آراءأفريقيا

متى تصبح دولة مارقة؟

فما الذي يجبر الجزائريين على التشبث بالصحراء، حيث لم يكونوا موجودين أصلا ككيان، في وقت كان المغرب يذود عنهم ويرعى مصالحهم ضد العثمانيين والفرنسيين في وقت لاحق؟

كيف يمكن للمرء تصديق أن بلدا بحاله، لا يملك بوصلة لتوجيه الأشياء إلى مكانها الصحيح، حيث يمكن استشعار سير الامور بانتظام، بغض النظر عما قد يعطل مسيرتها بسبب الإهمال أو الفشل أو انهزامية النفوس وإكراهات الإنجاز؟ أ للأمر علاقة بأصل عرقي أم ثقافي أم تراكم سلوكيات وممارسات فاسدة أو تشكل عقليات متحجرة على مدى أجيال لتكريس التحكم وقتل الإبداع وروح المبادرة الحرة، والفكر المستنير، وحرية التعبير والرأي؟

تبدأ الحكاية مع اندلاع صراع بين السعديين والعثمانيين حول أحقية ضم ولاية الجزائر، ومحاولات المغاربة لصد أطماع الأتراك في منطقة المغرب الأوسط، حيث تركز الصراع حول تلمسان، بعد يقين حكام الجزائر الجدد من استحالة كسر شوكة الخصوم المغاربة إثر دحر الأوروبيين ومماليكهم في معركة واد الزلاقة، ويعد سرد هذه المحطات التاريخية مدعاة فخر للأمة الإسلامية جمعاء، وليس مطامع توسعية كما يدعي بعض المرجفون ممن يبحثون عن هويات مزيفة خارج سياقات التاريخ.

يشاء القدر أن تخضع إيالة الجزائر مرة أخرى لهمجية الاحتلال الفرنسي وغطرسته، بالإضافة إلى التدخل في شؤون المغرب في بدايات القرن التاسع عشر، ويكفي الإشارة إلى أننا في المغرب نحتفل في هذ الأيام بالذكرى الـ 180 لمعركة إيسلي الواقعة بالقرب من وجدة، التي سطرت ملاحم من التضامن والدعم والإمداد لإخواننا الجزائريين، بقيادة المولى عبد الرحمن بن هشام، انتصارا وشد أزر للمقاومة الجزائرية الشقيقة واحتضانا للأمير عبد القادر.

فهل يستطيع الساسة الجزائريون اليوم، الإقرار بتحمل المغرب لتكاليف ثقيلة بسبب مساعدته للمقاومة الجزائرية واحتضانه للأمير عبد القادر، على الرغم مما تعرض له من اقتطاع أراضي وهجومات على ميناء طنجة وفرض شروط قاسية عليه.

وتأسيسا على حالة النكران العارمة لحكام الجزائر لدور المغرب في بقاء بلدهم مسلما، دون ذوبانه وانسلاخه داخل الدولة الفرنسية المتعطشة لسياسات الضم التي لا تنتهي، لا زالت السلطات الجزائرية تضمر للمملكة المغربية عداء مستحكما، عوض توجيهه الى مستعمريها السابقين.

وقد لا يفهم ذلك الحقد الدفين، ما لم يبحث المرء في التاريخ الحديث وتشابك العلاقات وتعدد الروابط بين المغاربة والجزائريين، إضافة إلى جموح الكثيرين من أقزام السياسة الذين لا يرون الأوطان إلا في استمراريتهم على الكراسي بعيدا عن صون الأمم والأوطان.

فالبرغم من استماتة المغاربة في الدفاع عن حق الجزائر في التحرر من نير الاستعمار، واستقلالية قرارهم خارج جنبات الإليزيه، ظل الإخوة الأعداء يرون مطالبات المغرب لصحرائه منذ بدء استعمارها في 1884 غير منطقي وتجب استشارة ساكنتها، لأن سلاطين المغرب لم يكونوا قادرين على بسط سلطاتهم عليها بالرغم من وجود علاقات بيعة، وفي المقابل، فما الذي يجبر الجزائريين على التشبث بالصحراء، حيث لم يكونوا موجودين أصلا ككيان، في وقت كان المغرب يذود عنهم ويرعى مصالحهم ضد العثمانيين والفرنسيين في وقت لاحق؟

أصبحت منطقة الصحراء إقليما إسبانيا سنة 1934، بهدف طمس هويته الدينية والحضارية وفصله عن محيطه المغربي، في وقت لا زالت الجزائر مقاطعة فرنسية خالصة، تدين بالولاء للجمهورية الخامسة، ورفض مغربي لأي تفاهمات حدودية مع المستعمر الفرنسي قبل نيل الأشقاء لاستقلالهم، وهو موقف ما كان ليحدث لولا حكمة وتبصر حكام المغرب، بالرغم مما تلقوه من جفاء في وقت لاحق من جارهم الشرقي، بخصوص تأكيد أحقية المملكة المغربية في صحرائها بعد استقلالها.

