كتب لي أحد الأخوة الأفاضل حول اطلاعه على بحثٍ يفيد اكتشاف العرب أمريكا قبل كولمبس، ويقول أنه بحث نشر في إحدى المجلات التي تكتب باللغة العربية، يشرح عدداً من المحاولات التي قام بها مجموعات من الشباب المغامرين الجريئين في محاولة لاختراق المحيط الذي كان يسمى يومها (بحر الظلمات) مما يوهم أن العرب انفردوا باكتشاف أمريكا قبل كولمبس، وأن اكتشاف العرب لأمريكا يعدل العمل الذي قام به الغرب، وأن كشف كولمبس يعتبر حلقة في سلسلة من الاكتشافات، وهذا إن ثبت علمياً فإنه لايفيدنا بشيء، للطبيعة المختلفة بين الاكتشافين، والبون الشاسع بين الانجازين.
كما يحوي ـ هذا الاتجاه ـ في ثناياه محاولة تعويض نفسية غير صحية، لاستدراك حالة الانهيار الحضارية للعالم العربي، ومواجهة غير سليمة لتطويق الإعصار الثقافي، الذي أصاب العقل العربي بالدوار المزلزل، فكانت ارتكاساته بالمقابل غير مُرشَّدة وعفوية فقدت الغائية، والقدرة التحليلية التاريخية. والآن ماهي هذه المحاولات التي أشار إليها البحث والتي تفيد أن العرب سبقوا كولمبس في اكتشاف أمريكا.
يقول البحث نقلا عن (المجلة العربية) بحثاً بعنوان (هل حقاً اكتشف العرب أمريكا) حيث ذكرت المحاولات التي قام بها العرب المسلمون لاكتشاف ماسمي لاحقاً (العالم الجديد) فأما الأولى من هاتين المحاولتين فذكرها الدكتور (أحمد زكي) في مجلة العربي عدد يونيو حزيران عام 1977 م (المجلة العربية ـ محرم 1417 هـ ـ ص 116 ـ 117 بقلم أحمد محمد أحمد سلامة): إن العرب سبقوا الأوربيين إلى التفكير في كشف أمريكا وحاولوا الوصول إليها مرتين: الأولى من لشبونة، والثانية من غانا في السودان الغربي على ساحل المحيط الاطلنطي، فأما المغامرة الأولى فقد ذكرها الجغرافي (الشريف الادريسي 656 هـ ـ 1162م) في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق).
حيث يروي فيه أن ثمانية من الشباب المغامرين قاموا برحلة استكشافية انطلاقاً من لشبونة (عاصمة البرتغال حالياً) التي كانت تحت الحكم الاسلامي يومها، في مركب مشحون بالماء والزاد، يكفي مؤونة أشهر عدة، وأبحروا في بحر الظلمات (المحيط الاطلنطي) مدة شهر، وذلك في القرن الرابع الهجري، آملين في استكشاف بحر الظلمات، فساروا غرباً ثم جنوباً حيث رسوا عند جزيرة صغيرة، ثم تابعوا سيرهم حتى وصلوا جزيرة أخرى، فوجدوا فيها عمالقة حمر اللون، طوال الشعر، ونساؤهم باهرات الحسن، وأخبروهم أنهم خرجوا لاكتشاف مجاهل المحيط الى نهايته.
إلا أن هذا الملك أخبرهم باستحالة مشروعهم، وخوفه من المجاهل التي تعترضهم في هذا البحرالعظيم، وبعد بضعة أيام عادوا الى ميناء لشبونة (لاحظ أن طريق كولمبس استغرق شهراً في الذهاب ومثله في العودة بأقل التقديرات) ويُعتقد أن هذه الجزر هي جزر بحر الكاريبي.
