لم يكن مفهوماً المقصد السياسي أو حتى العسكري الذي أراد “حزب الله” التعبير عنه في بثّ فيديو عن نفق ضخم يمتلكه في منطقة ما داخل صخور لبنان.
فمسألة الأنفاق تكاد تكون معروفة، وتمّت إثارتها من قبل إسرائيل نفسها، مقابل تكتّم يرقى إلى مستوى النفي من الحزب وحكومات لبنان من ورائه.
ورغم الغموض المتذاكي الذي أحاطه الحزب بإنجازه مستخدماً تقنيات سينمائية سمجة، كان تنظيم “داعش” قد سبقه إليها، فإن الحزب اعترف بلا مسوّغ مُقْنع بما كان سابقاً مزاعم وافتراءات يسوقها الأعداء.
يُفرج “حزب الله” عن نفقه بعد 10 أشهر من إبادة ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة لكل ما هو بشر أو حجر، بذريعة وجود أنفاق غامضة في المكان.
بمعنى آخر، الأنفاق التي قد تحمي من في أحشائها لم تمنع الفتك الهمجي بكل من وما هو خارجها. ولئن استُخدمت أنفاق غزّة لإطلاق الصواريخ التي يزهو فيديو نفق “حزب الله” في إظهار رشاقة تنقّلها داخل نفقه، فإن لاستراتيجية أنفاق الحزب سقوفاً محدودة بين ما هو “إسناد” و”مشاغلة”، وتطوّر الأمر لاحقاً إلى حرب كبرى يجوز داخلها ارتكاب أقصى صنوف الجرائم والمعاصي.
للأنفاق وما في داخلها كفاءات تُتيح إطلاق نيران يسهل إخفاء مصدرها وحماية مطلقها. لكن تلك الأنفاق، على ما عرفناه في غزّة منذ ما قبل حرب “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، غير قادرة على منع تدمير الضاحية، حيث مقرّ قيادة الحزب، أو تدمير المناطق التي ينشر فيها الحزب قواته وقواه العسكرية، لا سيما في جنوب البلد وبقاعه، أو تدمير البنى المدنية للبنان.
ولا يمكن لنفق الحزب وأنفاقه طبعاً، حماية عاصمة البلد ومدنه وقراه من ضوء أخضر دولي خبيث “سيتفهّم” حاجة إسرائيل إلى القضاء على الأخطار الاستراتيجية الحقيقية أو المزعومه التي تتهدّد أمنها من الشمال.
والكشف المصوّر عن “عماد 4” يهدف بلا شكّ إلى بعث رسائل تلمّح إلى وجود “عمادات” أخرى تحمل أرقاماً ليس بالضرورة أن يكون الرابع آخرها. وفيما يتطلّب ألف باء العلوم العسكرية كتم المعلومات وإخفاء ما يفضح أسراراً عسكرية لجعلها مفاجأة استراتيجية غير متوقّعة، فإن تبرّع الحزب في “عرض” منتجه يعني أن ليس لهذا السلاح قيمة عسكرية استراتيجية حقيقية كبرى، وأن استخدامه لصالح الإعلام الحربي قد يكون أكثر فائدة لمرامي التجييش وشدّ العصب ورفع المعنويات.
قد لا يكون مستحيلاً تدمير قنابل إسرائيل نفق الحزب الهائل أو تعطيل استخدامه بما توفّر في هذا العالم من أقوى قنابل التدمير.
ولن يكون مستغرباً أن يُسهّل فيديو النفق إقناع صاحب القرار في واشنطن بأن إزالة هذا الخطر وجعله عدماً هو جزء بنيوي من تعهد الولايات المتحدة المملّ، عبر عهود الديموقراطيين كما الجمهوريين، الدفاع عن أمن إسرائيل وضمان تفوّقها، بما يعني أنه يجوز تزويد الدولة الضحية بقنابل ممنوعة وتمّ حجبها.
ولئن تكشف المواجهة الإسنادية، المفترض أن تكون حدودية، عن فضيحة الاختراق التقني والبشري الذي حققته إسرائيل داخل هياكل الحزب وبنيانه القيادي، فإن من سرّب مكان قيادي من أول الصفوف بمستوى فؤاد شكر، وقبله العشرات من القيادات الأخرى، يمتلك أن يكشف مكان ذلك النفق أو أية بنى تحتية مشابهة.
وسواء صدّقنا من أشاع أن النفق إيراني الموقع والجغرافيا، أم أنه فعلاً يسكن في بطون جغرافية لبنانية، فإن للكشف عنه أهدافاً بروباغندا من الصعب العثور داخلها على أي جانب رادع.
ومن الصعب إقناع بيئة الحزب وأنصاره، قبل لبنان وسكانه، بأن البلد سيكون بمأمن لأن من يتحرّك في قلب نفق الحزب بأمن وأمان. ولم يكن عصيّاً استنتاج ظاهرة الاستخفاف الذي أبداه أهل البلد، كما إسرائيل نفسها من مشهد إعلامي، لا يغيّر شيئاً في موازين القوى ولا يضيف إلّا تفصيلاً أقل كثيراً من مستوى التهديدات التي يُطلقها زعيم الحزب عادة في إطلالاته.
لا يمكن فيلم النفق الدرامي إلّا أن يكون لاحقاً داخل دفتر شروط أية تسوية أو حرب بين لبنان وإسرائيل. قد لا يكون كافياً تراجع قوات الحزب مسافة تتراوح بين 10 و30 كلم عن الحدود الجنوبية كما يحمل الوسطاء.
وسيكون قابلاً للاجتهاد والتأويل إعادة الفرقاء إلى حضن القرار الأممي رقم 1701 وفق آليات وملحقات قد تطال إشكالية أنفاق الحزب و”عماداته”.
ولن يكون بعيداً أن يتفاخر الحزب بمنجزه ويمنّ على لبنان به لعلّ في الأنفاق ما يرفع أسعاراً يستفيد منها البلد في مقايضاته.
وفيما تسرّب منابر الحزب أسراراً محتملة عن امتداد نفقه (وهو عيّنة من أخرى) صوب إسرائيل وسوريا، فإن ما يتمسك به بنيامين نتنياهو في محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر، وبات مدوّلاً بذريعة أنفاق “حماس”، سيكون سابقة لمواجهة أنفاق الشمال.
يميط “حزب الله” اللثام عن نفقه “الأسطوري” قبل أن ينفّذ رداً موعوداً على اغتيال القيادي فؤاد شكر. كان الحزب قد سرّب لـ”الواشنطن بوست” الأميركية أنه أرجأ هذا الردّ “حتى لا يتحمّل مسؤولية تعطيل المفاوضات” الحالية التي تجري لإنتاج صفقة في غزّة توقف إطلاق النار وتوقف الحرب هناك.
لا يبتعد موقف الحزب بعيداً من موقف إيران التي تعيد بدورها بنسخات متعدّدة قراءة شكل وتوقيت الردّ الموعود انتقاماً لانتهاك إسرائيل سيادتها واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في عاصمتها.
وفيما تلوّح تقارير عن قرب تجاوز إيران خطوطاً حمراً يُدخلها النادي النووي العسكري، لعلّ في ذلك رادعاً لحرب شاملة تلوّح أساطيل واشنطن بها في المنطقة، فسيكون صعباً على فيديو نفق الحزب أن يكون رادعاً مقنعاً لحرب تصيب لبنان ولا تصيب إيران أبداً.