يجب أن يهنأ ضحايا سنوات الحديد والنار بقبور الرشيد ولو إلى حين، لأن من شأن بعث إشارات دالة، لاحت من سويسرا وغينيا أن تحيي الأمل في الوصول إلى انتصاف هؤلاء الصحراويين وغيرهم، والذين لم يفهموا بعد لماذا اختطفوا وقتلوا وعذبوا ونكل بهم الى حدود الساعة؟
عودا على بدء، لاستجلاء حقيقة الإشراف على موت المئات من الصحراويين والموريتانيين وغيرهم بتقنية التنقيط، لأن الحكاية، لا تتعلق فقط بالزج بعناصر معارضة أو مشاغبة أو حتى إرهابية وإخضاعهم لحصص تعذيب على ما اقترفوه من ذنب، بغض النظر عن وجاهة الادعاءات.
الأمر يا سادة أشبه بما حدث في رواندا إلى حد بعيد، فممثلي جماعة الهوتو في سياق المخيمات هم قيادة البوليساريو بجناحيها العسكري والأمني والمدني المتواطئ، حيث أفتروا على الأغلبية بتمثيلهم الشرعي، بينما ضحايا الشبكات يمثلون أقلية التوتسي، التي ذاقت أقسى صنوف العنف والتعذيب والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، بنية استهداف تلك المجموعات البشرية ومحاولة استئصالها من فضاء المخيمات لا لذنب إرتكبته سوى ما تتملكه نفوس مجرمي تلك القيادة من مشاعر الانتقام والحقد والكراهية اتجاه هؤلاء الضحايا.
ليس بالأمر الهين القبول بتلك الأفعال الوحشية، بالرغم من مضي ثلاثة عقود من الزمن، لاتساع نطاق وتأثير تلك الإبادة الجماعية التي ما زالت ترخي بضلالها على الضحايا وأفراد عائلاتهم وتنكأ جراحهم، في غفلة منا جميعا، وما زال الصمت مستمرا حول تلك الفظائع المقيدة لإنسانيتنا وشرط وجودنا.
ويطرح الكثيرون تساؤلات حول صمت مجتمع الصحراء المريب حول ارتكاب تلك الجرائم، وعدم الخوض فيها والمطالبة بعدم إفلات المخالفين من العقاب، بل يجحد البعض على الضحايا حقهم في الانتصاف وفعل ما يمكنهم من التعريف بقضيتهم الإنسانية في سياق ناكر لما تعرضوا له من أعمال وحشية في مجتمع محافظ يتباهى بتماسكه ونعمة التعايش السلمي بين مختلف مكوناته.
أطلت علينا وكالات الأخبار العالمية يومه الأربعاء 31 يوليوز، بفصل محكمتين من سويسرا وغينيا في قضايا حديثة ترتبط بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ليست أكثر وحشية أو أوسع نطاقا مما حدث في مخيمات تندوف.
في القضية الأولى، قضت المحكمة الفيدرالية السويسرية بسجن وزير الداخلية الغامبي السابق بـ 20 سنة سجنا نافذا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حيث اتهم عثمان سونكو بارتكاب ثلاث جرائم قتل وأعمال تعذيب متعددة وحرمان غير قانوني من الحرية في ظروف ترقى إلى التعذيب، وكلها ارتكبت بين عامي 2000 و2016 خلال الحكم الدكتاتوري للرئيس يحيى جامع.
بينما أدين ثمانية متهمين، من بينهم الرئيس السابق للمجلس العسكري الحاكم الغيني موسى داديس كامارا، في نفس اليوم لمسؤوليتهم عن مذبحة 28 شتنبر 2009، التي خلفت 156 قتيلا على الأقل، بخلاف الالاف من الصحراويين الذين قتلوا وعذبوا واختطفوا ولا زال الناجون وأفراد عائلات الضحايا يعانون في صمت لكشف حقيقة ما جرى، والأسباب الكامنة وراء تعريضهم لتلك الأفعال الإجرامية البشعة.
غير أن غياب إرادة جماعية للقطع مع سياسة الإفلات من العقاب الطاغية في المجتمعات الجنوبية عموما، لاختلاط المشاعر الشخصية الميالة إلى الاعتداد بالنسب والعرق بشروط تحقيق العدالة، وتمازج الجوانب السياسية بلغة المصالح، لن تكون تخدم قضية الضحايا في محاولات وصولهم للعدالة، وإلا كيف يمكن تفسير وصول القضاء الوطني بغينيا إلى رأس الدولة المذنب، والقضاء السويسري ذا الولاية القضائية الشاملة في مجال حقوق الإنسان الذي أصدر حكمه في مواجهة وزير داخلية غامبيا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
بينما المرتكبون لتلك الجرائم لا زالوا محميين من قبل الدولة الحاضنة للمخيمات ومن صقور البوليساريو المتنفذين، بينما ضحاياهم يئنون من فرط إهمالهم وجحدان حقوقهم الشرعية في التعبير عن آلامهم وعرض شكاويهم على محاكم دولية تنصفهم وتثبت قواعد العدالة الجنائية الدولية في تلك المنطقة الخالية من أي اثر لتنفيذ قواعد القانون الدولي.
