ظل الالاف من الصحراويين ينتظرون غدا أفضل، وبيوتا تأويهم وذويهم ويساهمون ضمن محيطهم في بناء مستقبل أفضل ومستقر، حيث ينعم الأطفال بفرص لتلمس شروط حياة كريمة خالية من لغة العنف وحقن اليافعين بخطابات الكراهية والحقد اتجاه الاخر أيا كان.
وترجع أصول هذا الانتظار المطول إلى اجتماع مجموعة من الشباب الصحراوي في مقتبل العمر، كان يرون في أنفسهم الكفاءة لبناء دولة على أرض لم ينتموا إليها قط، ولم يقضوا ردحا من الزمن على أديمها لاستكناه أسرارها، بل اعتمد هؤلاء الشباب على حماسهم الملتهب لفعل أي شيء ليوقذ جذوة إشعال الحرب في المنطقة، دون التفكير في تكلفتها البشرية أو مصير ساكنتها واستطلاع رأيهم.
فالصحراء كما أنها تقدم أفقا ربحا للسلم الداخلي والأمان والحرية المطلقة، قد تعصف بأحلامك غير اسفة على ما قد يقع لك من فرطك شغفك الطفولي بإبراز قدراتك في تجريب أي شيء، حتى إن تعلق الأمر بتشرذم الالاف من بني جلدتك بين الأصقاع.
وقد يختلف البعض في هذا التوصيف لقيام حركة البوليساريو، وكيف يتم التقليل من شأن موجة نضالية خلخلت التوازنات القائمة في شمال إفريقيا الى حدود اللحظة، ويزعم اخرون أن من يقولون بخلاف ذلك جاحدون لحسنات الثورة الصحراوية، ولن يخلدهم التاريخ بماء من ذهب.
ولهؤلاء وأولئك أقول، أن أي متتبع متبصر، بغض النظر عن موقفه السياسي من القضية، سيصل الى ما وصلت إليه قيادة الرابوني في الآونة الأخيرة، من شعور باليأس والتذمر والضياع جراء انسداد الأفق امام مغامرة غير محسوبة العواقب منذ وضع اللبنات الأولى للخيام.
ونحسب هذا التوصيف ليس تنقيصا من جهد الالاف من الراجل والنساء الذين امنوا في البدء بإمكانية تحقيق هذا الحلم الكابوس، وعملوا على تنفيذ مخططات قيادة، كان قاطنو المخيمات يضفون عليهم هالة من التقديس والجلال، من فرط الشحن الإيديولوجي، الذي يرسخ فكرة أن القيادي لا يخطأ، وهو المخلص من عذابات اللجوء والقادر على تحقيق حلم الاستقلال.
لكن بعد توالي السنوات وتواتر قصص تعرض أهل المخيمات أنفسهم لانتهاكات جسيمة، لعل أقلها ضررا الاغتصاب وتطليق النساء قسريا من أزواجهم وإعادة تزويجهم للقيادة ومسؤولي جهاز أمن البوليساريو، بدأ الكثيرون يندبون حظهم العاثر، لكن سبق السيف العذل.
فالمسألة تجاوزت كل الخطوط الحمراء الناظمة لقيم وأخلاق أهل الصحراء، وبدأت الدوائر تدور واستمرت الة التدمير تنهش أعراض الناس، لا لشيء اقترفوه، سوى إرضاءا لسادية وحش جريح حررت القيادة الرشيدة مربطه بليل، لينشر الرعب ومشاهد الترهيب من القيادة صانعة الأمجاد، لتتفرغ هي لجبهات القتال حتى تحرير اخر شبر من المساعدات الإنسانية على نغمات الجوع الذي تئن من شدته الحوامل والأطفال في مخيمات تشبه الى حد بعيد معسكرات اعتقال مفتوحة، حيث الناس طلقاء في الظاهر، ولكن تلك الحرية مقيدة بشكل يجعلك تحس بالرهبة إذا ما فكرت في توجيه سهام النقد الى القادة ومشايعيهم.
يثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك، أن كل الثورات الحاملة لهموم شعوبها انتصرت، بالرغم مما قد يعتريها من خطاءات، وأن كل الثورات تندلع متسلحة بجانب نظري وفكري يؤصل للمسألة ويضفي عليها نوعا من الوقار في مواجهة العالم الخارجي، بل وقد يكتسب مناعة في أوساط النخب، وبإسقاط هذه النقط الأساسية للإنطلاقة، هل يا ترى انطلاقة ثورة ال 20 ماي الموؤدة بدأت على أساس تأصيل فكري ونظري كسلاح في مواجهة الرأي الاخر؟، وهل حققت شرط التنوع والتعدد والجندر والعدالة الداخلية في توزيع المعاناة والبؤس؟
ومهما يكن من امر، نحاول دوما التحلي بالصبر للتوصل بأجوبة شافية لهذه التساؤلات الحارقة، قصد استجلاء الحقيقة بشأن ما حدث خلال الخمسة عقود الماضية، والذي لم نعثر لحد الساعة على رد يفسر هذا العبث الممنهج، حيث قل أن تجد في تاريخ ملفات القمع السياسي والديكتاتوريات والأنظمة المتسلطة، أن تأكل ثورة أبنائها بالجملة، وهم أول من لبى النداء لخدمتها، فهل يا ترى ثبت للقيادة تورطهم في الخيانة لفائدة المغرب وموريتانيا وفرنسا وجهات أخرى، ما زالت البوليساريو تتحفظ على رفع السرية عنها لحساسية الملف؟
الأكيد حسبما رشح من تراكم الفشل في تجربة البوليساريو القاسية على من لا يزالوا يعانون في المخيمات، وعلى من تجرعوا ويلات التعذيب والقتل وتشويه الأعضاء والمعاملات الحاطة من الكرامة والعنصرية المقيتة وغيرها من الأفعال الاجرامية الشنيعة، أن التنظيم ما زال يمني النفس بصولاته وجولاته في الميدان من خلال أقصاف لا نجد لها من أثر سوى بيانات يتيمة، لا ناشر لها غير وكالة انباء التنظيم والإذاعة الجزائرية.
ويتسائل البعض إلى متى ستظل البوليساريو تنتقد حالة حقوق الإنسان بالصحراء، بالرغم مما قد يعتري تلك المزاعم من عدم الدقة، والنية المغرضة في الإساءة لدولة قطعت نهائيا مع سلوكات الماضي والعودة الى ارتكاب انتهاكات جسيمة، وحصنت مؤسساتها بسيادة القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة، بينما تدفن البوليساريو رأسها في التراب، حين يقصف الجيش الجزائري فلذات أكباد الصحراويات المدنيين ويرديهم قتلى بالعشرات؟
ولعل من قبيل التكرار القول بأن الجزائر، لم تحسم قط في دعمها للصحراويين، فهي كالذي يتخبط من المس، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، تائه لا يعرف أي طريق يسلك، وهذا التشاؤم المرضي، هو ما يجعل دولة الجزائر تسحب سفرائها في الصباح وتأمر برجوعهم في المساء، بينما العداوة ثابتة اتجاه المغرب، وكل الابتلاءات التي تصيب البلد مصدرها المغرب، حتى الحرائق التي اندلعت في منطقة القبايل بفعل تدخلات الجار الشمالي.
فالأخذ بالمقاربة الجزائرية تحفه الكثير من المخاطر، حيث إنه إذا سلمنا برجاحة زعمهم في نصرتهم للقانون الدولي وتنفيذ حق تقرير المصير في الحالة الصحراوية، أليس حري بحكام المرادية أن يعطوا المثل في الالتزام بمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها، ويشرعوا بالسماح لشعب القبايل بالتعبير عن تطلعاته في تحديد مصيره؟ أم ان الحال مختلف حين يعزف على الوتر الحساس، وحماية الوحدة الترابية والحفاظ على الأمن القومي والثروات الطبيعية في حالة إخوتنا بالجزائر، والتقسيم والتشرذم والشتات وتعليق الاستثمار في منطقتنا الى حين رضى العسكر عنا؟
ويصدق قول المأمون حينما توجه إليه وال بالطلب لبناء حائط في المدينة التي يتولى تدبير شؤونها، كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت، وهو ما ستقوله السلطات الجزائرية يوما لقيادة البوليساريو الرشيدة من كثرة حبها لها، بسبب عدم حماية مشروعهم بالعدل وعدم تنظيف طريقه من الظلم.
وفي إطار المتغيرات الحالية المدمرة لمشروع البوليساريو، هل يمكن تفسير انبعاث حركة جديدة تدعى حركة صحراويون من اجل السلام، تنهج الدعوة الى السلم والسلام والعدالة، نبراسا للوصول إلى حل دائم لصراع طال امده، ضحاياه الوحيدين هم الصحراويون المنتظرين للسراب في حمادة تندوف، برياح صيف ينقضي اثرها بمجرد مرورها، أم أنها صحوة مرغوبة للعنصر الصحراوي، قصد تدارك الزمن وإنقاذ ما يمكنه إنقاذه من لحمة الصحراويين وجمع شتاتهم على أرضهم لبناء مستقبل يضمن الكرامة والحرية لأبناء الصحراء دون استثناء.
ويبقى الأمل في الأجيال الجديدة للقفز من الباخرة الآيلة للغرق، لأن أكثر ما يؤلم أن ينسلخ الالاف من الصحراويين الذين ملوا من رومانسيات البوليساريو، وانزووا في الشتات، لاهم بقوا في المخيمات لإذكاء الوعي بمخاطر مشروع القيادة الرشيدة، ولا هم رجعوا الى ارضهم للمساهمة في بناء المستقبل وتنمية الأرض بشكل تشاركي مع إخوانهم في فضاء مرحب بالجميع ومشجع على العطاء في كل الاتجاهات.