تساؤلات كثيرة أثارها الهجوم الأوكراني البري المباغت والكبير على مقاطعة كورسك الروسية مطلع الأسبوع الماضي، والذي أدى إلى سقوط عدد من الجنود والمدنيين الروس وتدمير معدات وآليات عسكرية وسط تباين كبير بين الطرفين في تقدير الخسائر.
وتتمحور أهم هذه التساؤلات حول طبيعة “التكتيك” الذي اتخذه التوغل الأوكراني، ودور الأسلحة الغربية والمعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها كييف وساهمت في إنجاح العملية، وأسباب عدم تمكن القوات الروسية المرابطة هناك من التصدي للهجوم ووقفه.
يأتي ذلك بينما تتواصل المعارك الضارية في المقاطعة بالتوازي مع إعلان حالة الطوارئ وإبلاغ قائد الجيش الروسي، فاليري غيراسيموف، الرئيس فلاديمير بوتين بتصفية نحو 100 من الجنود الأوكرانيين من أصل نحو ألف شاركوا في الهجوم.
توغل متوقع
وبينما وصف بوتين ما سماها تصرفات القوات الأوكرانية بأنها “استفزاز واسع النطاق” فإن كييف “تطلق النار بشكل عشوائي من مختلف أنواع الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ، على البنية التحتية المدنية والمباني السكنية وسيارات الإسعاف”.
أما بيان الأمم المتحدة، تعليقا على هذه التطورات، فقد انتقد أوكرانيا بشكل غير متوقع. وبحسب فرحان حق نائب المتحدث باسم المنظمة فإن “مثل هذه الحوادث تزيد من خطر تصعيد الأزمة بشكل مقلق” مشددا على ضرورة “أن تتم تهدئة الأوضاع إلى أقصى حد ممكن”.
ومنذ بدء الحرب مع أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، يُعتبر الهجوم على كورسك -التي تبعد عن العاصمة موسكو 530 كيلومترا- واحدا من أكبر التوغلات البرية وأكثرها دموية، لا سيما أنه بلغ ما يتراوح بين 10 و20 كيلومترا في عمق الأراضي الروسية.
ويقول الخبير الإستراتيجي رولاند بيجاموف لأنباء إكسبريس إنه كان من المتوقع شن نوع كهذا من الهجمات الارتدادية على ضوء التقدم الروسي الذي حدث الأسابيع الأخيرة، ولكنه كان بطيئا من حيث الوتيرة لا سيما على الجبهة الشرقية وفي مناطق غرب أوكرانيا.
وتابع أن كييف كانت معنية أمام ذلك بأخذ زمام المبادرة وشن هجمات مضادة في عملية تم التحضير لها والإشراف عليها من قبل بلدان حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تهديد ومساومة
ولفت الخبير الإستراتيجي إلى أنها المرة الأولى -منذ نهاية الحرب العالمية الثانية– التي تواجه فيها روسيا قوات غربية على أراضيها وإن بشكل غير مباشر، مما يفسح المجال أمام تصعيد جديد وضربات انتقامية من قبل القوات الروسية.
ووفقا له، فإن الأوضاع باتت معقدة وبالغة الخطورة الآن على خطوط التماس في كافة جبهات القتال، مضيفا أن ما حدث طرح تساؤلات وتضمّن توجيه انتقادات للقيادة العسكرية الروسية.
وقال الخبير الإستراتيجي إن خبراء حذروا مسبقا من مغبة عدم إنشاء منظومة دفاع مناسبة في المناطق الحدودية، ومن عدم امتلاك قوات حرس الحدود أسلحة ثقيلة، وإنه لولا تدخل سلاح الجو الروسي في التصدي للهجوم الأوكراني لكانت النتائج أكثر خطورة.
وأشار إلى أن التكتيكات التي اتبعتها القوات الأوكرانية لم تكن هيئةُ القادة العسكرية الروسية مستعدة لها، لا سيما أنها ترافقت مع تعطيل أجهزة الاتصالات إثر عملية استطلاع واسعة.
ويلفت إلى أنه -بالكاد- تم وقف تقدم القوات الأوكرانية التي من المرجح أنها كانت تريد الوصول لمحطة كورسك للطاقة الذرية الواقعة بمدينة كورتشاتوف والسيطرة عليها بهدف المساومة -مثلا- مقابل استعادة محطة زاباروجيا للطاقة الذرية، وهو تهديد خطير للبنية التحتية النووية لروسيا.
هجوم دون مغزى
أما محلل الشؤون العسكرية فكتور ليتوفكين، فأكد أن عملية القوات الأوكرانية في منطقة كورسك جاءت كمحاولة لتخفيف الضغط في مناطق القتال الأخرى من خلال إشغال القوات الروسية واستنزافها.
لكنه يوضح أن هذا الهجوم قد يؤدي إلى تمدد القوات الأوكرانية وبالتالي تسهيل عملية ضربها، إذ إنه من وجهة النظر العملياتية والإستراتيجية ليس لهذا التوغل أي معنى على الإطلاق، ويبدو بمثابة إهدار فادح للأشخاص والموارد التي هناك حاجة ماسة إليها في أماكن أخرى، حسب تقديره.
وباعتقاده، فإنه من الصعب فهم الأساس المنطقي الإستراتيجي لهذه العملية بهذا الوقت نظرا للضغوط الدفاعية التي تتعرض لها القوات الأوكرانية في مناطق أخرى، وكونها عملية محدودة لتحقيق أهداف محدودة، بينما أي عملية عملية عسكرية “أكثر طموحا” ستحمل مخاطر أكبر على هذه القوات.
كما أن أحد أهداف القوات الأوكرانية من الهجوم على كورسك -برأيه- قد يكون وقف جميع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا من أجل الضغط على كل من الدول الغربية وموسكو التي لا تزال تحتفظ بجزء من أعمالها في مجال الطاقة مع القارة الأوروبية.
ووصف محلل الشؤون العسكرية الهجوم بالهستيري والانتحاري وبأنه تعبير عن يأس، موضحا أنه لا يوجد أي شخص في أوكرانيا يأمل الفوز في هذه الحرب، وأن قرار التوغل انطلق من أن القيادة الأوكرانية تدرك ضمنا أنه لم يعد أمامها ما تخسره مهما كانت نتائج الهجوم.