والآن ماهو الجديد في رحلة كولمبس؟ والسؤال الآخر ماالذي جعل رحلة كولمبس تأخذ هذا الثقل التاريخي، بحيث يعتبرها المؤرخون أنها نقطة انعطاف في التاريخ الانساني ورسم التاريخ المعاصر، ورفع الغرب الى أعلى عليين، ونزول العالم الاسلامي الى أسفل سافلين، بحيث أن العالم الاسلامي وصل الى درجة من الهزال والضعف أنه ارتمى خارج التاريخ والجغرافيا، مثل القطار الذي تعرض لحادث تاريخي فخرج عن مساره وتوقف عن متابعة رحلته الحضارية؟
فلماذا ارتفع الغرب هذا الارتفاع، وحلَّق في أجواء الفضاء الحضارية، ماالسر وراءه؟ ولماذا انكب العالم الاسلامي على وجهه؛ فهو يمشي غير سوي، وعلى غير صراط مستقيم؟ لماذا نُكس على رأسه، وتم استعماره، واحتلت أراضيه (كما نرى في كارثة غزة صيف عام 2024)، ونهبت ثرواته، وحبس في زنزانة البحر المتوسط خلف مضيق جبل طارق، في عالم مزدحم فقير مريض عاجز، قد تبخرت إرادته الحضارية، الى درجة أنه لايعرف ماذا جرى له، مثل مصاب بعد حادثة مروعة، غائب عن الوعي، يعالج في قاعة العناية المشددة التاريخية ـ إن كان فعلاً يعالج ـ بشكل يستعصي على التصور؟ (ذكرت (المجلة العربية) بحثاً بعنوان (هل حقاً اكتشف العرب أمريكا).
حيث ذكرت المحاولات التي قام بها العرب المسلمون لاكتشاف ماسمي لاحقاً (العالم الجديد) فأما الأولى من هاتين المحاولتين فذكرها الدكتور (أحمد زكي) في مجلة العربي عدد يونيو حزيران عام 1977 م (المجلة العربية ـ محرم 1417 هـ ـ ص 116 ـ 117 بقلم أحمد محمد أحمد سلامة).
مالخاص والانقلابي في رحلة كولمبس؟ (تراجع في هذا القصة التفصيلية لهذا الكشف في كتاب ( اكتشاف أمريكا قبل كولمبس ـ SAGA AMERICA تأليف د . باري فلBARRY FELL ) ص 69).
الفرق بين الرحلات التي سبقت كولمبس وعمله هو الفرق بين عقلية العالم القديم والجديد، بين الصدفة والعمل المبرمج، بين المغامرة ومشاريع تقف خلفها دول تمولها، بين عمل عشوائي يتحقق بمحض الصدفة، وبين عمل خطط له بطول تفكير، وتمت ممارسته بعناد وصبر ومعاناة، وتراقب نتيجته عن كثب، ويتم تطويره بزخم لايعرف التوقف.
كان الفرق بين ماقبل كولمبس ومابعده، كالفرق بين العرب والامريكيين حالياً. وكالفرق مابين جرح يطيب بوضع رغيف من الخبز عليه، واكتشاف فلمنخ لعفن البنسلين في القضاء على الباكتريا. يراجع في هذا كتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ـ د . فؤاد ذكريا ـ نشر دار التنوير ـ ص 49).
كانت الرحلات السابقة لاتتعدى مغامرات يقوم بها فريق من الشبان الجريئين الذين تنتهي رحلتهم إما أن يبتلعهم البحر العظيم، أو أن يصلوا الى يابسة تعجبهم، فيسكنون الأرض الجديدة وتنقطع أخبارهم، وإذا حصل وعادوا يخبرون عن الجديد الذي رأوه؛ فإن الاسطورة تختلط فيه بالحقيقة، والوهم بالواقع، لتبرز الى السطح قصص الغيلان والجن والاشباح، والطيور العجائبية المجنحة، والعمالقة والأقزام، والنساء بعدد لانهائي من الأثداء، ورؤوس بثلاث عيون، والتنينات التي تنفث النيران، والبحر الذي يغلي، في أفكار جدا قاتلة تعيق حركة التطور العلمي والانفتاح العقلي، واعتماد الشعوذة والسحر والتنجيم في عمل لاتاريخي ولاعلمي على الاطلاق.
فترتفع الأرقام والأحداث والأشخاص الى تهويمات الخيال البحت، كما اشار الى ذلك ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بعدم اعتماد الأخبار بمجرد النقل (لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد)(تراجع في هذا المقدمة وقانون النقل وكيف يجب تحري الأخبار وهي قاعدة نفيسة في الدقة التاريخية) وتنطبق القاعدة الخلدونية على ما جاء في قصة ملك (التكرور) الذي هيأ ألفي سفينة دفعة واحدة، وكأنها سفن الورق التي يلعب بها الأطفال، ونحن نعرف أن الملك فيليب الثاني بكل إمكانات اسبانيا الدولية في القرن السادس عشر ولمدة ثلاث سنوات.
وبعد تحضير وتهيئة وبذل هائل للأموال لدولة عامرة بذهب أمريكا المنهوبة، استطاع أن يجند لحرب بحرية من طراز (الارمادا ARMADA) فقط 150 سفينة. وأن خسارة قرطاجنة في البحر، عندما خسرت أسطولها البحري ضد روما، كان في أعظم التقديرات خسارة مائة سفينة من أصل مائة سفينة، شكلت الاسطول القرطاجي (في معركة ميلي مثلاً خسرت قرطاجنة 50 سفينة من أصل 150 سفينة في عام 260 قبل الميلاد، وفي معركة ايكنوموس 84 من أصل 230 عام 256 وكانت أكبر كارثة بحرية بخسارة مائة بالمائة في معركة جزر ايجاتس عام 242 قبل الميلاد حيث خسرت قرطاجة كامل الاسطول الذي بلغ مائة سفينة)
القاعدة الضابطة لأخبار التاريخ
لذلك ذهب ابن خلدون من أجل الكشف عن ( القاعدة الضابطة) لهذه الأخبار الى اعتماد (الواقع التاريخي) كمرجع معرفي، الذي أهمله العالم الاسلامي بكل أسف، الى درجة أن شخصيات كبيرة من أئمة النقل والتفسير ووقعت في مغالطات تاريخية رهيبة، ووقعت في مصيدة تصديق طائفة من الأخبار الواهية، لأنها لم تعتمد قاعدة التمحيص التاريخية!!