لئن ظن مرتكبو جريمة اغتيال الشاعر فدريكو غارثيا لوركا أنهم بحقدهم الأسود قضوا عليه في ريعان الشباب فإنهم أخطأوا، إذ جعلوا منه أسطورة شعرية حية رغم مرور ما يقرب من ثمانية عقود على مصرعه، بل سوف يظل مصدر إلهام وترقية للذائقة الشعرية لأجيال قادمة طوال ما بقي للأدب من حياة بين البشر.
لا وجود لدواعٍ سياسية ذات ثقل تحمل الفاشيست على ارتكاب جريمة مصرعه في الأيام الأولى لاشتعال الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939)، فما لدينا من أسباب متواترة على ألسنة بعض أقرانه تظل غير كافية، إذ أنها تهيم في سماء التخمينات والتوقعات.
يبدو أن مصرع فدريكو غارثيا لوركا في تلك الظروف رفعه إلى مصاف كبار شعراء العالم، فهو لا يقل قيمة عن شعراء عالميين آخرين لكنهم كتبوا بالإنجليزية أو الفرنسية، بينما كتب الشاعر الغرناطي بالإسبانية الأقل انشاراً في الساحة الثقافية في العالم.
معروف أنه كان عضوًا في جيل 27 الشعري الذي انتمى إليه آخرون من كبار شعراء الإسبانية في القرن العشرين، لكنهم لم يحققوا صيتًا وانتشارًا مثل غارثيا لوركا. ولهذا لا ينتقص منه شيئًا، لكن المؤكد أن القتلة لم يتوقعوا له هذا النجاح الواسع لاحقًا.
وامعانًا في اخفاء أي أثر مادي له ألقوا بجثته في مكان ملغز، فلا مستقر نهائي لجثمانه، وكل ما يدور حول هذا الأمر محض تكهنات وروايات شفاهية متواترة، ولا يزال موضع دراسات ولقاءات ودراسات، كلها تدخل في حيز التكهنات. فلا توجد وثيقة رسمية حول أسباب اعتقاله ولا عن مكان دفنه، ما يجعله أمرًا ملغزًا.
إذا كان حسنو النية قد اعتقدوا أن حُلُول الديمقراطية يحل ألغاز الاستبداد ويكشف ما خفي من جرائمه بغية محاسبة المسؤولين عنها فإنهم يسيرون في درب الأوهام، في سراب يرى فيه طيبو القلب صورًا لتحقيق العدالة، ضمن مدينتهم الفاضلة التي تصوروها في لحظات التحول الفارقة في بلدانهم.
آخر صورة لغارثيا لوركا
كان هذا جزءًا من سراب ذهني شهدته غالبية الإسبان بوفاة الجنرال فرانكو، مهندس الانقلاب على الجمهورية الوليدة واشعال الحرب الأهلية الإسبانية 1936/1939، التي راح ضحيتها مئات الآلاف وخربت البلاد، وأجبرت صفوة مثقفي إسبانيا على المنفى وتفككت أوصال أعظم جيل شعري عرفته إسبانيا والعالم في القرن العشرين، جيل 27.
ففي الثامن عشر من أغسطس تحل ذكرى مصرعه هذا الشاعر الغرناطي دون فك طلاسم الجريمة، والمكان والدواعي الرسمية لاغتياله على يد اليمين في ضاحية الفكار -الفَخار العربية- على مقربة من مدينة غرناطة.
إنها أغرب جريمة إغتيال أشهر شعراء اللغة الإسبانية مند أو ولدت في القرن العاشر. ولا يزال بلا إجابة نهائية السؤال الذي طُرح منذ صيف 1936 حول هوية الذين قتلوه ودواعيهم الحقيقية، بعيدًا عن تلك التي تعتريها التكهنات، رغم عشرات الكتب والبحوث والمقابلات التي نُشرت حول هذه القضية.
يبدو أن أيادٍ خفية تحول دون فتح ملفات جرائم كثيرة ارتكبها نظام الجنرال فرانكو، من بينها مشروع “الذاكرة التاريخية”، وتمكنت من دفن المشروع الذي كان سيعني نبش ملفات جرائم تلك الحقبة، وكذلك الاضرار باليمين السياسي.
