آراءثقافة

مهمّة المثقف.. في زمن الفراقشة !

ظهر مفهوم المثقف على إثر قضية ملتبسة، قضية درايفوس، كان الدرايفوسيون الأوائل بصدد الدفاع عن حالة داخل دولة الحق والقانون..

صمت المُثقّف يعني نزع المُثقَّفِية عنه، لأنّ ميلاد مفهوم المثقّف هو ظاهرة اشتباكيه مع أسئلة العدالة والحقوق. في البيئة العربية، ثمة فرق بين صمت المثقف واستقالته. لا يوجد مثقف مستقيل، بل ثمة فقط تنوّع في الوظيفة، مثقف المجتمع، ومثقف المصالح الخاصّة. هذا بينما المثقف المنخرط هو نفسه يعاني من التباس، لأنّ معايير تحديد المثقف العضوي اختلّت مع بروز الوظيفة الصوتية في سوق السياسوية، استغلال القضية العادلة في سياسات غير عادلة.

يتعين بعد ذلك إعادة تشخيص المثقف العضوي، لأنّه هو من يسهّل عملية تشخيص مثقف قوى المصالح. ويبدو التّاريخ هنا مؤشّرا موضوعيا، حيث المسار الذي يتبعه المثقف العضوي يكون خاليا من أشكال التواطؤ والتحالفات المشبوهة، خلط الأوراق، تدكين القضايا العادلة، العجز عن تمثّل المبدئية خارج الحسابات العصبية، المزايدة والغوغائية ليست صفة للمثقف العضوي.

ظهر مفهوم المثقف على إثر قضية ملتبسة، قضية درايفوس، كان الدرايفوسيون الأوائل بصدد الدفاع عن حالة داخل دولة الحق والقانون، يكتب إيميل زولا: إنّي أتهم، لكن هذا لا يخفي أنّ هرتزل سيستغل الموقف للدفع باليأس ومناهضة فكرة الإدماج.

من داخل الوضع الذي يبدو تحرريا يمكن لدكاكين السياسوية استغلال الوضع في اتجاه التخريب.

إنّ هرتزل أخرج المسألة من حدودها الشخصية إلى قضية مجموعة وهوية دينية، وهكذا تطورت المسألة اليهودية باتجاه خلق وطن على حساب شعوب عانت الاضطهاد والاستعمار.

اتخذت المسألة اليهودية بُعدا طائفيا قبل أن يَرُد ّماركس في المسألة إيّاها على برونو باور، وكيف أصبح الرأسمال هو دين الرأسمالية، وأنّ حلّ المسألة يتحقق مع عدم الاستقالة بالهوية عن الحراك الاجتماعي العام.

إنّ بروز المثقف المزيف، وطغيان ظاهرة المثقف الباسيست والتبسيطي، لعالم يتسطّح أكثر فأكثر، فيفقد ميزة التركيب، تنتهي بتقويض مخرجات الانتصارات الاجتماعية والسياسية وحتى العسكرية، فتجعله انتصارا في واقعة وليس انتصارا تاريخيا يتماهى مع مخرجات مكر التاريخ الأعظم.

لا زالت الدعوة إلى كتلة تاريخية -يطرحها بإلحاح شرط الكفاح الوطني – ضعيفة، ذلك لأنّ الدعوة إلى كتلة وطنية تكذبها ازدواجية الفاعل العاجز عن تجاوز غريزة العصبية والحقد بمعناه الاجتماعي والتاريخي. غياب الرّشد وهيمنة عصبية الفراقشية، وهم دائما على هامش القبيلة يمتهنون سرقة الدّواب، لأنّ ما يبدو معضلة البداوة كما في تحليل ابن خلدون وأيضا العروي، ليست هي المعضلة الكبرى في الثقافة العربية، فلطالما كانت الحضارة عند ابن خلدون غاية البداوة نفسها، بقيم البداوة وعصبيتها للمروءة تقوم الحضارة التي في ذروة التحضر ترقُّ تلك القيم لتبدأ حالة الانحطاط في دورات حضارية أخرى.

الذين يبنون الحضارة هم المتقشّفون، لكنني من خلال تأمّلي في ظاهرة الانتهازية والوصولية وغياب القيم الحضارية في الفعل السياسي، فإنّني اهتديت إلى أنّ الخطر الدّاهم لقيم التحضر، هي ثقافة الفراقشة. والفراقشة هم لصوص، قراصنة البرّ، لصوص الدّوابّ، انتهازيون، لا قيم لهم، وهم إذن يتعاملون مع القضايا السياسية والقضايا العادلة بمنطق الفراقشة، سُرّاق الله، سُراق الأنسنة، سُراق المفاهيم، فالفراقشة بالنّهار أَوَادِم صلحاء، لكنهم بالليل لصوص شرسون.

ماذا حين يصبح النّضال أيضا مسرحا للفراقشة؟ فحتما سيكون عدو الفراقشة هو المناضل الحرّ، الذي تتحطّم أمامه أساطيرهم الفرقوشية المؤسسة للتّفاهة والملوّثة لبيئة التحرر. بما أنّه ليس للفراقشة ضمير، فهم يلوثون البيئة بالإلتباس، بالتضليل، وأوّل تحدّي هو إزاحة الأحرار والمتحضرين عن الطريق، إنّ عقدة الحرفوش هو النّقاء والصدق.

إنّ الحاجة اليوم ماسة لمقاربة سوسيو-سياسية لهذه الظاهرة، أنثربولوجيا الفرقوش السياسي، انسياح الفراقشة داخل مجتمع متحضّر، أنثربولوجيا تدرس مسار وتطوّر الحرفوش من سرقة دواء البرغوث من السوق إلى استغلال التّصنُّك لنهب البيض من الأسواق الأسبوعية في المداشر، إلى وظيفة برّاح في سوق التّناضل بنكهة الفراقشة وذائقة “الخواسر”.

كلّما تطوّل الاجتماع البشري، بات من الضروري الأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع، الذي يُصار فيه إلى تمثّلات تعقيدية على صعيد المفاهيم، ففقه الواقع هو فقه التركيب.

ونحن لا زلنا مصرّين على أنّ المعضلة حضارية بامتياز، ليس فقط من حيث شمولية الأزمة بل من ناحية غياب القيم الحضارية والطرق المتمدّنة في تدبير أسئلة العقل والنّفس والمدينة

https://anbaaexpress.ma/1lu6a

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى