكية، فوالتحولات التي تعرفها الحياة بالاِنعطافات التاريخية الكبرى كانت دائما رياح التغيير التي تهب على أشكال الكتابة وطرائقها.

فتحولل في المباني والمعاني والمفاهيم والنظريات والوسائط التعبيرية والجمالية، و فكتابة النثر مثلا في حقب مضت، لم تكن لم تكن في مقام الكتابة الشعرية إلى حد أن الناثر الكلاسيكي يتجنب كشف اسمه للقراء حتى لا يشينه ذلك، فكانت كتابة الشعر كانت ولا تزال ترفعه، ولكن الكتابة النثرية كانت بمثابة إقرارا بالعجز عن النظم ، وقس على ذلككذلك كانت كتابة الذات/الكتابة الذاتية أو الكتابة الذاتية، فإلى عهد قريب لم يكن هناك من يجرؤ على التحدث عن نفسه، والذي يتجاسر على قائم بذلك إنما يكون مقترفا لما يستحب تركه، وهوهو بصدد فضحها بالإخبار عنها في سطور حميمة، فلم تكن في عرف النقاد والأدباء إلا كتابة سطحية نرجسية سخيفة لا شيء فيها يستحق الاحتفاء، وغالبا ما كانت تحضر في جنس يصطلح عليه بـ”السيرة الذاتية”، وهي تهمخاصة بالمشاهير والنجوم أو الأثرياء من الرياضيين والسينمائيين وغيرهم، ثم تغير كل ذلك مع الزمن، وصار الضمير “أنا” عزيزا بين الضمائر،وهو أميرها المدلل الذي شرعملك الضمائر ينافس الملك الضمائر المعهود/ ضمير الغائب.

وصارت الجماهير العريضة في كل الدنيا تتعاطى هذه الممارسة الشخصية، وتبتغي التأثير واستقطاب الإعجاب، وهي متأثرة بالتحول الرقمي، والثورة القيمية التي غيرت أنماط العيش ومعايير الحكم والتقييم في المجتمع الإنساني، فبات حديث الشخص عن أموره الخاصة – حتى إن كان روتينا يوميا – مما يجعله يحصد الكثير من المشاهدات والإعجاب،ومما يمنح محتواه الشفافية والمصداقية، وصارت الكتابة الشخصية سواء في مواقع التواصل الاجتماعي، أو خارجها ميدانا يتسع ويرحب ليحتوي أنماطا متنوعة من الأشكال والأجناس، خصوصا في ما أضحى موسوما بمابعد الحداثة، ولم يتوقف شأنه في هذا الشأو، بل صار فلالكتابة الذاتية لها أخواتها، والسرود في السنوات الأخيرة أضحت تنحو منحى تخفي الشخصية..

فلياستأثر الأنا بالحضور والتمركز في الواقع والمواقع والكتابة الجديدةلسردية الجديدة. وطلعت علينا كتابات ابتعدت عن الرواية الكلاسيكية وتقنياتها، تشتغل بالأنا وأقنعته ،بات السارد فيها متعددا ولكنه يخدم ضمير الذات بكل مستويات حضوره، فجعلنا أمام كتابة تشترك مع السيرة الذاتية ومع الرواية ومع التاريخ، ولكنها في نفس الوقت تختلف عنها جميعها، وتقيم في منطقة ملتبسة تنسج داخلها علاقة الأشياء بالكلمات، والكتابة بالوجود، وهي تتأمل الزمن وأثره، والإنسان وأحواله، والتاريخ ومصداقيته، والذاكرة ومكرها، وما لها وما عليها، والكتاب المقارب لـ”محمد الداهي” هو وقفة تأمل وتمحيص وتأصيل لهذا الجنس وعلاقته بأشباهه.