من بيدهم المال والسلطة، ورثة حقبة الجنرال فرانكو، لا يغفرون لليسار، ورثة الجمهورية المَوْؤُدَة، وقوفهم في وجههم دفاعًا عن نظام اختاره الشعب مسقطًا الملكية.
لا يزال ورثة ذلك النظام الفاشي يسيطرون على خيوط القوة والسلطة في البلد رغم عودة الديمقراطية والحريات منذ أربعة عقود، إذ بدأت شكليًا بوفاة فرانكو ووضع دستور 1978. مجموعة فرانكو لا تزال لها الكلمة الأولى في الاقتصاد وولها ثقلها النوعي والطاغي في السياسة.
من الموضوعات المهمة في أعمال غارثيا لوركا الطفولة الضائعة، الوحدة، الحب، العشق والمرأة، وكلها مواضيع بارزة في أشعاره. ربما كان الموت أكثر موضوع شغله في أعماله ومما قاله عنه “الموت حياة عشناها. والحياة موت قادم”.
ويرى أن الموت حاضر ليس فقط في اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان بل طوال وجوده. وقال “الحياة ضحكة في مسبحة الموت”. وفي أشعاره عن الغجر يتجلى الموت حيث يعالج شعورًا عميقًا يؤرق الإنسان. ومع ذلك فقد قال “بما أنني لم انشغل بمولدي فإنني لا أنشغل بمماتي”.
ربما كانت البيئة الأندلسية، جنوبي إسبانيا، التي تربى فيها وراء هذا الإهتمام بالموت في نتاجه الأدبي حيث أن يحتفون بالموت في هذا الإقليم الذي لا يزال يحمل اسم الأندلس التاريخية.
وفي هذا السياق قال صديقه الرسام العالمي سلفادور دالي في كتابه (يوميات عبقري).”كان لوركا يشير إلي موته خمس مرات في اليوم علي الأقل، وكان لا يستطيع الذهاب إلي النوم ليلا إلا إذا وضعته مجموعة منا في السرير. لا يعدم الوسيلة في أن يطيل الحديث عن الشعر الذي ينتهي، وغالبا بمناقشة الموت خاصة موته. كان يغني ويمثل بحركاته كل ما يتحدث عنه وبشكل خاص الحديث عن موته كان يقول: انظر. هكذا سأبدو حين أموت”.
متحف لوركا في قريته
وهنا تحضرني قصيدة له ضمن ديوان “شاعر في نيويورك” الذي كتبه على إثر زيارة لهذه المدينة الأميركية تحت عنوان: “أسطورة الدائرة والأصدقاء الثلاثة”، وفيها تنبأ بموته وضياع جثمانه، حيث يقول:
عرفت أنني قُتلت
بحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
دمروا ثلاث جثث
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يعثروا عليّ.
في بداية دراستي الجامعية كنت قرأت تقريرًا حول كتاب لناقدة أميركية مفاده أن الحقد والغيرة كانا وراء مقتل ذلك الشاعر في ريعان شبابه، 38 عامًا. لم استوعب الفكرة من منطلق إنساني، وقصر تجربتي. ومع مرور الأيام والسفر إلى إسبانيا للدراسة ترددت على إميليو غارثيا غوميث، شيخ المستعربين سنتئذ، في منزله وفي أكاديمية التاريخ التي كان يرأسها. في كل مرة كنا نتحدث فيها عن الموريسكيين وتأثير كتابه “قصائد عربية-أندلسية” في الأدب الإسباني، كان على رأيه لا يحيد، رغم أن الفارق بين أول وآخر لقاء عقد من الزمن. وضمن ما أكده إن الحقد كان المحرك الرئيس لمقتل غارثيا لوركا، فهذا الشاعر لم يتحزب، مع قربه من الفكر الإشتراكي، المتمثل في الجمهوريين.
