نحس أن هناك سياقا عاما يسير بقوة نحو تعميم الرداءة والتفاهة في المشهد السياسي للتيئيس من اللعبة السياسية، ففي الوقت الذي أطلقت فيه مشاريع كبرى من حجم تعميم التغطية الصحية والنموذج التنموي الجديد، يستمر تبخيس وظيفة الأحزاب والمنظمات المهنية والنقابية وباقي الوسائط السياسية وتهجين الإعلام..
لقد كنت في طليعة من ينتقد الأحزاب السياسية ويكشف عن كل ما يروج فيها من مخاض وصراعات ومعلومات أعتبر من حق المواطنين معرفة ما يدور في قلب مؤسسات تمول من جيب دافعي الضرائب، لكن لم أدع يوما إلى التيئيس من الأحزاب أو تهميش الوسائط المجتمعية.
لأن ذلك لن يكون في تقديري سوى باب للجحيم وضرب الديمقراطية التي تقوم في جوهرها على ضرورة وجود أحزاب تنظم الرغبات والطموحات وتشكل صمام أمان للنظام السياسي، لأنها تنظم المواطنين وتؤطرهم وتؤمن مشاركة واسعة للناس في اللعبة السياسية، ما سبب هذه الدعوات التي تصل حد وضع كل الأحزاب في سلة واحدة، وتيئيس الناس في نجاعة النظام التمثيلي، الأمر لم يعد مقصورا على الإعلام بكل أشكاله القديم والجديد، ولكن أيضا أصبحنا نلاحظ هيمنة طروحات تقنية تقنوقرتطية ووجود حساسية مفرطة حول الأحزاب ومختلف القضايا السياسية التي هي المفتاح لكل إصلاح ديمقراطي أو إقلاع اقتصادي أو انتقال اجتماعي؟
ثم وهذا مهم جدا ما الذي قامت به هذه الأحزاب من أجل محاصرة فساد نخبها وتركز كل هواجس المنتسبين لها، إلا من رحم ربك، للارتقاء الاجتماعي والإثراء غير المشروع؟
هناك علاقة جدلية بين الظاهرة الحزبية وطبيعة الحياة السياسية في أي بلد، حيث لا يمكن مقاربة تحولات الأحزاب السياسية بمعزل عن سياق تطورها وعن التربة التي احتضنتها بحكم الارتباط العضوي بين الأحزاب والواقع السياسي والمجتمعي الذي نبتت فيه، والمغرب ليس استثناء.. فما وقع عبر مسار طويل من انسداد القنوات الطبيعية للممارسة السياسية، وانحسار الفعل السياسي أدى إلى انتقال العديد من الممارسات الاجتماعية غير السليمة إلى صلب الكيانات الحزبية، من هذا المنطلق وفي ظل سياقه يجب فهم طبيعة التحولات التي مست معظم الأحزاب المغربية وعدم قدرة العديد منها على تجاوز تناقضاتها التنظيمية والسياسية، ليس كظاهرة منفصلة من جهة عن النظام السياسي، ومن جهة أخرى عن سياق تطور هذه الأحزاب في تربة مجتمعية محددة..
لا يمكن أن نحرم على وسائل الإعلام وعموم المواطنين الحق في انتقاد الأحزاب السياسية وإبداء ملاحظاتها على أوجه القصور فيها، فالديمقراطية لا تتأسس سوى على ضرورة محاسبة ومراقبة الفاعل السياسي، ضمنه الحزبي خاصة، لكن أصبحنا منذ زمن غير بعيد أمام أشكال من النقمة والجلد المستمر للأحزاب ذات الامتداد التنظيمي والمستقلة في نشأتها وإلى حد ما في قراراتها، بل انبرى البعض إلى محاولة تحميلها كل مآسي المملكة وما تعانيه من تدني نجاعة السياسات العمومية وبطء الإصلاحات وانتشار ممارسات الفساد، وتداخل الأدوار والوظائف بسبب غموض سلطة اتخاذ القرار، وهيمنة أسماء جديدة من التقنوقراط المحزبين أو المصبوغين بألوان حزبية..
إن جزءا كبيرا من هذا النقد له كفايته ووجاهته، وهو حقيقي في العديد من وجوهه، لكن تعليق كل شماعات الفشل والقصور على الأحزاب السياسية فيه الكثير من التجني والتحامل، وصل مع هيمنة وسائط التواصل الاجتماعي إلى حد مطالبة البعض بعدم دعم الدولة للأحزاب وحلها والاكتفاء بالتسيير الإداري للبلاد باعتبار أن لا حجة لنا لا بالأحزاب ولا بالنقابات ولا الهيئات المدنية ولا بانتخابات تشريعية أو جماعية، وارتفاع أصوات تدعو إلى مقاطعة الانتخابات..
برغم احترامي لمختلف التعبيرات المعبر عنها بهذا الصدد، غير أني أرى أن مثل هذا الخطاب يشكل معاول هدم للمنجز الديمقراطي على قلته في المغرب، من أين جاءت هذه الأمراض الجديدة للنقد الهدام الذي ييئسنا بشكل جماعي من الأحزاب والنقابات وكافة الوسائط السياسية؟
ضبابية المرحلة وتقاعس النخب
لم نعد قادرين حتى على تسمية ما نعيشه حقيقة، تبدو أدواتنا في التحليل غير مسعفة على وسم وتوصيف هذا الواقع السياسي الذي أضحينا نعيش في خضمه، بلا بوصلة، وبلا خرائط تنقذنا من التيه، ومن المسارات الأكثر إيلاما.
لم تعمل السياسات التحكمية بالمغرب سوى على تدجين حواسنا وتنويم الوعي النقدي فينا، وها نحن شهود على ما يشبه الدراما الحزينة لتبدلات السياسة، والممارسين في حقلها، وتراجع القيم، والانغلاق على هويات متوحشة دينية وعرقية وإثنية.. حتى أصبحنا غرباء عن ذاتنا، بالأمس كان العدو واضحا في السياسة، إنه الآخر تشكل في صورة المستعمر أو نظام استبدادي، أو المركب الإداري المصلحي المناهض للتغيير..
كان العدو على مرمى حجر منا، نحدده بدقة ونمتلك عبقرية استثنائية لتوصيفه وتعيينه، كنا مثل ملائكة في مواجهة شياطين، مناضل انتحاري في مواجهة مناضل انتهازي.. لم تكن شاشة رصدنا سوى بلوني الأبيض والأسود.
وفجأة، انهار كل شيء واكتشفنا أن الشياطين ينبعثون بيننا ومنا، وأن الشر ليس من وظيفة الغير، والجحيم يوجد أيضا في ذواتنا وليس في الآخر فقط.. اتسع ذلك الثقب الأسود الذي تحدث عنه الشاعر دانتي، ليلتهم بشهية لا توصف، قيم البراءة، التضحية، النزاهة، نكران الذات والإيمان بفضيلة العيش المشترك، أما الوطن والشرف فأضحت ـ لدى النخبة كما في قاع الطبقات الاجتماعية ـ مثل خردة متلاشيات أو نفايات لا تصلح حتى لإعادة التدوير..
وأنا أتأمل كل هذا الانحطاط المحيط بنا، لم أجد شيئا أصف به حالنا اليوم غير ما عبرت عنه جوليا كريستيفا ب”الجثث الحية”، وهي تشكو الرداءة والعنف الذي أصبح يغزو الحياة الإنسانية التي تحولت إلى شيء يخلو من أي قيمة، من خلال تفجير الشر باعتباره ثقافة.. ليس الأمر خصيصة مغربية، فالتفاهة والعنف والإسفاف أرضية مشتركة معولمة، لم يعد هناك حزب سياسي قادر على المبادرة الصادقة والرغبة في البناء دون أن يتعرض للشيطنة والتسفيه.
وافتقد الفاعل السياسي للوعي النقدي وانفصلت التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية عن عمقها الاجتماعي، وبرغم استمرار بعض الوجوه المشرقة والنيات الخالصة لبناء الوطن، نما خطاب شقي يجلد الذات الحزبية، ويعلق على شماعة التحولات الكبرى التي أصابت التنظيمات الحزبية بالمغرب، كل أسباب تخلف المغرب وأوزار انتشار الفساد وضعف الحكامة واختلاط الأدوار وهجمة الرأسمال على مناصب قيادية في تنظيمات حزبية، وهو ما يؤدي إلى تعميق فجوة الثقة في النظام التمثيلي ولعب الأحزاب دور الوساطة، ومساعدتها على النجاح في تجاوز تناقضاتها وأمراضها بتشجيع النماذج الإيجابية للنجاح، بدل التركيز فقط على الأسماك الفاسدة لنرمي كل الشبكة في بحر أصبح برأي العديدين هو نفسه ملوثا وفاسدا..
الإعلام الجديد وخطاب “أنا وحدي نضوي البلاد”
زاد الإعلام الجديد العابر للقارات، من تسطيح وعي المغاربة، دون نكران فضائله التي لا تعد ولا تحصى، وأصبحنا نميل إلى الشاذ ونستهوي ”الفضائحي”، حتى تحول الفضاء الأزرق والأحمر والأخضر، إلى ما يشبه “جنة السماء” في مقابل ما وصفته حنا أرندت ب”جحيم الأرض”، ممزقين بين الواقعي والافتراضي، نعيش حالة فصام بين الإنساني والحيواني فينا، المنطقي/العلمي والخرافي.
تراجع الإعلام الأنيق وانحسر عدد قرائه، وأصبح المغاربة غارقين في تفاصيل اليومي حتى قُنّة رأسهم، تمطرهم الهواتف الذكية والحواسيب وشاشات التلفزيون الإلكتروني بكل أشكال المسخ الوجودي، محاصرين بأشباه السياسيين الذين زحفوا مثل الجراد على التنظيمات الوسيطة بين الدولة والمجتمع، والتي تتمثل وظيفتها الأساسية في تليين الغرائز المتوحشة، وترسيخ السلوك المدني لدى المواطنين، وتسلق بهلوانيون ومهرجون أعلى سلم مؤسسات الدولة والإدارات، والتنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية، بلا كفاءة ولا استحقاق.. وغرقت الساحة السياسية بكائنات سطحية، جشعة، متملقة، وخردة أغبياء لا تليق بمعظمهم حتى سلة مهملات التاريخ.
وها نحن شهود على ذلك الانفصام بيننا كجثث حية وبين شرطنا الإنساني، نفتقد لأساس الارتكاز الوجودي، الذي هو فن مقاومة الرداءة والتفاهة وكل أشكال الشر الذي تحول إلى ثقافة منوه بقيمتها.. مستسلمين كأبطال تراجيديين لهذا التسونامي الجارف، وعلينا أن نغرق في وحله، ونساير مساراته.. ورغم وجود بعض علامات الضوء في كل هذا المسخ، نساء ورجال نزهاء يقاومون وسط أحزابنا الأصيلة، ومن مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية لم تخفت جذوة الأمل لديهم في الإصلاح والتقدم..
لقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي الفرد المغربي الإحساس المخادع بالقدرة على الاستقلالية وعدم الحاجة لكل أشكال التمثيل أو الوساطات في السياسة والمجتمع كما في كل مناحي الحياة، ولو أن الأمر يمس في العمق أزمة النظام التمثيلي في الديمقراطية على المستوى الكوني، إلى حين.. إذ كشفت أزمة كورونا الحاجة إلى المصالحة مع السياسة وضرورة إعادة الثقة في الأحزاب السياسية، المدعوة أيضا لتجاوز أعطابها وما يوسع الهوة بينها وبين المواطن..
نحن أمام جيل جديد من الشباب، يسميه العلماء “الجيل المتصل”، أو الإنسان المتصل homo connecté، بعد الإنسان الصانع والإنسان العالم، جيل يعيش معظم أوقاته في العالم الافتراضي ولا يرجع إلى الواقع إلا من أجل الأكل أو النوم أو الاستحمام.. أي من أجل العيش pour survivre، لذلك يحس بأنه لا حاجة لكي يمثله أي أحد لا في الجماعة ولا في البرلمان أو النقابة أو غيرها، وبيده هاتفه الذكي الذي يوصله بالعالم ويعبر من خلال عن ذاته ومشاعره، أي بكلمة يمارس به وعبر تواصله مع الآخرين افتراضيا كينونته ووجوده، لكن الوجه الآخر للعملة، هو أنه لا يكفي التعبير عن الغضب والسخط ومختلف أوجه النقمة مما هو موجود في مختلف الوسائط..