تعرضت مناطق حدودية مغربية لعدوان عسكري سافر من قبل الأشقاء الجزائريين، لا يعرف إلى حدود الساعة، أهي محاولة لكف المغرب عن المطالبة بأراضيه المدرجة في التراب الجزائري، أم تثبيط لعزمه في المطالبة بأقاليمه الجنوبية، أم رد للجميل على قاعدة “خيرا تعمل شرا تلقى”، ولولا وساطات عربية مكثفة لاشتعلت المنطقة برمتها بسبب تهور عسكر متمردين على تقاليد واعراف حسن الجوار، في تنكر صارخ لتضحيات المغرب وشعبه لفائدة المستقلين الجدد.

حرب الرمال شكلت إرهاصا أوليا لبداية تكوين دولة مارقة بشمال إفريقيا، بما تحمل الكلمة من معنى، لأن شن هجوم إعلامي على المغرب، والقيام بعدوان مسلح على منطقة حاسي بيضا في 8 أكتوبر 1963، لم يكن يوما ردا على اهداف توسعية مغربية كما يروج له متزلفو قصر المرادية، كلما ضعف جانب تأثيرهم الداخلي والخارجي، ولكنها نزوة ظن مرتكبوها وهم مغامرون عديمي التجربة والمسؤولية أنها عابرة، لكنها كادت ان تقوض شروط الامن والسلم في منطقة شمال إفريقيا إلى الابد.

لم يصدق حكام المرادية أنفسهم من فرط الدهشة، حين الإعلان عن قيام جبهة البوليساريو كحركة تحررية بإقليم الصحراء، تتخذ من الكفاح المسلح سبيلا لتحقيق أهدافها، لأن من شأن ذلك تجنيبهم مواجهات مباشرة مع المغرب، قد تعصف باستقرارهم الهش وتظهر سوءة العسكر، الذي ورث مؤسسات متهالكة من المستعمر الفرنسي، أضاف تدبيره السيء أزمة الى أزمات أخرى للنظام الجزائري مستعصية على الحل.

أنفقت الجزائر مليارات الدولارات، لتفكيك المغرب عبر فرض مخطط اقتطاع أراضيه الجنوبية، بدعوى احترام إرادة شعب في التحرر، بينما أنكرت هذا الحق في وجه شعب يتجاوز سكانه الخمسة ملايين، ويقطن منطقة القبايل قبل نشوء الدولة ذاتها بقرون.

وعلى هذا الأساس يتصرف المغرب منذ خمسة عقود بكياسة على عنجهية وصلافة العسكر، حين تداول نزاع الصحراء، بينما يجن جنون حكام المرادية، حينما يشير ديبلوماسي مغربي إلى أن شعبا يدعى القبايل يعاني من ظلم سلطات الجزائر، ينتظر حقه في تقرير المصير.

المغرب والجزائر.. فارق السرعات وردود الأفعال

تتوالى اتهامات الجزائر للمغرب بضلوعه في قتل ثلاثة من مواطنيها بسلاح متطور، مجندة مؤسستها الوطنية لحقوق الإنسان بإطلاق تهديدات ضد المغرب، وكأنها وزارة دفاع تتأهب لصد الأعادي، بينما يقتصر دورها في حماية وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان المفقودة أصلا في هذا البلد.

ويدخل قرار عدم تجديد عقد استغلال خط انابيب الغاز الجزائري الذي يزود الإسبان عبر الأراضي المغربية، في إطار محاولات العسكر كسر عظام المغرب وعزله أو خنقه باختلاق أزمات داخلية ترتبط بحاجيات المواطن الأساسية كالطاقة، لإشعال فتيل توترات داخلية لتسهيل الانقضاض على مقدراته وقراره السيادي.

وامام كل خيبة امل ديبلوماسية للعسكر، يقفز المغرب خطوات في مجال تعزيز الديمقراطية والتنمية وتطوير وتعزيز الاستثمار وتهيئ أسباب الإقلاع الاقتصادي والتصنيع العسكري، إلى حد بات يهدد جنيرالات الجزائر، وينبأ بقرب أجل تحكمهم في مصائر الجزائريين بسبب الوعي المتنامي لدى مختلف فئات الشعب بضرورة إحداث تغيير جذري يحفظ الحقوق والحريات ويحمي المقدرات الوطنية من النهب والاستنزاف المتواصل.

وقد سارعت السلطات الجزائرية الخطى لفرملة تقدم المغرب المخيف على جميع المستويات، لكن محاولاتها كانت وقودا، لسبر أغوار استحقاقات ديبلوماسية جديدة حصدت معها المملكة أكثر من ثلاثين اعتراف دولي صريح بمغربية الصحراء، يستتبعه تمثيل ديبلوماسي وتنشيط للاستثمار في الصحراء دون تحفظ وبضمانات دولية واضحة، وفي احترام دولي تام لقواعد القانون الدولي، نظرا لتعاظم اليقين الدولي بأن أي حل خارج خطة الحكم الذاتي، هو ضرب من الجنون لن يحصد المتشبثون به سوى الأشواك.

إن أسلوب الانتقام والحقد المتجذر في نفسية العسكر المهزومة وأتباعها، لازالت تمن النفس بقرب سقوط النموذج المغربي الرائد في الديمقراطية، وبقرب تأسيس دولة مستقلة بتندوف على أنقاض حركة البوليساريو اليائسة هي الأخرى حد التفكير في الانتحار.