صحيح أن تلك الأعمال الإبادية توقفت بعد ما يفوق العشر سنوات من استهداف مجموعات بعينها، عندما تقلب المزاج الدولي في المنطقة، واجتاحت الجزائر رياح خريف ديمقراطي أطاحت باخر فرصة لتجريب ممارسة ديمقراطية تحتكم لصناديق الاقتراع، أمام ضراوة وفتك المدافع والدبابات.
وقد نجح الناجون من جحيم المعتقلات السرية المخصصة لهاته الفئات المسحوقة في تنفس نسائم الحرية وإن كانت منتقصة، غير أن نسيان ما جرى لم يجد طريقه إلى نفوس المظلومين وذويهم، حيث لا زالت اثار إبادتهم باقية ما بقيت المخيمات على أرض تندوف، حيث لا الثورة الموعودة التي هجروا من اجلها في ليل من ليالي 1975 الباردة تحققت، ولا نالوا شرف بناء هياكلها للاشتباه فيهم منذ وضع الحجر الأساس!
كيف لمجتمع أن يضم مئات من الضحايا المكلومين من هول الصدمة، بالزج بهم في غياهب المعتقلات السرية لأمر ما زالوا يجهلونه، دون علاج لمأساتهم والصدمات النفسية التي تعرضوا لها، حيث أصبحوا اجسادا مدمرة، لا تثق حتى في روايتها للأحداث من قساوة ما تعرضوا له في مراكز احتجاز على أيدي بني جلدتهم الاثمة، وانكار الحاضنة الاجتماعية لحقهم في معرفة الحقيقة والانصاف وجبر الضرر الموازي لحجم معاناتهم وعظم ما ذاقوه من عذابات، وهو ما يبقي قضية تحقيق العدالة ومكافحة الإفلات من العقاب والتصالح أمرا مستحيل الوقوع ما لم يغير المرء نظرته وتمثلاته حول الحق والعدل والظلم والمساواة والجريمة والعقاب.
وقد يتساءل البعض عن عدم تطابق أحداث الإبادة الجماعية برواندا بالتجاوزات التي وقعت بالمخيمات، واعتبار ذلك مبالغة محفوفة بالمخاطر، غير أن هذا الزعم مردود عليه، لسبيين، اولاهما أن البوليساريو لم تكن حرة بالكامل في إيقاع حجم الأضرار التي وقعت برواندا، ولا قام الضحايا الصحراويون بإسقاط طائرة الأمين العام إن حازها يوما، كما أن مختلف شرائح الصحراويين بالمخيمات كان يتملكها الأسى مما يقع والخوف من ردة الفعل الوحشية لقادة التنظيم.
غير أن المميز حقا في حوادث تنقية الخيام والنواحي العسكرية والمدارس التعليمية والأسواق من الأشخاص المستهدفين من طرف عناصر امن البوليساريو، أن هذه الأخيرة ومشايعيها لم يكونوا في حاجة لمراقبة بطائق التعريف الشخصية للأشخاص ليصنفوهم بين عدو وصديق، لمعرفتهم القريبة بساكنة المخيمات وتقارب الناس فيما بينهم في مجتمع البدو والترحال قبل عملية التجميع الكبرى في ضواحي تندوف، في حين لم يكن أفراد الهوتو يعرفون أعداءهم المحتملين إلا بمراجعة بياناتهم الشخصية لقتلهم استنادا على ممارسة تمييزية رسختها سلطات الاستعمار البلجيكي في العام 1933.
وقد يكون مجتمع الضحايا متشائما بشأن أي تقدم يمكن إحرازه في هذا الشأن، غير أننا سنستمر في ملاطفة احلامنا بضرورة تهيئ شروط مناسبة لعقد محكمة دولية على غرار ما وقع في رواندا، لإلقاء القبض على المسؤولين عن تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتقديمهم للعدالة لتقول كلمتها فيما ينسب إليهم بمعية المخططين وقادة المخيمات من الضالعين في تلك الأحداث والمشرفين على تنفيذ تلك الإبادة الجماعية والمحرضين، أو في الحد الأدنى، سماح الدولة المضيفة للمخيمات بمحاكمة الضالعين امام محاكم وطنية ذات ولاية شاملة في محال حقوق الإنسان.
وقد تأكد من خلال الممارسة، أن رواندا نفضت الغبار عن ماضيها الأليم الملطخ بداء أبنائها بفعل وحشية أبنائها، وقطعت أشواطا في بناء المصالحة المجتمعية الداعمة للتعايش السلمي والتوافق، ولعل من شأن محاكمة وزير داخلية غامبيا ورئيس غينيا الأسبق أن يمنح ضحايا البوليساريو بصيصا من الأمل في عقد محاكمة لجلاديهم وأبناء جلدتهم المذنبين في حق العدالة والأخلاق والإنسانية، والذين لم يعلنوا توبتهم بعد مما اقترفت اياديهم الاثمة، وكل سوابق قضائية لملاحقة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية، وضحايا الرشيد يمتلكون من العزم والقوة ما يؤهلهم لمواصلة النضال لتحقيق المنشود.