فما هي الفلسفة القائمة وراء تخفي الشخصية، وتعدد الكتابة المتمركزة حول الأنا في الكتابة السردية الجديدة؟ ما أنماط هذه الكتابة؟ ما أطروحة “محمد الداهي” في مؤلفه الفريد في هذا الباب؟ ماذا يعني التخييل الذاتي الذي يقدمه لنا الكاتب في هذا المؤلف؟

كتاب برائحة القرنفل: المحتوى والمنهج

كل كتاب أقرؤه له عندي رائحة مميزة، فكتاب برائحة الياسمين، وكتاب برائحة الزعتر، وكتاب برائحة زهر اللوز، وبعض الكتب روائحها مركزة وقوية لا أضطر إلى العودة إليها مطلقا، وبعضها رائحته منعشة خفيفة كنسيم الربيع المبهج، بعضها أعبر به إلى خارج المكان والزمان، وأمضي من خلالها إلى جهة لا يعلمها إلا الله، وبعضها يلفحك عنوانها فيلسع وجهك شواظ نارها قبل أن تقلب صفحاتها، بعضها الآخر أقيم فيه ولا أترك إقامتي المعشوقة أبدا.

وكل الكتب حتى التي لا رائحة لها تذكرك بالسماء والمطر وحفيف أوراق الشجر، هذه الكتب عندي من آيات الله، أمم تتشكل بعقولنا وبأسماء آدم كلها أو بعضها، لتكون مصابيح لاتمنحنا الضوء وحده، ولكنها تهب لنا هواء نقيا ونحن في طريق الحياة اللافح..

كتاب “محمد الداهي” تحت عنوان “السارد وتوأم الروح – من التمثيل إلى الاصطناع” – برائحة القرنفل ،عميق المقاربة، شفاف المنهج، حلو النظر، كبير الفائدة، دراسة سيميائية نظرية وتطبيقية لجنس الكتابات الذاتية ومستوياتها ومعاييرها ونماذجها ووجوه السارد فيها وهي مقاربة دقيقة وعميقة لثلاثين مؤلفا سرديا شخصيا تلتقي كلها في نفس المرتكزات والعناصر التقنية، تندرج تحت جناحين أحدهما: مركزية الذات، والثاني: شعرية الذاكرة، وتتوسل كلها بآليات التخييل التي تعمل على رتق الثقوب، وتغطية بياضات النسيان، كتابة تبئيرات، ومفارقات، ومزالق لغة مخاتلة تأتي شفافة ومعطوبة في الوقت نفسه، لتقربنا من خطاب لم تكن لهم هذه الأهمية في وقت مضى.

الكتاب من الحجم المتوسط، عدد صفحاته ه 399 صفحة، وهو في الطبعة الأولى، تم إصدارها سنة ،سنة إصدارها 2021م، ومن منشورات المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع / الدار البيضاء المغرب، استهل بفهرس للمحتويات في ورقتين، يكشف فيهما الكاتب عن بنية المؤلف المتأؤسسة على ثلاثة أقسام، في كل قسم ثلاثة فصول مع تقديم وخاتمة وثم خلاصة للقسم، ويتضمن كل فصل مجموعة من الموضوعات تؤشر عليها مجموعة من العناوين المنتقاة بعناية ودقة.

قدم للكتاب الدكتور “سعيد بنكراد” إمام السرديات والسيميائيات المغربي الذي اختار لتقديمه عنوان” القارة المجهولة”، والذي أضاء فيه قيمة الدراسةكتاب، و كاشفا أهمية موضوعها، وماعتبرا الذات هي “القارة المجهولة” التي شغلت بال كثير من المتخصصين قديما وحديثا، كما قدم الكاتب “محمد الداهي” باعتباره من الذين أسسوا لهذا النوع من الدراسات في المغرب، وفي كل الفضاء الثقافي العربي، ومن الأوائل الذين قدموا دراسات نظرية وتطبيقية في السرد الشخصي، مؤكدا أن التذويت لا تعني النرجسية وليست هروبا من المجموع والاحتماء بفضاء ذاتي خالص، بل هي طريقة في التميز داخل سياق أوسع من الذات، ثم هو يبرز قيمة المتخيل فيها، ويقول: يروم التخييل – على تفاوت درجاته ونسبه وجرعاته – إلى الإمساك بمناطق حياتية لا ترى في المعيش، واعتبر الكتاب أول محاولة عربية تحفر في المساحة التي ظلت شاغرة منذ شعرية أرسطو بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، وتبحث عن المواقع التي يشغلها قرناء الكاتب في الكتابة المستحدثة عن السيرة الذاتية الكلاسيكية.