وعلى هذا الأساس اختارت طريق اللاعودة، وقطعت شعرة معاوية مع جارها الشمالي، وبصدر وقلب مفتوح لم يعلق المغرب على الحدث، واعتبره في اعتقادنا استمرارا لمسلسل العداء المجاني وفشلا في إدارة الصراع على حيازة سيادة الصحراء.

ولذلك فقطع العلاقات مع المملكة لم تكن لتشكل حدثا بارزا يمكنه تقويض جهود المغرب في التأثير في القضايا الإقليمية والدولية، لأن الامر يتعلق بمواقف وتدابير لمؤسسات دستورية يقودها مسؤولون يمتثلون لوثيقة دستورية وتشريعات وطنية متقدمة، ومتناغمة مع تطلعات شعب يسارع الخطى لتحقيق نهضة شاملة، عوض نظام لا يرى في شعب الجزائر سوى ماكينات دعائية، يتم شحنها متى شاء العسكر ضد عدو محتمل يضيق على مصالحه، أو موردا للثروة الغائبة عن جيوب وحاجيات الجزائريين.

قد يتساءل المرء لماذا هذا السرد الطويل للأحداث المعروفة سلفا حول توتر العلاقات المغربية الجزائرية؟ وما الغاية من إعادة تذكيرنا بتلك الوقائع المؤسفة للغاية، حول تشظي منطقتنا وإسهامنا المباشر كأفراد وجماعات في تنامي مشاعر الكره والحقد بين شعبين، ما كانا ليصيرا دولتين لولا قبح ودسائس وخبث المستعمر، وضعف واطماع ممتهني السياسة من أبناء جلدتنا، وابتعادنا عن تملك إرادة البناء والتكامل بقربنا إلى مخططات الهدم والتفتيت.

كثيرا ما تفاديت الجواب عن هذا السؤال الحارق، وعن سرد ما وقع أصلا، في محاولة لتناسي ما يقع من مهازل، لكن تفاقم أعراض مرض عسكر الجزائر، لم يترك فرصة لقضاء تلك الحاجات بتركها.

وفي هذا الصدد يرغمنا الموقف على التساؤل عن ماهية الدولة الجزائرية الحالية؟ هل يتعلق الأمر بدولة ديمقراطية بهفوات تدبيرية أو سقطات إعلامية محدودية، يتم معالجتها حال وقوعها لمنع انتشار الداء والعدوى؟ أم نحن بصدد أعراض دولة مارقة بما للمفهوم من إفرازات واثار؟

وبالرجوع إلى تبريرات المفكر نعوم تشومسكي لتقديم تعريف منطقي لمفهوم الدولة المارقة، يميل التفكير مباشرة إلى ممارسات السلطات الجزائرية في علاقة بتدبير شؤونها الداخلية، وفي مختلف فضاءات التفاعل مع باقي مكونات المجتمع الدولي بما في ذلك المغرب.

ورصدا لتدخلات الدبلوماسية الجزائرية في مجموعة من المحطات، يتقوى الاقتناع بأن دولة الجزائر لا ترى نفسها مقيدة بقواعد القانون الدولي، في علاقاتها مع جيرانها وشركاءها ومحيطها، وقد لا يوفر النظام الجزائري الجهود لمهاجمة المملكة المغربية، وغير محتاج لمبررات منطقية وصادقة للقيام بذلك، حيث يكفي أن ترغب الجزائر في إخماد غضب داخلي أو استجلاب عطف أو دعم خارجي، أو محاباة أو رشوة فاعل دولي مؤثر.

إن إقدام الجزائر على مهاجمة المغرب وحلفائه الداعمين له في مطالبه المشروعة في تملك السيادة على أقاليمه الجنوبية، تعد سلوكات مستهجنة تبعث على الاشمئزاز من تقلب مزاج العسكر السيء، في ارتباط بمقومات حسن الجوار وتجويد العلاقات بين الدول.

فمحاولات تقويض جهود المغرب للإقلاع والتطور وتحفيز الإنتاج وتدعيم أساسات الانتقال الديمقراطي، محاولة يائسة وغير لائقة، مبنية على مزاعم وأكاذيب، لا تبحث سوى عن تهديد جيرانها.

وبالمحصلة، فإن ازدراء الجزائر برأييها العام الوطني وقواه الحية، ومحاولاتها اليائسة لتهديد أمن جيرانها وتدخلاتها التحكمية في دول إفريقية أخرى، وتسليح حركات سياسية قصد فرض تدخلاتها في سياسات دول أخرى، وتبرمها عن التزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ولد خيبة أمل غير مسبوقة لدى مواطنيها وجيرانها والمنتظم الدولي ككل، وعزز القناعة بأننا أمام نموذج صارخ لدولة مارقة، يجب ان تردع سلوكاتها العدوانية على الفور.

https://anbaaexpress.ma/g2jf1

عبد الوهاب الكاين

رئيس منظمة أفريكا ووتش Africa Watch كاتب صحفي وباحث في حقوق الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى