بقلم: د. مهدي عامري
عندما بدأت في تدبيج هذه الكلمات، كنت أبحث عن شيء أعمق من مجرد كلام عادي أخاطبك به وأحرك عن طريقه وعيك. كنت أبحث عن شرارة أقدحها من العدم، عن نور أجعله يسطع وسط هذا الظلام الدامس الذي يغمر العالم.
نحن نعيش في زمن تهيمن عليه أوهام ومعادلات زائفة، والوعي بهذا هو الخطوة الأولى نحو التغيير.
هل سبق أن شعرت بأن العالم حولك مجرد وهم؟ هل فطنت إلى أن عالمنا مجرد مسرح كبير، وكلنا نلعب أدوارًا محددة سلفًا؟ هل تساءلت يوما إذا كانت تلك الأدوار حقيقية، أم أنها وُضعت لنا بغرض التحكم بنا ؟
اننا في عصر التكنولوجيا الكاسحة ذات الكلمة الاولى و الاخيرة في حياتنا.. و لعل يوفال نوح هراري يرى ان هذه التكنولوجيا قد أصبحت اليوم قوة حقيقية تسيطر على حياتنا، حيث يتم توجيه البشر من خلال البيانات والتحليلات، التي تسلب منا إرادتنا الحرة.
كفى من الاوهام ! إن النظام الدولي يُصمم حياتنا ليجعلنا نعتقد أننا نختار، في حين أن خياراتنا محدودة وتتحكم بها قوى خفية.
رسالتي لك ليست إذًا مجرد مجموعة من الأفكار، بل هي دعوة للخروج من هذا المسرح، للخروج من سجن المصفوفة. إنها دعوة لفتح العيون، لرؤية ما هو مخفي خلف الحجب والأقنعة. فكل ما نراه ليس إلا جزءًا من لعبة كبرى تقودها قوى عالمية تتلاعب بعقولنا، مستخدمة التكنولوجيا كأداة للإلهاء والتحكم.
وا أسفاه! عصرنا رديء بما فيه الكفاية. إنه زمن اللايقين والنهايات، حيث نجد أنفسنا محاصرين في دائرة من الاستهلاك اللامتناهي، ومحاطين بأوهام السعادة المباعة لنا عبر شاشات وسائل التواصل الاجتماعي. إنها دوامة لا تنتهي من اللاتركيز، و قد أشار اليها إدغار موران في كتاباته عن “الفكر المعقد”، حيث بين ان المجتمع الحديث يعاني بشدة من انفصال الفكر عن الواقع. فنحن نعيش في عالم يملأه الاستهلاك المفرط، ويغذيه الهروب من مواجهة الحقيقة، فيصبح الفرد مجرد ترس في آلة ضخمة لا يستطيع التحكم بها أو الفكاك منها.
إنه زمن البؤس يا صديقي، وأنا أعلم أنك لا تملك من الصبر إلا النزر اليسير، فأنت على صورة مجايليك؛ تريد السرعة والانتهاء من كل أمر حتى قبل أن تبدأه. لكن، مهلاً. تريث هذه المرة فقط واقبل على مضض أن تستمع إلي. لعلنا معًا نتمكن من كشف غطاء الوهم الذي يحيط بنا.
كلنا جزء من القطيع العالمي، ونتعرض للتلاعب.. نحن دمى بين أيادي القوى العظمى التي لا ترى فينا سوى أدوات لتحقيق أهدافها. و كما أشار نوح هراري، فإن هذه القوى لا تسعى فقط للسيطرة على اقتصاداتنا، بل أيضًا على عقولنا، من خلال تكنولوجيا البيانات الكبرى التي تُعيد تشكيل اختياراتنا اليومية و نحن غافلون.
نحن، البشر، نعيش في عالم تهيمن عليه الأنظمة العالمية، ويتم توجيهنا نحو منطقة الراحة التي هي في الحقيقة اكبر و اخطر فخ على وجه الارض.
أنت، وأنا، وكل شخص آخر، تم وضعنا في منطقة الراحة. البطاقات البنكية، السداد دون تماس، الواي فاي، الإنترنت شبه المجاني، الخروج في العطل بين فينة وأخرى، والإكثار من الأكل في المطاعم، الأعناق المشرئبة إلى شاشات التلفاز العملاقة، مباريات كرة القدم التي لا تنتهي…
مرحبًا بك في الجحيم ! إنه عالم من الوفرة والاستهلاك وانعدام التفكير.
نعتقد أن هذا الجحيم هو عالمنا المريح وأننا داخله آمنون ومستقرون. ولكن الحقيقة أنه ليس سوى فخ. فهذه المنطقة ليست سوى سجن ذهني ونفسي، وسواء كنت تدرك ذلك أم لا، فأنت محتجز هناك بسبب المجتمع المعاصر والنظام الدولي واقتصاد السوق.
و كما جاء على لسان الفيلسوف اللامع إدغار موران، فإن الحضارة الحديثة تُجهز الفرد لكي يعيش داخل قوقعة من المعلومات المصفوفة، دون أن يُتاح له التفكير النقدي الكافي الذي يمكن أن يحركه للخروج من هذا الفخ. فنظامنا التعليمي يُفترض أن يكون مصدرًا للمعرفة والتحرر، ولكنه أصبح الآن آلة لصنع متعلمين دون أي قدرة على تحليل الأحداث أو ممارسة التفكير النقدي. إنه ينتج جيلًا من الأشخاص الذين لا يفكرون، بل يتبعون الأوامر والمعلومات المعطاة لهم دون أن يتساءلوا عن جدواها أو مصدرها.