وارتأى أن التخييل الذاتي مجال جديد لم يتأسس بعد كنوع سردي مستقل، وأوضح مدى اتفاقه مع “بول ريكور” /Paul Ricoeur في كون هذا الميل إلى الكتابة الشخصية مرجعه هو كون الذات تتعرف نفسها من خلال القصة التي ترويها لنفسها.

وتحت عنوان القسم الأول: “المعرفة بالأثر” شرع “محمد الداهي” في تقديم عينات من الكتابة المحتفى بها متطرقا إلى أحد أنماط السرد وهو السرد التاريخي، متوقفا عند السير ذاتي والتاريخي في تجربة “ابن خلدون”، وعارضا “أعطاب الذاكرة” ومبينا مفهوم “الشفافية الفارغة”، ليسلط الضوء على طبيعة تناول أحداث الماضي باعتماد تنويع السرد التاريخي، وأهمية التعديل والتجريح والطعن في حال زيغ السارد بدل إسقاط شهادته، لأنه وإن ابتعد عن الحقائق فهو ينتج مادة تخييلية مهمة، منبها إلى تأثر المسرود بالأهواء، والإفراط في التذكر أو النسيان، وفي موضوع توسيع شعرية الذاكرة تحدث عن مدى ارتباطها بمقصدية الالتفاف إلى الشهادات الممكنة التي تكون حول حدث ما، وقد تكشف ما هو غير متوقع، وتسعف لمعرفة قضايا لم يعرها التاريخ العام أدنى اهتمام، مثل ما باحت به “فدوى طوقان” من أسرار في سيرتها، وما أثاره “عبد الهادي الشرايبي” من أشكال حول وثيقة المطالبة بالاستقلال.

مشيرا إلى أن ما يتم تناقله مما قد يستجيب لضرورة شخصية قد يحتوي أشياء أكثر قيمة من التجربة الفردية باعتبار الفرد يعيش ظرفية يتشاركها مع مجموعة من الناس، وهي تعكس سياقا عاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا للمرحلة التي يغطيها سرده.

في القسم الثاني الموسوم بـ”جدارية ستندال” يقف عند ثلاثة محكيات ذاتية رئيسة/متون سير ذاتية، تتمثل في: “في الطفولة” لـ”عبد المجيد بن جلون”، و”البئر الأولى” لـ“جبرا إبراهيم جبرا”، و”الضريح” لـ”عبد الغني أبي العزم”.

وقد انشغل الكاتب فيها بسؤال مركزي في دراسته، هو: هل هذه السير هي صورة طبق الأصل من النموذج الذي تحاكيه؟ أم هي مجرد أثر للواقع؟، وتميز هذا القسم بتقديم أنماط من المواثيق بين الكاتب والقاريء، مع حديث عن نشأة السيرة الذاتية في المغرب، والتي يرجعها الى عملين أساسيين، هما: “ثمرة أنسي في التعريف بنفسي” لـ”أبي الربيع سليمان الحوات” في أواخر القرن الثاني عشر، ما بين 1790 و 1816م، ثم “الزاوية” للـ”تهامي الوزاني” سنة 1939م، نشر الأول عام 1996، والثاني عام 1942م، ومن أهم قضايا هذا القسم، كون السارد في السيرة الذاتية بعد سنوات من النسيان تفصله عن الأحداث الماضية، يعمل على الاشتغال بالتخييل من أجل الترميم، والمونتاج، وخلق التماسك بين حدث واقعي ومجموعة من الأحداث المتخيلة، العاملة في المناطق المنسية والمعتمة، أو المهملة لغرض من الأغراض.

ولذلك تأتي السير جامعة بين المرجعي والتخييلي، وغالبا ما يرتبط المتخيل بمعيارين: معيار احتمال الوقوع، ومعيار قابلية التحقق، وهنا تنزاح الكتابة إلى مواضع خاصة بجنس الرواية، ثم ينتقل إلى قضية طريفة تفيد كون التخييل يبقى الطريقة التي يمكن قول الحقيقة بها، وأن الرواية قد تكون أفضل من السيرة الذاتية في هذا الصدد كما يذهب “فيليب لوجون” /Philipe Lejeune، وبذلك يطلع علينا بالميثاق الاستيهامي المختلف عن الميثاق السير ذاتي، ولم يكتف الكاتب بهذه النماذج، بل استضاف إليها نصوصَ أعلام أجانب ليبرز اتجاهين في هذا الجنس.