ومن بين ما قاله إنه آسف كثيرًا لكون غارثيا لوركا لم يشر إلى تأثره بكتابه قصائد عربية أندلسية. إلا أن رفائيل ألبرتي أكد لي أن الشاعر الغرناطي لم يمهله الاغتيال للاعتراف بأشياء كثيرة، من بينها تأثره بالشعر العربي الأندلسي.
أما زميله وصديقه الشاعر رفائيل ألبرتي نفسه أسر لي أن قصيدة له كانت سبب جريمة اغتياله، كتبها ألبرتي ورددتها الإذاعة، هاجم فيها الانقلابيين وشحذ همم الجمهوريين، فظن اليمن أن مؤلفها غارثيا لوركا، وعندما كُشف عن مؤلفها الحقيقي كانت قد وقعت الواقعة، وانتهى الشاعر الأسطورة.
هناك رأي آخر للشاعر ماريو إرنانديث، الأستاذ في جامعة مدريد أوتونوما وأحد أبرز الباحثين في أعمال غارثيا لوركا وجيله، مفاده أنهم قتلوه للاعتقاد بأنه كان شيوعيًا ولوطيًا. أوهي المقولة التي انتشرت لاحقًا ولم تُثبت، سوى في شقها الثاني.
هذه الآراء لا تعدم الوجاهة، إلا أن مقولة الجاحظ بخوص حقد الصنف، القائم على عناصر إجتماعية من الموروث الريفي وصراعاته الزراعية والاقتصادية، تبدو الحصان الرابح، إذ كان والد الشاعر يتمتع بنفوذ اقتصادي ووجاهة اجتماعية في منطقة غوطة غرناطة، نظرًا لامتداد ممتلكاته الزراعية، إلى جانب عائلتي ألبا ورولدان المشهورتين في المنطقة ذاتها.
كان والده كبير عائلة تنتمي إلى البرجوازية البازغة التي كانت تتنافس مع العائلتين الأخريين في شراء ممتلكات طبقة النبلاء المتهالكة في الغوطة. وأضيف إلى هذا أن الشاعر الشاب استلهمها في عنوان آخر مسرحياته، بيت برناردا ألبا، ما أجج حقدهم المتوارث عليه. ويقال إنها القشة التي قصمت ظهر البعير في آخر أيامه، إذا أعدتها عائلة ألبا إهانة لها أن تحمل بطلة المسرحية المتسلطة لقبها.
وفي تلك الظروف التاريخية، ضياع آخر مستعمرة إسبانية كوبا عام 1898 وانقطاع شحنات السكر الكوبي إلى إسبانيا، سجلت مزارع بنجر السكر رواجًا لم يكن في حسبان تلك العائلات الريفية، ودخل والد الشاعر شريكًا في مصنع السكر عام 1904، واشترى مزيدًا من الأراضي، لكن أل رولدان وقفوا له بالمرصاد واتهموا المصنع بتلويث مياه الري في المنطقة، وتمكنوا من وقف انتاجه لمدة عام.
كان أفول الإمبراطورية الإسبانية وانكفاء إسبانيا على الذات سببًا في حدثين تركا بصماتهما في حياة فدريكو الذي ولد في السنة نفسها. فأمام فاجعة انحسار الإمبراطورية الإسبانية ولد جيل من كتاب البلد ومفكريه أطلق عليه جيل الـ 98، السابق لجيل فدريكو ومجايليه الذين ثاروا على جيل “العواجيز” سنة 1927. ومع ضياع كوبا لصالح الولايات المتحدة انقطعت شحنات السكر عن إسبانيا، فراجت صناعة السكر من البنجر.
في تلك الأثناء كان فدريكو – فدريكو غارثيا رودريغيث- عضوًا في المجلس المحلي للمحافظة، ما أتاح له المشاركة في لجنة سياسية ألغت انتخابات محلية أجريت سنة 1918 اعتراها تزوير بغية تمكين كبير عائلة رولدان من الحصول على عضوية المجلس البلدي. وكبرت الأحقاد وترصدت العائلة المنافسة لوالد غارثيا لوركا وقلدت خطاه في انتقاله مع أسرته إلى العاصمة وادخال ولديه، فدريكو وفرانثيسكو، في كلية الحقوق. كل هذا نسج خيوط مقتل الشاعر الذي كانت هده الأحقاد سببًا فيه.