لقد أصبحنا مجرد قطع صغيرة في ماكينة ضخمة تطحن وتبتلع كل شيء أمامها ولا تعرف الشفقة أو الرحمة.
ولكن، لدينا القدرة على الخروج من هذه الدائرة، ولدينا القدرة على تحرير عقولنا وأرواحنا من هذا السجن النفسي. لكن، أولاً، يجب أن نشعل شرارة الشك. يجب أن نتعلم كيف نتساءل عن كل شيء. لماذا نعيش بهذه الطريقة؟ ومن الذي يستفيد من معاناتنا اليومية؟
إن شكّنا في معطيات الوجود هو مفتاح الحرية. إنه القوة التي تدفعنا إلى البحث عن الحقيقة، حتى وإن كانت تلك الحقيقة صادمة أو غير مريحة. لكن الشك وحده ليس كافيًا. علينا أن نتعلم كيف نحلل العالم من حولنا بروح ناقدة، وألا نقبل الأمور كما هي دون أن نبحث في دوافعها وجذورها.
خذ مثلاً قضية غزة. غزة ليست مجرد قطعة أرض تتعرض للقصف. إنها حلقة في سلسلة طويلة من الحروب والاضطهادات التي تقودها القوى العالمية ضد الشعوب الأصلية.. القوى التي تريد أن تسيطر على كل شيء، من الموارد الطبيعية إلى الهوية الثقافية. ماذا يهمهم أن يُقتل الأطفال والنساء بالآلاف؟ ما يهمهم هو الحفاظ على الهيمنة والسيطرة الشاملة.
وعلى الرغم من مسلسلات التدمير والإبادة في هذا العالم الخربان، نجد أنفسنا ننشغل بأمور أخرى، مثل اللهو والرقص والتكتوك وكرة القدم. دعني إذًا أهمس في أذنك: حتى هذه الرياضة التي نعشقها حد الجنون، حتى الساحرة المستديرة، ليست بريئة كما نعتقد. إنها أفيون الشعوب، إنها أداة يستخدمها النظام لإبقاء الناس منشغلين بالأشياء التافهة بينما يعانون من الظلم الاجتماعي والاقتصادي. إنها مثل سحابة دخان كثيفة تُعمى البصيرة والبصر وتحجب عنا الحقيقة.
لست متفائلاً في عالم اليوم لكني بعيد كل البعد عن التشاؤم. أنا واقعي بما فيه الكفاية وقلق حزين حد الثمالة.
ما أود أن أقدمه لك هو أكثر من مجرد نقد للنظام. أريد أن أريك طريقًا للخروج. لأن الخروج من المصفوفة ليس سهلاً. إنه يتطلب شجاعة وإصرارًا. انه يتطلب منك أن تتخلى عن كل ما تعتقد أنه حقيقي، لتبدأ في بناء عالمك الخاص.. عالم يستند إلى القيم الحقيقية وليس الأوهام.
إن العالم الذي نعيش فيه الآن هو عالم مليء بالوهم. فالدول الفاشلة تحاول إخفاء إخفاقاتها من خلال الانتصارات الرياضية الوهمية.
و الحكومات تستغل الفنون لتحويلها إلى أداة لتغييب العقول وصناعة جيل من الضباع، بينما تتآكل الديمقراطية يومًا بعد يوم.
وكل هذا يحدث بينما نعتقد أننا نعيش في حضارة متقدمة. وكما قال جورج أورويل في روايته الملهمة “1984”، “من يتحكم في الماضي، يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر، يتحكم في الماضي.”
و بناء على هذا المعطى، نحن نعيش في عالم تتحكم بواسطته الأنظمة ليس فقط في واقعنا الحالي، بل في تاريخنا وفي طريقة فهمنا للمستقبل.
لكن الحقيقة هي أن هذه الحضارة الغربية التي لطالما تباهينا بها ليست سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها الكثير من العفونة و الفساد. فالغرب لم يعد مركز العالم، وكل ما يقدمه لنا اليوم هو مجرد الوجه القبيح والمزيف للسعادة والنجاح.
وبالتالي، فأنا أدعوك إلى قليل من التفكير والكثير من العمل. التفكير وحده لا يكفي. يجب أن نتحرك، يجب أن نخرج من سجن الراحة الذي وضعنا فيه النظام الدولي. يجب أن نبني عالمًا حقيقيًا، عالمًا أصيلًا ومستقلًا.
لقد آن الأوان لأن نفتح أعيننا على ما يحدث حولنا. فكل يوم يُقتل الأطفال في غزة. وكل يوم نعيش في ظل ارتفاع الأسعار والتضخم. و كل يوم تتدهور ظروف حياتنا. وكل يوم نرى جودة حياتنا تتآكل أكثر فأكثر.
لم يعد اذا بإمكاننا الاستمرار في العيش بهذا الشكل. لقد حان الوقت للخروج من المصفوفة. لقد حان الوقت لأن نصبح نحن صناع المستقبل.