وأما المحاولة الثانية فقد جاء ذكرها في كتاب (مسالك الإبحار في ممالك الأمصار) لابن فضل العمري حيث يذكر عن أحد سلاطين مملكة (التكرو) في مالي الذي جهز حملة قوامها ألفي سفينة، ألف للرجال وألف للأزواد، ولكنه ذهب في رحلته ولم يعود !! (لاحظ التعبئة اللوجستية بألفي سفينة مما تعجز عنه الامبراطوريات وذكر عدم عودته تطلق العنان لريح الخيال في رحلة لانهائية)؟
العقل العربي ومحنته الثقافية
هناك ظاهرة مرضية يعاني منها العقل العربي عليه التخلص منها كي يشعر بالعافية ويدخل المعاصرة، ويمكن اختصارها بالمواجهة غير السليمة لإعصار الحداثة، فمع الطوفان الثقافي يحاول العقل العربي الاحتماء بساتر يحميه من عربدة هذا الجو الثقافي الساحق، الذي أدخل الى وعيه الجماعي الشعور بأن الأرض تميد من تحت أقدامه فهو يبحث عن أرض صلبة يقف عليها؟ فيرى أن أفضل ملجأ نفسي هو في الهرب والولوج إلى الرحم الثقافي مرة أخرى. ولكن البيولوجيا تعلمنا أن الجنين الذي يصرخ من برد الجو بعد مغادرة دفء الرحم لن يستطيع العودة إلى الرحم على الاطلاق.
جدلية التراث والمعاصرة
لن ينفعنا أو يقرِّب في حل مشكلتنا الحضارية أن نتصور أن حلول المشاكل والكشوفات العلمية و(الجغرافية) موجودة ومقررة في خزانات تراثنا الثقافية، ويدخل تحت هذا العنوان أيضاً محاولات اكتشاف سرعة الضوء في نص قرآني، أو كشف انثروبولوجي في حديث نبوي؟
ففضلاٌ عن خطأ هذه المحاولة غير الواعية التي تعتمد آليات الدفاع الثقافية غير الناضجة، فهي تحول الانتباه عن حقل التغيير العقلي الفعلي؛ فالعالِم (فيزو) مثلا وصل الى حساب سرعة الضوء عن طريق المسننات الموضوعة في قرصين متقابلين، يخترق الضوء أحد القرصين الى الآخر، فبواسطة تجربة (فيزو) أو مايكلسون ـ مورلي أمكن تحديد سرعة الضوء بدون نص يرجع إليه، والعالم الاسلامي اليوم بكل ثقل تراثه لم يصل خلال 1400 سنة الى تحديد سرعة الضوء، بسبب بسيط أن مجال القرآن هو في خلق الوسط العلمي والمناخ العقلي أكثر من كونه كتاب جغرافيا أو فيزياء أو فلك، فهؤلاء الغربيون شقوا الطريق الى فهم الوجود بدون ثقافة جامدة تبرمج عقولهم، بفعل فهم تاريخي محدد مقيد.
فالثقافة تتعرض خلال التاريخ الى نوع من الجفاف والتيبس والجمود، بحيث تخلط بشكل تاريخي مابين فهم البشر في وضع خاص ومابين النصوص المجردة المطلقة، في خلط ثقافي ممزوج باحتكار المعرفة والوصاية عليها، وتعزيزها بالارهاب الفكري لمن يسمح لعقله بالحركة، في محاولة تعميق الفهم.
أو إعادة النظر في المفاهيم المسيطرة والوضع الذي يرن فيه جرس الخطر عن حالة غير سوية. فالكلام يجب أن لايوقظ نائماً ولايزعج مستيقظاً، فلا يرحب في العادة بمقلقي النوم العام!!..
كما أن هذا الضرب من الأفكار يمضي في طريق تثبيت نفسه بشكل مقلوب في علاقته مع إنجازات الفكر الغربي، ففي الوقت الذي يريد إثبات نفسها ضد الفكر الغربي ؛ فإنه يعتمد شهادة خصمه بالذات، ويستجدي تصديقه وتوثيقه، فهو بهذه الآلية يحمل في أعماقه حس الهزيمة الحضارية.
تعليق واحد