ويؤكد الباحث الإسباني ميغيل كباييرو في كتاب أصدره تحت عنوان “الساعات الثلاث عشرة الأخيرة من حياة فدريكو” أن العائلات الثلاثة كانت في الماضي متآزرة، تثبت جذورها ووجاهتها من خلال توسيع رقعة ممتلكاتها من الأراضي الزارعية، وانتشرت بينها مصاهرات مصلحة منعًا لتفتيت الملكيات بين العائلات الفقيرة!
وفي هذا السياق يبرز الباحث الأيرلندي المشهور إيان جيبسون – أفضل من كتب عن سيرة غارثيا لوركا وأعماله، وهو أكثرهم انتاجًا في هذا المضمار- تميز أسرة الشاعر بطابع فني، يعود إلى الأب الذي كان ذا عقلية منفتحة، بلا قيود دينية، ودماثة خلق، لكنه كان ماهرًا وعصاميًا في دنيا الأعمال، بينما كان البعض يرى فيها اقطاعيًا إشتراكيًا.
في تلك الأثناء كان الشاب فدريكو يتنقل بين غرناطة والريف ومدينة الطلاب في مدريد حيث تعرف إلى ثلاثة من أبرز مثقفي وفناني إسبانيا في القرن العشرين، السينمائي لويس بونيول، والمصور سلفادور دالي، والشاعر رفائيل ألبرتي. كان دائم الهرب من غرناطة الجميلة والمكبلة للحريات بسبب البرجوازية الرثة التي كانت تتحكم فيها، حسب الشاعر نفسه.
نأى فدريكو بنفسه دائمًا عن محرقة السياسة، في وقت كانت إسبانيا تموج بصراعات سياسية واجتماعية خانقة، كان يرى أنها في النهاية ستؤدي إلى دماء وجثث تملأ مزارع طفولته التي حفرت وجودها في أعماله. لكن هذا لا يعني أنه كان بلا أيديولوجية، فلم يعش قط في برج عاجي رغم أنه كان من أسرة غنية، ولد ووجد نفسه محاطًا بكل ما تتمناه النفس البشرية من أشياء مادية، إضافة إلى ما جاء به مسرحه وشعره ومحاضراته من نجاحات مبكرة.
ومع هذا صاحبه ألم طوال حياته، حسب مجايليه، يُتم لا تفسير له، عاش يتألم لألم الأخرين في هذا العالم، وهو ما تنضح به أعماله. ومن شعوره بمعاناة الآخرين، ومعاصرته لأنواع شتى من الظلم، حملت أعماله نبرتها الثورية، الثورة من أجل تغيير العادات والتقاليد البالية.
من هذا الألم ورفض الظلم كتب ديوان “الأغاني الغجرية”، العمل الذي جعل جهاز الحرس المدني ينظر إليه بريبة، وديوان “شاعر في نيويورك” الذي رفع فيه إصبعه ضد البابا وضد الإمبراطوية الجديدة، وأثار نزاعًا غير معلن بين العشق والقمع في أعماله المسرحية مثل “عرس الدم” و”يرما”.
وكان قبل مقتله يكتب مسرحية حول إجبار الشباب على المشاركة في الحرب، وهي دعوة مبكرة للامتناع عن أداء الخدمة العسكرية، وهو ما أصبح واقعًا في إسبانيا في نهاية القرن العشرين.
ويقول ميغيل كباييرو إن غارثيا لوركا لم يبرأ من هجوم الصحافة المحافظة عليه، إذ كانت ترى في مسرحياته التي تعالج مشكلات إجتماعية قائمة بأنها من شأنها أن تؤدي معاقبة المؤلف بموجب القانون الجنائي، وتطبيق عقوبة الإعدام عليه، فلا يمكن لسيدة وقور أن تشاهد هذه الأعمال التي نعتوها بالفاضحة.
هذا الهجوم موثق في مجلة فاشية عنوانها Gracia y Justicia في تقرير حول مسرحيته الشهيرة “يرما” عام 1934. كل هذا كان تعبئة، عن قصد أو دونه، لما سيحدث للشاعر فجر 18 أغسطس 1936.