اتجاه يرى بأن التجربة الذاتية أصيلة لا تتكرر، وهي بمثابة اعترافات خاصة ومن رواده مثلا “جون جاك روسو” Jean Jacques Rousseau/، واتجاه يجعلها حاضنة لصور مسكوكة متشابهة يمكن أن يعيشها الجميع كما عاين “فيليب لوجون” / Philippe Lejeune، و”أحمد اليبوري”.

في القسم الثالث والأخير، قدم الكاتب مفهوما جديدا هو التخييل الذاتي، حيث يكلف المؤلف شخصية خيالية تحمل اسمه باسترجاع حياته الشخصية، وهو ما فصل فيه “أرنو شميث”/Arnaud Schhmitt”.

وقد قدم الكاتب من خلال تصوره تمييزا بين ثلاثة مفاهيم هي: السيرة الذاتية والتخييل الذاتي والحكي الذاتي، واعتبر “سيرج دبروفسكي” Serge Doubrovsky مبتكرا لهذا المفهوم.

وقد أثبته على ظهر روايته “الابن/الخيوطfils” التي أصدرها عام1977م،حيث يمزج السارد بين صفات أمه، وبعض وقائع حياته الشخصية، وصفات لها متخيلة ووقائع يفترض أنه عاشها، ما جعل “ميخائيل باختين” يثير مفهوم “تأويلية اليومي”، ودفع بالنقاد إلى الحديث عن جنس هجين ليس سيرة ولا رواية”، و هو نفسه ما أثار عند “محمد الداهي” مفهوم “مكر التخييل الذاتي” لمجانبته الصدق والموضوعية.

وسيعد الكاتب “عبد القادر الشاوي” أول كاتب عربي وسم عينة من مؤلفاته بالتخييل الذاتي، وكتب السرد الشذري لصعوبة استرجاع تجاربه بطريقة متعاقبة، فتوسل في ذلك بالمقاطع المنفصلة الوامضة، وقد جعل لكل مقطع ومضته من الماضي البعيد التي تنقل ما كان له أثر على تكوينه الشخصي، وكذلك تلتبس الهوية وتمضي إلى الاصطناع عند “أحمد المديني” في مناوراته التخييلية -على حد تعبير المؤلف- وتخييله الذاتي العجائبي الناشيء من رسم شخصية غير واقعية للكاتب وقرنائه/أقنعته، وهو ينطلق في مغامرة السرد في عمليه “وردة للوقت المغربي” و”ممر الصفصاف”، لتغدو الهوية قاتلة وليست فقط غير مسعفة للإحاطة بما يريد الكاتب أن يقوله عن تجربته، ولذلك فهو يهجر تمثيلها ومحاولة نقل شبيهه الذي يسكن الماضي ليصنع له أقنعة عدة وتوائم تتكفل بحمل عبء البوح، فالتمثيل صدق وانعكاس ومرايا وواقع، وحقائق منقولة مشكوك في مصداقيتها، وإعمال ماكر للذاكرة، أما الاصطناع فاختلاق وأوهام وأحلام وورغبات غير مشبعة وملء للفراغات الباهتة والمظلمة.

والسارد يكون ممثلا في الأولى ومختلقا في الثانية، وقد يمضي متشبها بالشخصية الحقيقية، ولكنه يستعين أيضا بالاصطناع ليقدم شخصية غير التي عاشت في الواقع.

ملخص

وهكذا كان الكتاب علامة فارقة في باب التحولات التي عرفها جنس السيرة الذاتية لما بعد الحداثة، ومظاهر التجديد في تقنية السارد، وعلاقته بالواقع، والتاريخ، والزيف، والكذب، والصدق، والأمانة، والتخييل، والأصوات التي تشتغل معه لإظهار ما ينحو إلى إظهاره، وهو دراسة تركيبية محكمة النسج ينتقل فيها الدارس بكل سلاسة بين التنظير والتطبيق، وهو يعرض بعض أقوال و أعمال النقاد والأدباء الأجانب، ويضيء في خضمها متون السير العربية التي توقف عندها.