فالتعبير عن الرغبات والأحلام والطموحات ورفض الوضع القائم، لا ينقلها إلى الواقع لتصبح ذات وجود مادي محسوس، يجب الوعي أنه لا يمكن لوسائط التواصل الاجتماعي أن تنقل الطموحات والأماني إلى واقع بديل عما هو سائد في الواقع، بدون انخراط قوي في مسار الحركية الاجتماعية والسياسية، والإيمان بأن التمثيلية بكل عيوبها تظل حتى اليوم أحد أبدع ما أنتجته الديمقراطية في عصرنا، إنها الأقل سوءا في مجال المشاركة والتدبير السياسي برغم عيوبها المتزايدة..
والدعوة إلى مقاطعة الاستشارات الانتخابية هي سلوك لا يصب سوى في صف الأحزاب المحافظة وتلك التي ميعت العمل السياسي جملة وتفصيلا، لأن لكلي الطرفين زبناء سوسيوديمغرافيين، لا يقاطعون بل يصوتون بكثاقة..
المبشرون الجدد بموت الأحزاب ونهاية السياسة، يضربون في العمق العمل السياسي والديمقراطية التشاركية، علينا أن نقاوم اليوم جميع أشكال التيئيس، لتكون انتقاداتنا بناءة في اتجاه تشجيع أشكال العمل الحزبي الجاد، والنماذج الإيجابية للتمثيل السياسي بدل وضع كل البيض في سلة واحدة، وجعل “كل أولاد عبد الواحد واحد”، كل من موقعه ككائن فاعل، منتج وحيوي ضد ما يسلب المغاربة شرطهم الإنساني، أقصد: الفعل، الأثر، الحركة..
أو نتمسك بنخوة أمير ميكيافيلي لنصالح جوهرنا الحيواني، ونتصرف بمنطق مزدوج: قوة الأسد ومكر الثعلب حتى نحافظ على وجودنا البيولوجي كجثث حية، فالصدق لم يعد فضيلة، والدهاء والأكاذيب غزت العمل السياسي، والحقيقة محض كلمة لبناء جملة، كما يقول صاحب “المناضل الطبقي على الطريقة التاوية”.
نحن نعيش فترة مفصلية من تاريخ المغرب تتميز بوصول الإصلاحات والنماذج الديمقراطية والتنموية إلى مداها، مع انتشار كاسح لكل أشكال اليأس والشعبوية والمعلومات الخادعة والمفبركة، وتقاعس المثقفين ورجال ونساء الإعلام عن القيام بوظائفهم، مقابل تنامي أصوات جديدة يتعيش أغلبها من الإحباط واليأس وإشاعة ثقافة النقمة والحقد ولعب الجلاد لدور الضحية ونبذ قيم المواطنة الحقة وتشجيع النماذج السلبية في الحياة…
نحتاج اليوم إلى زلزال كبير، ليس لنعود إلى ما كنا عليه، فلا يمكن أن نستحم في ذات النهر مرتين، وإنما لنتعرف على أنفسنا، ونصالح شرط وجودنا الإنساني ضد الرداءة والانحطاط ونتعرف على ذواتنا في المرآة، ونقاوم هذا الاستسلام الجماعي لقيم التفاهة والإسفاف، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة..
وداخل أحزابنا وإعلامنا وتنظيماتنا النقابية والمهنية وجمعيات المجتمع المدني يوجد الكثير من الوجوه النبيلة التي لا زالت تؤمن بأن السياسة فعل منتج في المجتمع، وتحمل خطاب واعدا برغم هامشتيها أو قلتها، فهي عناصر الأمل الذي لا تخبو جذوته والذي يجب علينا الثقة فيه باعتباره طريقنا نحو المستقبل..