أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة استمرت يومين إلى أذربيجان، بحث خلالها مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف التعاون الثنائي وملف الأمن في جنوب القوقاز.
وجاءت زيارة الرئيس الروسي إلى باكو في ذروة المعارك التي تخوضها قواته لاستعادة زمام المبادرة في الحرب مع أوكرانيا، بعد تمكّن الأخيرة من التوغل في مقاطعة كورسك الروسية والسيطرة على مناطق واسعة فيها.
ويشير هذا التوقيت إلى أهمية زيارة بوتين للجمهورية السوفياتية السابقة، والتي وإن لم تكن عضوا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الأوراسي، إلا أنها ترتبط مع روسيا بعلاقات سياسية واقتصادية مستقرة.
على وقع الأزمة مع أرمينيا
كما تأتي الزيارة في سياق تدهور غير مسبوق للعلاقات الروسية الأرمينية، أخذ منحى صريحا بعد بسط أذربيجان سيطرتها على إقليم ناغورني قره باغ في سبتمبر الماضي، حيث انتقدت يريفان تصرفات موسكو في القوقاز، واستدعت ممثلها من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وأرسلت مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، وقامت بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحق فلاديمير بوتين.
وترافق ذلك مع “انجراف” أرميني قوي نحو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في حين لم تخفِ موسكو انزعاجها من تصرفات يريفان “غير الودية”، معتبرة أنها تحاول “طردها” من جنوب القوقاز.
على الرغم من ذلك، تشير تصريحات بوتين في باكو إلى أن روسيا معنية بلعب دور في التسوية الأذربيجانية الأرمينية، ولا تفضل خيار القطيعة مع يريفان.
فقد أكد الرئيس الروسي أن بلاده ستواصل المساهمة في تطبيع العلاقات بين باكو ويريفان، وإبرام معاهدة سلام على أساس الاتفاقيات الثلاثية التي توصل إليها رؤساء روسيا وأذربيجان وأرمينيا، إضافة إلى تسهيل ترسيم الحدود بينهما.
وقال “رغم أن روسيا تواجه أزمات على الخط الأوكراني، فإن دورها التاريخي في جنوب القوقاز يملي عليها ضرورة المشاركة في الأحداث هناك.. إذا تمكنا من فعل شيء للتوصل إلى اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا فسنكون سعداء للغاية بذلك”.
كما أشار إلى أنه عند عودته إلى موسكو سيقوم بإبلاغ رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بنتائج الزيارة.
رأس جبل الجليد
وبحسب ما يقوله المختص في شؤون القوقاز أندريه أريشيف، لأنباء إكسبريس، فقد بات من الواضح أن الغرب يعمل على فصل أرمينيا عن روسيا وتحويلها إلى “جورجيا ثانية”، ما يتطلب العمل على تسوية هذه التوترات، بما في ذلك من خلال البوابة الأذربيجانية ودفع الطرفين إلى توقيع اتفاق سلام نهائي بينهما.
ووفقا له، فإن “سلوك أرمينيا” يدفع أذربيجان نحو مواجهة علنية مع الغرب، مرجحا أن يحاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التأثير على باكو لعدم الذهاب بعيدا في التقارب مع موسكو، حتى من خلال الضغوط على أقرب حلفاء باكو (تركيا) التي تصر على استقلالها السياسي، وهو ما يثير حفيظة الساسة الغربيين الذين يريدون “الولاء الكامل” منها.
كما لا يستبعد أريشيف أن تكون زيارة بوتين إلى باكو قد جاءت كذلك بسبب شعور موسكو بالقلق إزاء دعم أذربيجان الخفي لإسرائيل، حيث تريد روسيا “حماية ظهر” إيران في حالة التصعيد بين طهران وتل أبيب.
وحول توقيت الزيارة في ظروف التطورات في كورسك، أوضح المتحدث أنها تعكس ثقة بوتين بأن الجيش سيحافظ، على الأقل، على الوضع في المقاطعة وكافة المناطق الحدودية مع أوكرانيا، على ضوء التقارير التي تؤكد إحراز تقدم روسي داخل الأراضي الأوكرانية.
وخلص إلى أن المعاني والأهمية الحقيقية لزيارة بوتين إلى باكو يمكن الحكم عليها من خلال تحليل النتائج الرسمية للزيارة، رغم أنه من المؤكد أن يظل شيء ما خارج مجال المعلومات العامة، فالجغرافيا السياسية أصبحت أشبه بجبل جليدي، ثلاثة أرباعه في العمق وربعه على السطح، حسب تعبيره.
تعاون تحت سيف العقوبات
العلاقات الاقتصادية بين البلدين كانت حاضرة بقوة في مباحثات الزعيمين، لا سيما في سياق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، حيث يسعى البلدان إلى تطوير التعاون على أساس المدفوعات بالعملتين الوطنيتين.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 4.1 مليار دولار عام 2023، وفي النصف الأول من العام الحالي ارتفع لأكثر من 7%، ليصل إلى ملياري دولار، وبلغت الاستثمارات الروسية المباشرة في أذربيجان 4.2 مليار دولار، ويعمل هناك ما يقرب من 1300 شركة برأس مال روسي.
وكانت إحدى المبادرات الرئيسية خلال لقاء بوتين وعلييف إدخال نظام الدفع “مير” (النسخة الروسية لماستر كارد) في أذربيجان، بهدف زيادة التدفقات المالية بين البلدين، وتبسيط التجارة على خلفية التغيرات الاقتصادية العالمية.
لكن الجانب الأهم للتعاون الثنائي بين البلدين بات يتمحور حول الخطط المشتركة لتنفيذ مشروع الشمال والجنوب، الذي ينبغي أن يربط البنية التحتية للنقل الروسية بالمحيط الهندي عبر أذربيجان وإيران، حسب محلل الشؤون الاقتصاية فيكتور لاشون.
ووفقا له، في حال تمت إقامة ممر العبور هذا بين الشمال والجنوب، فسيشكل إنجازا تاريخيا، يؤمن من جملة أمور أخرى نقل الغاز الروسي إلى المحيط الهندي عبر إيران والوصول إلى الموانئ الإيرانية على شواطئ الخليج العربي.
ويوضح أن أهمية مشروع “الشمال – الجنوب” باتت أكبر بكثير على ضوء إغلاق الطرق المعتادة عبر أوروبا أمام روسيا في العام 2022، وكذلك بالنسبة للتجارة مع الشركاء الجدد لروسيا في كل من أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تشكّل أذربيجان واحدا من أهم الممرات التي تربط موسكو معهما.