مبرزا تشابهها واختلافها، وأبرز التقنيات التي تعتمدها كاشفة عن جنس ثالث لم يحسم في هويته بعد، باعتباره ينتمي إلى منطقة ملتبسة قائمة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، ما جعل منه جنسا هجينا مختلفا عن السيرة الذاتية وعن الرواية أيضا، لتصل معه الى محتوى الحكاية للمتون التي اختارها في الوقت نفسه الذي تكتشف فيه ذكاء مقاربته لها بالشعرية والسيميائية والمقارنة.

أنماط الكتابة الذاتية بين الواقع والتخييل

حين قدم “محمد الداهي” دراسته اختار لها مجموعة من المتون الرئيسة، ولم يكن اختياره اعتباطا وكما اتفق، فهو دارس متخصص معروف باشتغاله الهاديء والرصين على خطاب الذات، ويكفي أن نشير إلى دراستيه القيمتين: “شعرية السيرة الذاتية محاولة تأصيل” طبعة2000م، و”الحقيقة الملتبسة، قراءة في أشكال الكتابة عن الذات”، طبعة 2007م، لنفهم عمق انشغاله بالموضوع، وكان من أبرز الأعمال الإبداعية التي شكلت المتون الرئيسة في كتابه قيد النظر: “ثورة المريدين” لـ “ابن سعيد العلوي”، و”البئر الأولى” لـ “جبرا إبراهيم جبرا”، “في الطفولة” لـ”عبد المجيد بنجلون” “دليل العنفوان”، و”دليل المدى” و”من قال أنا”، لـ “عبد القادر الشاوي”، و”ثمن الحرية” لـ”عبد الهادي الشرايبي” و”الرحلة الأصعب” لـ “فدوى طوقان” “الضريح” لـ “أبي عبد الغني العزم” “أنشودة الصحراء الدامية” لـ”ماء العينين ماء العينين” “وردة للوقت المغربي” و”ممر الصفصاف” و”رجال ظهر المهراز” لـ”أحمد المديني”، وقد توقف عند “الأيام” لـ”طه حسين”،و”سبعون” لـ “ميخائيل نعيمة”، ومن المتون الأجنبية التي استحضرها بمعرفة واسعة وتمكن كبير، نذكر: “الابن/ الخيوط” لـ “سرج دوبروفسكي” /Serge Doubrovsky، و”مذكرتي الأخيرة ، ضاحية بتولوز” لـ “ريمون أبيلو” /Raymond Abellio، و”قصتي” لـ “جستون بيما” /Jestum Pema، و”العلبة النيرة” و “رولان بارث بقلم رولان بارث” لـ “رولان بارث”/Roland Barthes، و”صرخة ساعة رملية” لـ”كلوي دولوم” Delaume Chloé/ ،و”فيليب” لـ “كامي لوران” / Camille Laurens، و”الطفلة الخالدة” لـ “فيليب فوريست” /Philipe Forest، وغيرها من الأسماء والأعلام، وهي كلها تندرج في الخطاب الذاتي الذي يسترجع فيه السارد وقائع كان لها أثر بالغ على نفسيته وتكوينه الشخصي، ولكنها ليست نمطا أدبيا واحدا، ففيها السيرة الذاتية والرواية وما يسمى السيرة الرواية.

