ذكرنا فيما سبق فكرة اكتشاف أمريكا على يد العرب وفي هذا يقول المفكر فؤاد زكريا: (ولكن حقيقة الأمر أن هذه الغاية تنقلب الى تمجيد ضمني للفكر والعلم الغربي على حساب العرب، ذلك لأنها تتخذ من نواتج الثقافة الغربية مقياساً، وتحدد مكانة المفكر العربي تبعاً لمدى اقترابه أو ابتعاده عن هذا المفكر الغربي أو ذاك. فإذا كان العالم العربي قد استبق آينشتاين، وإذا كان المفكر العربي قد استبق (كانط CANT) أو (هيوم) فلابد أنه كان عظيماً لهذا السبب ذاته.
وهكذا يصبح معيار العظمة هنا هو الوصول الى ماأنجزه الغرب. وفي هذا تمجيد ضمني للحضارة الغربية لايحلم به الغربيون أنفسهم. ولو كان لدينا إيمان حقيقي بما أنجزه علماؤنا ومفكرونا، لأقنعنا الانسانية بفضلهم عليها من ليس من حيث هم فحسب، لامن حيث أنهم سبقوا أفكار هذا العالم أو ذاك المفكر الغربي …
ومن المؤكد أن هذه المقارنة الدائمة واتخاذ انجازات الغربيين مقياساً لمدى أصالتنا، تؤدي آخر الأمر الى تثبيت قيمة الثقافة الغربية على نحو مطلق، أما قيمة ثقافتنا فلا تتأكد الا بقدر ماتنتسب بصورة او أخرى الى تلك الثقافة، وهذا ماكنت أعنيه حين قلت إن هذا التجميد اللاتاريخي يؤدي الى عكس الهدف المقصود منه ) ليخلص المفكر فؤاد زكريا الى تأكيد معنى ضخم في العلاقة الجدلية بين القديم والحديث، التراث والمعاصرة، في كلمات مثيرة (أن التراث المتصل أشبه مايكون بالحياة في استمرارها عبر الأجيال المتعاقبة، فالكائن الحي يولد حياة أخرى تنطوي في آن واحد على معنى استمرار القديم من جهة، وفنائه من جهة أخرى. وهذا الاستمرار من خلال الفناء هو الشكل الوحيد الذي تستطيع به الحياة أن تؤكد ذاتها) المؤرخ ( بلوتارخ ) ودلالة كشوفاته:
في عام 1558 م في عهد الملكة اليزابيث (التي حكمت 45 سنة وفي عهدها تم سحق الاسطول الاسباني الارمادا) لمع نجم راهب مجهول هو الاب آميوه (AMIOT) بسبب وقوعه بالصدفة على مخطوطات تاريخية ذات أهمية بالغة، لمؤرخ يوناني هو (بلوتارخ) في مكتبة دير في إيطاليا. كان الاب (اميوه) يتقن اليونانية فقام بترجمة ماعثر عليه، مما أثار ضجة علمية كبرى في أوروبا.
كانت النصوص المترجمة للمؤرخ اليوناني سلسلة من التراجم الذاتية للعديد من مشاهير رجال بلاد الاغريق وروما القدامى مع بحوث أدبية وعلمية في شتى المواضيع، ومن بين هذه المخطوطات يشير (بلوتارخ) الى مخطوطة قرطاجية قديمة، تفيد بوصول الفينيقيين الى الأمريكيتين، عثر عليها بين أنقاض مدينة قرطاجنة، التي سوَّاها الرومان بالأرض وحرثوها بالمحراث، في علامة واضحة لدفن جثة حضارة بالكامل، في حرب ضروس من حجم الحروب العالمية في العالم القديم، حيث نشبت ثلاث جولات من حروب الافناء المتبادل بين روما وقرطاجنة، بين الاعوام 264 و146 قبل الميلاد، وهي المشهورة في التاريخ بالحروب البونية (يراجع في هذا كتاب معالم تاريخ الانسانية للمؤرخ ويلز).
الحروب العالمية في العهد القديم بين روما وقرطاجنة
تم في الجولة الأولى منها هزيمة قرطاجنة في البحر وتدمير اسطولها البحري، وفي الجولة الثانية من صراع ديناصورات العهد القديم، نقلت قرطاجة الحرب الى الأرض البرية، بعد أن خسرتها في البحر، وخف تدفق الذهب عليها من أمريكا، بفعل تقلص أسطولها البحري، الذي كان يمخر عباب المحيطات، فقامت باحتلال اسبانيا لتجعل منها قرطاجنة الجديدة، ومازالت هناك مدن في اسبانيا تحمل الاسماء الفينيقية حتى اليوم (راجع قصة ماجلان ورمي الموظف الملكي الذي يحمل اسم قرطاجة ـ خوان دي كارتاجينا ـ على الساحل الأجرد عند أرض البيتاجونيا جنوب الارجنتين الحالية بعد قيامه بالعصيان ضد ماجلان).
وكانت الجولة الثانية تجري على الأرض الايطالية يقودها رجل من أعظم الرجالات العسكريين الذين أنجبهم التاريخ العسكري هو (هانيبال) الذي طوَّر تكتيكات مذهلة، سحق بها أعظم الجيوش الرومانية وقتل خيرة شباب روما، وأنزل على رؤوسهم دبابات العصر القديم: الفيلة؟ التي حملها من أفريقيا وعبر بها جبال الألب وثلوجها، في حركة عسكرية مطوقة مذهلة، يعقد التحالفات مع أعداء روما فوق أرض (الجزمة) الايطالية، واستمر يخرب في الأرض الرومانية لفترة 18 سنة، ليستقر عند (كابوا) جنوب إيطاليا الحالية، في حملة لم تتعافى منها الأرض الايطالية حتى يومنا هذا، بموجب شهادة المؤرخ البريطاني جون آرنولد توينبي دون أن تستطيع روما أن تواجهه عسكرياً بسبب التكتيكات العسكرية الرائعة التي كان يستخدمها ويسحق بها التجمعات الرومانية.
وكانت الجولة الثالثة على الأرض الأفريقية عندما حفظت روما دروس ( هانيبال) وطبقتها ضده، وتمت هزيمة هانيبال المُرَّة عند أسوار مدينته في معركة (زاما ZAMA) عام 146 قبل الميلاد، لتنتهي قرطاجنة لاحقاً ذبحاً وترويعاً على يد الجنود الرومان الذين استباحوا المدينة وذبحوا نصف مليون من السكان، في تعداد تلك الأيام، مايعادل عشرة ملايين من سكان المدن هذه الأيام، فدولة قرطاجنة كانت ممثلة في المدينة العالمية قرطاجة.
هذا المشهد التاريخي الدرامي هو الذي حرك مشاعر الخطرالعميقة والرعب المروع عند (تشرشل) لما رأى زحف الطوابير الهتلرية ونسور اللوفتفافي ( LUFTWAFFE) السلاح الجوي الألماني، في بداية عملية (أسد البحر) التي لم تنفذ، والتي كانت تستهدف احتلال الجزر البريطانية، فوقف يذكِّر الشعب البريطاني بتلك اللحظات التاريخية من دمار الحضارات، فاستشهد بقرطاجنة التي لم تستسلم، وتم ذبحها على يد البرابرة الرومان.