وبعد عامين من تلك الواقعة وضع غارثيا لوركا اللمسات الأخيرة على مسرحيته الأخيرة “بيت برناردا ألبا”، في مطلع يوليو 1936، بعد أن قرأها في دوائر مقربة في مدريد وغرناطة، وكان يستحق عليها عقوبة الموت وفقًا لليمين الإسباني. كان الجنرال فرانكو على وشك القيام بالانقلاب واشعال فتيل الحرب الأهلية.
الأجواء كانت متلهبة في أنحاء إسبانيا كافة، ما حمل فدريكو على التفكير في أن غرناطة ستكون أكثر أمانًا من مدريد رغم نصائح أصدقائه بأن مسقط رأسه سيكون أسوأ حالاً. في هذا السياق يضيف ميغيل كباييرو معلومات جديدة كثيرة ومثيرة حول الساعات الأخيرة من حياة الشاعر الغرناطي. من بينها أن أشخاصًا من عائلة رولدان شاركوا في هذه المسيرة السوداء، أبرزهم أوراثيو رولدان.
وفي اليوم الأول لاندلاع الحرب الأهلية قبضت قوات حزب الكتائب على زوج شقيقة فدريكو وقتلته ثم اقتفت أثره في القرية إلى أن عرفوا أنه يختبئ في منزل صديقه الشاعر لويس روساليس. ولم يغفر له أنه كان في منزل أسرة تنتمي إلى هذا الحزب اليميني، وحملوه في الليل إلى أطراف غرناطة مع خمسة موقوفين آخرين حيث قتلوا الستة.
لا يزال العثور على رفات غارثيا لوركا يمثل هوسًا اجتماعيًا وثقافيًا. هناك رأي يفيد أنهم لن يعثروا عليها فقد عُثر عليها عام 1986 عندما كانوا ينشئون طريقًا وحديقة عامة في المكان الذي أعدم فيه هو ورفاقه. وبدلاً من أن يطالبوا بتحقيق قضائي في تلك الرفات دفنوها في مكان آخر رغم أن البلد كان ينعم بالديمقراطية. كل هذا جعل من جريمة مصرع غارثيا لوركا من أغرب حالات التوقيف القسري والقتل في تاريخ الأدب.
وهنا عادةً ما يتردد سؤال عما إذا كان مصرعه ثم اختفاء جثته وما نُسج حولها من حكايات: هل لو كانت وفاة الشاعر الغرناطي طبيعية لنال هذه الشهرة؟ هذه فرضية يصعب الإجابة عليها، لكن الموت غدرًا دائمًا ما يحمل المخيلة الجمعية إلى نسج الأساطير حول المغدور، وإسبانيا بلد متوسطي، وخاصة جنوبه، أي إقليم الأندلس، ملئ بالأساطير.
هذا السؤال طرح بخصوص أحد مصارعي الثيران المشهورين الذي صرعه الثور، كان اسمه مانوليتي، وحدث هذا في أربعينات القرن العشرين، أي بعد قليل من انتهاء الحرب الأهلية، وقد نسجت حوله حكايات وأساطير لا حصر لها. كلاهما بطلا أساطير، لكن مع الفارق في أن غارثيا لوركا ترك أثرًا ماديًا عظيمًا لا تمحوه الأيام.
ومع ذلك أحيانًا أتساءل: هل لو قدر له الفرار من جحيم الحرب الأهلية كما كان قد أعد هو وصديقه العزيز Juan Ramírez de Lucas خوان راميريث دي لوكاس، ذو السبعة عشر ربيعًا الذي أصبح لاحقًا صفحفيًا وناقدًا مشهورًا. كانا قد خططا للهرب إلى أميركا اللاتينية لكن الشاب الصغير كان يحتاج إلى موافقة مكتوبة من والده فسافر إلى قريته في إقليم قشتالة لا مانشا بينما توجه لوركا إلى غرناطة فقبض عليه بينما كان مختبئًا في منزل صديقه الشاعر لويس روساليس، ابن الأسرة المتنفذة في المدينة، لكن الحرس المدني لم يحترم أي شيء فاقتادوه لساعات في مقر الحاكم العسكري واغتالوه ومع خمسة أخرين في ريف المنطقة.