وقد أشار الكاتب إلى أصناف أخرى من قبيل اليوميات، والاعترافات، والمذكرات، ومحكي الحياة، والسرد التاريخي، واستعمل مصطلح الرواية الشخصية، كما قدم جداول ضمنها بعض التصنيفات مع عناصرها المميزة، كما نجد في الصفحات: الصفحة: 31، حيث يميز بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، ويورد ضمن الأولى الرواية الشخصية، والرواية الترسلية، والرواية المذكرات، والرواية السيرة الذاتية، كما يورد ضمن الثانية: السيرة الذاتية، والتخييل الذاتي، والحكي الذاتي، وتخييل الواقع، والسرد التاريخي، والواقع التخييل، والصفحة: 35، حيث يعرف بهذه الأنماط في جدول توضيحي مميزا بين التخييل الذاتي ككتابة برزخية يسترجع فيها كائن خيالي حياة الكاتب باسمه /الهوية الاسمية، والسيرة الذاتية التخييلية التي تتصنع بالسيرة الذاتية دون الادعاء بوجود التطابق بين الكاتب والسارد والشخصية الرئيسة، لتقوم على الانفصال/غفلية الهوية، وفي الصفحة: 40، حيث يقدم الأصناف السابقة مميزا بينها بتعريفات، وفيها أن السيرة الذاتية حكي استعادي يركز فيه المؤلف على حياته الشخصية، وتتوافر فيه كل الشروط التي يستدعيها الميثاق السيرذاتي، في حين يمكن لباقي الأصناف أن تستوعب الجزء الأكبر منها دون أن تستوعبها كلها.

وفي جدول الصفحة: 124 يميز بين الخطابات التاريخية والخطابات التخييلية، ثم في الصفحة: 256 يقدم جدولا لثلاثة أصناف سردية ذاتية هي السيرة الذاتية والتخييل الذاتي والحكي الذاتي، هذا النمط الأخير يتجرأ فيه الكاتب على حميمية الآخرين متحملا مسؤولية ما يسرده ومغلبا المرجعية.

وفي موضوع السارد الذي يحتفي به العنوان، نلفي قضية الأقنعة، فالسارد قد يحضر من خلال ضمير الأنا، وقد يحضر بالضمير الغائب، كما قد يستحضر هوية مطابقة للكاتب يحضر أيضا بهوية منفصلة عنه، و تتعدد الأصوات التي يوزع الكاتب بينها مجموعة من الحقائق لتطرحها في برنامج سردي محكم رافض لمقولة البنية المغلقة، وموت المؤلف، وهي تحاول التحقيق في وقائع عن طريق إخفاء الشخصية، وتوسيع دائرة الأنا التي تكبر لتشمل كل الضمائر الأخرى، بتوسل التوالد اللغوي والأحلام والتداعي، حتى أن السارد يمكن أن يتعامل مع ذاته بصفته آخر، مع التنبيه إلى قضية التحريف الزمني طالما أن الكتابة لا يمكن أن تساير وتيرة زمن الحياة ، ولا يمكن أن تتطابق معها إلا كما يتطابق الشكل الهندسي المعقد بعد إسقاطه، على الخط المستقيم.

 خاتمة

تمكن “محمد الداهي” من ثمة في كتابه “السارد وتوأم الروح” من إماطة اللثام عن جنس أدبي جديد صار يشق طريقه بقوة وثبات، هو جنس “التخييل الذاتي” الذي لا ينتمي إلى السيرة الذاتية، ولا يندرج تحت جنس الرواية إلا إذا كان بالإمكان أن نجلس على كرسيين في ذات الوقت، وكشف عن علو كعبه، وطول باعه في استيعاب النظريات النقدية الغربية الحديثة، و براعة توظيفه المنهج السيميائي بحرفية عالية، بل بإبداع لافت، حين يمضي به في دراسة مقارنة سلسة ومنسابة متنقلا بين المتون والنظريات، وبين الأعمال العربية والأعمال الأجنبية، شاحذا أدوات اشتغاله التي يمكننا أن نستفيد منها، ومن طريقته لدراسة كثير من الأعمال الإبداعية العربية النثرية والشعرية، وكانت نصوصه وموضوعاته وجبات ثقافية ونقدية صحية وشاملة تمضي متوازنة بمصاحبة التطبيق بالنظر، مقتحمة لمنطقة ظلت في الظل قرونا طويلة مضيئا أنماط خطاب الذات، وملتقطا نقط التشابه والاختلاف بينها، متمكنا من المادة ومقتضيات مقاربتها، وقد اتسمت أطروحته بالجرأة لطرحها موضوعا غير ملتفت إليه، وبلغة نقدية رائقة بسطت المفاهيم وقدمتها بشكل ذكي وميسر غير معهود، وقد اعتدنا من كثير من نقادنا كتابة نقدية سيميائية ملغزة وشاقة بكثرة الطلاسم واستبداد ظاهرة الغموض.

فكان الكتاب من ثمة، مشجعا على قراءته لكاتب مغربي متمكن من عدته وأدواته، ويمكن أن نقول إن مسألة العودة إلى بوح الأنا بما تعرفه، أو تحتاجه، أو تتوقعه، أو تتمناه، يثير أهمية دراسة الأوهام الإنسانية واللاشعور، وقيمة ذلك كله في إحراز مزيد من الفهم للقارة المجهولة/ الذات، ومزيد من المعرفة بالإنسان والنفس والتاريخ.

واستطاع الكتاب بسمة الشمولية التي يتسم بها، في تناوله أبعاد وجوانب مختلفة في الخطاب الذاتي المعاصر، أن يقف على التحول القائم في تقنيات السرود الجديدة التي صارت تعتمد التشظي والانقطاع والتفكك والتعدد ويعد ذلك من مظاهر التصنع والاصطناع الذي صار من صميم طبيعة الكتابة والحياة معا، و هو ينم عن وعي كبير بأهمية كتابة التذويت في أدبنا الحديث، وعن ارتباط تطور التقنية بتطور في التفكير الأدبي برمته، ورغم تشكيكه في أحداث السيرة الذاتية، وإثارته الشطط الذي يمكن أن يكون باستعمال الذاكرة..

إلا أنه يقرُّ بقيمة الكتابة الشخصية في ملء ثغرات الذاكرة الجماعية، وقد عمل “محمد الداهي” على شرعنتها ومحاولة تأصيلها.ويبقى التحول في السرد وتقنياته، بقدر ماهو سمة للتفكير الأدبي الجديد، وتحول في رؤى نظرية الأدب التي صارت تقوم على فهم جديد للأدب والنقد، هو أيضا سبر لأغوار الحقيقة الداخلية للإنسان التي هي جوهر الحقيقة الاجتماعية العامة، وطريقة لخلق عوالم ثقافية خاصة أكثر حميمية ودفئا، ولذلك يضحى اختيار الضمير المتكلم وتوائمه ليس موقوفا فقط على الاختيار الجمالي الواعي لتقنية سردية، وليس مجرد علامة على البوح والاعتراف.

ولكنه أيضا ميلاد لتوجه فكري أدبي يتخذ من السرد الذاتي سبيلا إلى الفهم والإدراك لما كان وماهو واقع، بيد أن الإشكال المطروح لا يتعلق فقط بالأسئلة: ما الذي يمكن لتوأم السارد أن يضيفه إلى السرد في السرود الجديدة؟ لم تحتاج الأنا إلى لعبة الأقنعة؟ ماذا يمكن أن يكشف بوح الذات في الرواية مما لا تجرؤ السيرة الذاتية على قوله؟ بل يرتبط بالدلالات الأخرى المتسترة لهيمنة هذه الأنا، و استفحال جنس التخييل الذاتي؟ و بموقف النقاد منه كجنس أدبي مستقل.

أعتقد أن المسألة في هذا الميل أكبر من أن تكون قضية الطابع الديموقراطي والجماهيري للتخييل الذاتي ، إنها تقريبا العمل بمنطق قول المجموع الحقيقة الإنسانية، (بأجزائه) الحقائق الشخصية.

ويظل بوحا اضطراريا في هذه المرحلة التاريخية الهشة حيث صار الإنسان نفسه ليس الذي ألفناه ونعرفه، في محاولة لاسترداد دفء طبيعته الأولى، والكتابة السردية الجديدة بمركزية الأنا هي لذلك نوع من الحديث مع الذات، أكثر من كونه حديثا عنها.

لائحة المصادر والمراجع:

محمد الداهي: السارد وتوأم الروح – من التمثيل إل الاصطناع – المركز الثقافي للكتاب /الدار البيضاء/ المغرب. الطبعة 1، إصدار 2021م.
أحمد المديني: وردة للوقت المغربي، دار الكلمة للنشر – بيروت – الطبعة:2، 1983م.

 Philipe Lejeune: Le Pacte autaubiographique.éd. Seuil,1975.

* دكتورة في الأدب الحديث-الناظور

https://anbaaexpress.ma/ihurc

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى