من القصص الطريفة التي يذكرها إبن خلدون، من مجموعة ستة أمثلة لتوضيح قاعدته التاريخية في تمحيص الأخبار، جيش موسى ـ عليه السلام ـ العرمرم الذي بلغ ستمائة ألف مقاتل بعد خروجه من مصر، ففنَّد ابن خلدون الخبر بدون النظر في سنده وقوة نقله، حتى لو كانت سلسلة نقله أقوى من الذهب والبلاتين معاً، بل في عرضها على الواقع في دراسة مقارنةٍ صارمة.
واعتبر الخبر واهياً عارياً من الصحة بسبب تكتيكي ولوجستي بحت يعرفه العسكريون جيداً، فقيادة أعداد كثيفة من هذا النوع تحتاج الى جهاز اتصالات متطور.
صحيح أن هتلر عندما اجتاح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية كان تعداد جيشه قد وصل الى خمسة ملايين جندي، ولكن لم يمكن حشد بشر بهذه الكمية الضخمة، وسوق فرق عسكرية جرارة ممكناً، الا في إطار تطور نظام اتصالات لم يعرفه الجنس البشر من قبل، ولذلك أرسى ابن خلدون قاعدة عقلية تاريخية تعتمد الواقع وليس مجرد نقل الأخبار، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران، وآلية حدوث الواقعات، ومقارنة الوضع الحالي بغيره، قاد الى الزلل والحيد عن جادة الصدق.
ولكن حتى تتحرك سفن تجتاز المحيط كان لابد من تطوير سفينة المحيط العميقة، التي يمكن أن تحمل من المياه والزاد مايكفي لأشهر طويلة، فهذا الجانب فني بحت، لم يكن بالإمكان الوصول إليه لولم يحصل تطور خاص، ونقلة نوعية في تطوير جهاز الملاحة، وهذا نجح فيه العرب قبل الاسبان والبرتغاليين، كما أن الدولة العثمانية كانت من القوة ماواجهت به عام 1571 م دول القارة الأوربية شبه مجتمعة، في معركة بحرية رهيبة من حجم معركة (ليبانتو LEPANTO) شاركت فيه اسبانيا والبابا والبندقية والنمسا، ضد الامبراطورية العثمانية، وخسر فيها الاتراك المعركة، وهذا يعني أن الدولة العثمانية كانت في مركز أن تغزو المحيط، بل وتتفوق على البرتغال واسبانيا، فلماذا لم يحصل هذا لامتلاك قارات العالم الجديد، لسكانه الذين لم يكونوا متفوقين في الحرب وعدتها، ومعرفة قيمة الحديد على الطريقة التي روتها لنا رحلة ماجلان في استبدال 15 كغ من الذهب بــ 14 كغ من الحديد!!
والسؤال حتى تتحقق أي (وحدة عمل ناجحة) لابد لها من مجموع الشروط النفسية والفنية كي تتحقق كما شرح ذلك الكاتب جودت سعيد في كتابه (العمل قدرة وإرادة) حينما اعتبر أن أي عمل حتى ينجح لابد له من الجانب النفسي العقلي والجانب التقني الفني، في مناخ خاص يفاعل عناصر وحدة العمل حتى تنجح، فهل كان وضع العالم الإسلامي يومها يملك هذه الشروط؟ وأين كان الخلل حتى خسر معركة السباق في المحيط ؟ ((يراجع في هذا كتاب (العمل قدرة وإرادة) للكاتب (جودت سعيد) حيث حللَّ وحدة العمل الناجح بشكل فلسفي ليصل في النهاية الى تقرير مكمن الخلل في مرض العالم الاسلامي).
كانت الإمبراطورية العثمانية من حجم مرعب اجتاحت المربع الشرقي من القارة الأوربية وجلست فيها لمدة خمسة قرون في البلقان، مما يفسر الحقد التاريخي للصرب ضد الوجود الإسلامي الحالي، فالذاكرة الجماعية مشحونة بتاريخ طويل من الكراهيات المتبادلة، ولكن المشكلة كانت في مرض العقلية الإسلامية، وتدفق روح جديدة في الغرب، قاد إلي الإصلاح الديني، وبدء حركة التنوير العقلية، وكان هذا مع القرن السادس عشر والسابع عشر، في الوقت الذي كان العالم الإسلامي ينام على قصص ألف ليلة وليلة والسندباد البحري وبطولات صلاح الدين في طرد الصليبيين.
أهمية استنبات المناخ العقلي (نموذج نيوتن والتفاحة)
عندما كانت تسقط التفاحة على رأس جد نيوتن كان يلتهمها بكل شراهة (10) ولم تكن لتوحي إليه بقانون الجاذبية قط، فلماذا أوحت لنيوتن بقانون الجاذبية؟
إن هذا يقودنا الى عملية تفكيك عقلية للواقع، الذي كان يعيش فيه نيوتن وجده، فالوسط العقلي عندما يتغير، يؤدي الى ولادة أفكار جديدة وأدمغة نابهة، وهذه الأفكار تأخذ طريقها للانتشار بفعل تغير المناخ العقلي؛ فالشيء الجديد الذي تدفق في أوربا هو الذي وظف الاكتشافات الجديدة ونماها، في حلقة جدلية لاتعرف التوقف، حتى نما الغرب الى حجم ديناصور تاريخي هائل لاطاقة للعالم الاسلامي به، (يراجع في هذا كتاب المفكر الجزائري مالك بن نبي (دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين) وإشارته الى المناخ العقلي في أوربا الذي ولد عشرات المبدعين وكمية كبيرة من العقول النابهة المتميزة). والذي عاق العالم الاسلامي عن الحركة يكمن في قصور الطاقة الابداعية العقلية عنده فاستسلم لنوم القرون ولم يستيقظ الا على الصفعة الاستعمارية، يوجهها نابليون الى الشرق عند سفح الاهرام.
وحينما هرب فرسان المماليك، الذين كانوا قد استطابوا الركوب على رقبة الفلاح المصري؛ بأسرع من طلقات مدافع الجيش الفرنسي، لجأت الجماهير الخرساء، التي اعتادت الصمت لقرون طويلة، تواجه مأساة من نوع جديد تتطلب تحريك مفاصل الثقافة، بتحدي من نوع لم تعتد عليه. فأحست بالبرد وبكت كما يبكي ويصرخ الطفل عندما يغادر وسط الرحم الدافيء، إما الى الموت بالتحدي الجديد، أو بنمو من نشأة أخرى.
تعليق واحد