غارثيا لوركا الشاعر والإنسان منجم لا يزال يحتاج إلى الكثير من السنوات لاكتشاف أسراره. وهنا يحضرني موقف عشته في متحفه في قرية بالديرّوبيو منذ ثلاثة أعوام. فقد أخبرني مدير المتحف والمرشد عندما علما أنني مصري أن شقيق الشاعر كان يعمل قنصلًا في سفارة إسبانيا في القاهرة عندما حدثت واقعة إغتياله.
وفي الفترة الأخيرة أصدر كاتب مسرحي أخر من غرناطة هو خوسيه مورينو أريناس بعنوان “فدريكو بشحمه ولحمه” وهي تعرض في مسارح إسبانيا منذ عامين.
غلاف مسرحية فيدريكو لوركا بشحمه ولحمه
وفي هذا المسرحية عمل المؤلف على حذف الطلاء الذي يغطي شخصية لوركا شاعرًا وإنسانًا، بالغوص في داخل هذا الإنسان من خلال علاقته بشخوص بعض مسرحياته. المسرحية ليس تاريخًا بل تخوض في هذا الشخص المغدور الذي أحيكت حوله الأساطير.
هذه المسرحية غيض من فيض، من دراسات وأعمال أدبية تستلهم هذا الشاعر الأسطورة. كما أنه يشكل جزءًا مهمًا في المواد الدراسية في إسبانيا.
كان فدريكو يعتز بالحقبة الأندلسية ويرى أنه سليل أولئك العرب الذين عمروا الأندلس التاريخية. وهذا طبيعي إذا أخذنا في الاعتبار أن ولد في غوطة غرناطة الواسعة وأينما تمشي فيها تجد قرى تحمل أسماء عربية، ولا تزال هناك شواهد على عظمة الأندلس وأبرزها قصر الحمراء وحي البيازين والمدرسة.. إلخ. هذا بالإضافة إلى أن غرناطة كانت آخر مملكة عربية في مسلسل سقوط الأندلس النهائي عام 1492.
لا شك أن فدريكوغارثيا لوركا كان الكاتب الإسباني الأبرز بين الإسبان لدى كتاب وقراء العربية، ولا يتفوق عليه في شغل مساحة عريضة في الوطن العربي سوى الأندلس، بوتقة حضارات المتوسط. وقد ترك بصماته في الأدب العربي، ووصل التأثر به ذروته في جيل الخمسينات، ويشاع أن صلاح عبد الصبور كتب بعض مسرحياته مستلهمًا أعمال الشاعر الغرناطي الأسطورة. وفي هذا الاطار احتفت بذكرى مصرعه قناعة النيل الثقافية المصرية مؤخرًا بحلقة مدتها قرابة الساعتين شاركت فيها إلى جانب الدكتور أحمد عبد العزيز وزملاء من المغرب وتونس والعراق وإسبانيا وكاليفورنيا (1).
كتاب عرب كثيرون كتبوا عن غارثيا لوركا ولا يزال هناك من يكتب عنه في العالم العربي وهو هنا يذكرني بمن يكتبون عن الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية، إذ أن وقعهما لا يزال يأتي بثماره في أدب العربية. وهو حاضر قي شعر كثيرين، من بينهم صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي، محمود درويش..
وأخرون كثيرون. لكن من الملفت للنظر أن شاعرًا كبيرًا آخر مثل نزار قباني لم يكتب عن غارثيا لوركا رغم عشقه للأندلس وكتابته عن جمال نسائها، والشيء نفسه يسنحب على أدونيس الذي لم يكتب عن لوركا. أظن أن غارثيا لوركا حظي بمساحة أكبر من أي كاتب إسباني أو أميركي لاتيني آخر في العالم العربي دراسةً وترجمةً.
(1) رابط برنامج قناة النيل الثقافية المصرية “السيرة حول حياة الشاعر غارثيا لوركا” الذي بُث يوم 13/08/2024.