أن يكون تعريف المنطق آلة عاصمة للفكر من الخطأ، هو بمثابة مشروع تعريف غير منجز. إنّ هذه العصمة تشترط إلماما بسائر ضروب المغالطة، وتلك لا نهائية، لأنّ طُرق المفارقة بعدد أنفاس المُغالطين. إنّ درس المغالطة لا ينتهي، فالمنطق يسير على إثرها، كاشفا فاضحا.
ألا ترى أن المُغالط نفسه يشهر سلاح المنطق في وجه خصمه المنطقي بوقاحة، متهما إياه بالتناقض، وغيرها من التهم التي تمتاح أحكامها من قواعد المنطق؟ ولا سبيل للمغالط في تأكيد ذلك إلاّ بالحجاج وإطالة ما لا ينبغي إطالته وتقليص ما يحتاج إلى تفصيل، إنّ المُغالطة لا تحارب المنطق بل تلتف عليه وتوظّفه في مُخاتلاتها.
يتّهمك المغالط مثلا بالتناقض، لكنه لا يعبأ إن كان الأمر ها هنا يتعلّق بوحدة الموضوع أو بتعدده، واختلاف الشروط، زمان الحدث ومكانه، زيد واقف وقاعد، لكنه واقف اليوم وقاعد غدا، الخلط بين النقيض والضّد، فلا شيء في المنطق ثابت إلاّ في إطار شروط محقّقة. وكذا في سرد النظائر وإقامة حكم واحد على الأشباه، وكأنّ الشبيه شبيه من كل الجهات.
يحصل كل هذا في دوائر العلم، وحيث الرقابة شديدة على اللغة، فما بالك في التخاطب اليومي، في هذا الصبيب المتدفق من التّقاوُل الهادر؟ إنّ البيئة البشرية في عمومها تعيش حالة من التّلوث المنطقي، لأنّ شرط العيش لا يتوقّف على كمال المنطق في التخاطب، ولعلّ هذه الشبهة قد انطلت يوما على ابن تيمية الحرّاني في نقضه على المنطقيين، حين تراءى له عدم حاجة بني آدم للمنطق، فهو هنا نظر إلى ديمومة العيش من دون منطق على أية حال، وتلك هي المغالطة بشواربها الطويلة.
تجري حياة النوع على قوة الحدس والمناسبة، تأجيل التحقق إلى حين، ومن هنا تتسرب جرثومة المغالطة، ولئن كان هناك بقايا معقول به يقوم اجتماع النوع، فمرده إلى ذلك الحدس الذي لا زالت المغالطة عاجزة عن اختراقه، لأنها تجهل منطقه الدّاخلي.
لا زال النمط التّاريخي والاجتماعي في حاجة إلى المغالطة، فالرأسمالية تحتاج إلى الإقناع، إلى الاستعباد، إلى الإعلان التجاري المغالط، إقناع الأطفال والكبار بالأدوات نفسها. لا منطق في عقود الإذعان سوى منطق القوة، الرغبة في العيش بلا منطق، المغالطة هي منطق الاجتماع غير المتكافئ فرصا وطبقات، في الاجتماع غير العادل لا يعتدل الذوق ولا الاجتماع ولا المنطق ولا العقل ولا الحياة.
وإذن ما العمل؟
إنّه الحدس الذي به نعترض على لعبة منطق غير منجز، هشّ حدّ استعمال المغالطة لقواعده، الحدس الذي أشعرنا بهذه الخدعة، وهو المرجع حين انهيار هيكل المنطق، من هناك البدء، يمنحنا الحدس شعورا حادّا بأنّ اختلالا كونيا أصاب العقل والمعقول، استيلاب كائن في إكراهات عيش لا مشترك، الأنماط والبضاعة تحدد أي عقل نريد، أي خيال نريد. العقل لم يعد حرّا، بل مسمّى العقل الممنوح، عقل أليف، متصالح مع كائن يتطلع أن يكون دماغه تحت قدمه.
سيتعايش الكائن مسمى العاقل مع نقيضه، حيث العقد الاجتماعي سمّاه عاقلا، سيتساوى الجميع في عقل ممنوح في صفقة تاريخية وليس حسّا مشتركا ممنوحا من السماء كما سماه ديكارت، يصبح المعقول واللاّمعقول وجهة نظر في مهرجان فتق القول، في لعبة الاختباء خلف بنصر الأنسنة المزيّفة، في التّقاوُل الذي يستند إلى خفّة القول والتهرُّب الضّريبي من التِّسْآل والتّحقق.
نعيش ذروة تساوي المعقول واللاّمعقول، الأطروحة ونقيضها، الفضيلة والرذيلة، تساوت الأدلّة، وحين يتساوى الأمران، يكون الراجح هو المسنود بلعبةٍ ما، في زمنٍ ما، في سياقٍ ما.
إنّ الحدس هو آخر سلاح في تحقيق ثورة العقل مجددا، والبحث عن العقل الضائع، أمّا الاستسلام للعقل الممنوح في صفقة سوسيو-تاريخية، مهما آنست به البشرية، ومهما وجد فيه قراصنة المعنى فرصة تاريخية لتحقيق رغبة الجهل المُقنَّع، فدونه خرط القتاد.