أرسلت روسيا، الاثنين، سيرغي شويغو، الأمين العام لمجلس الأمن القومي، إلى طهران. والرجل المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يزور إيران وهي، وكما هو موعود، على وشك القيام بردّ مباشر وموجع ضدّ إسرائيل، وفق ما تردّد المنابر الإيرانية، انتقاماً لاغتيال اسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، في طهران، في قلب مربّع أمني يتولّى الحرس الثوري مسؤوليته.
في الشكل، يُفترض أن تكون الزيارة في حدّها الأدنى تضامنية مع حليف استراتيجي مثل إيران. وفي المضمون، قد تمثّل الزيارة لرجل أمني رفيع المستوى كان وزيراً للدفاع لسنوات واجهة محتملة لدعم روسي عسكري لإيران، يسعى أن يكون موازياً لدعم الولايات المتحدة لإسرائيل، والتي تؤكّد على لسان رجل عسكري رفيع المستوى مثل وزير الدفاع لويد أوستن تعهّدها الدفاع عن أمن إسرائيل.
قبل سنوات، وتحديداً منذ تدخّل روسيا في الصراع السوري في عام 2015، جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقة الملتبسة بين موسكو وطهران. قيل حينها إن التدخّل الروسي جاء بعد قيام قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري آنذاك، بزيارة إلى موسكو عارضاً على الرئيس بوتين الوضع الصعب الذي يواجهه النظام السوري، طالباً تدخلاً روسياً عاجلاً. وإذ عملت قوى إيران (المستشارون والميليشيات) على المناورة براً، كان على روسيا أن توفّر تغطية جوية بدا أنها شرسة تحسم كل المعارك.
لاحقاً، ظهرت ملامح مقلقة في علاقة روسيا وإيران. بدا أن للبلدين مصالح وأجندات، وأن تنافساً صار ظاهراً، سواء في شراء الولاءات الميليشياوية، أم في حجم التغلغل والنفوذ داخل النظام في سوريا، أم في التسابق على اكتساب المنافع في الأعمال والاقتصاد. وإذا ما تشكو إيران هذه الأيام من غلو إسرائيلي استهدف ضيفها وسيادتها وانتهك شرفها، فإن العامل الإسرائيلي نفسه كان وراء ظهور شكوك مصدرها طهران حيال سلوك موسكو في التعامل مع العامل الإسرائيلي الناشط بحيوية وعدائية في سوريا.
قبل أن تشنّ المقاتلات الروسية أولى غاراتها في تشرين الأول (أكتوبر) 2015، كانت زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو قد فاقت زياراته إلى واشنطن. بدا حينها أن البلدين يعيشان “شهر عسل”. ناقش بوتين مع نتنياهو خطّة تدخّل روسيا في سوريا، مسلّماً بشروط إسرائيل الأمنية. ووفق تفاهمات الرجلين، حمل الرئيس الروسي الملف إلى نظيره الأميركي، باراك أوباما، الذي التقاه على هامش القمّة السنوية للأمم المتحدة ذلك العام. كاد لسان أوباما يقول: “طالما اتفقتما فعلى بركة الله”.
لم تحرّك روسيا ساكناً لردّ الضربات المدمّرة التي وجّهتها إسرائيل ضدّ مصالح إيران ومواقعها وميليشياتها التابعة في سوريا. وحتى بعدما سلّمت موسكو دمشق نظام صواريخ S-300 للدفاع الجوي في عام 2018، لم تفعّل هذه الصواريخ لردّ الشرّ الإسرائيلي الآتي من الأجواء.
ذهبت إسرائيل مذهباً متقدّماً في اغتيال قادة للحرس الثوري في مواقع جغرافية متفرقة في سوريا، وصولاً إلى قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان (أبريل) الماضي.
لم تسكت طهران على ما اعتبرته منابرها تواطؤاً وخيانة روسية. لم يصدر العتب عن المنابر الرسمية، لكنّ برلمانيين تولّوا الردح في هذا الاتجاه. اكتفت موسكو في المقابل بالتنديد باعتداءات إسرائيل وبعثت بالرسائل تلو الرسائل لتهدئة خواطر الحليف الإيراني. وفق هذه المعادلة، بقيت روسيا وإيران محافظتين على التمسك بـ”ضريبة” التحالف ضدّ أعداء مشتركين.
يُظهر شويغو في هذه الأيام اهتماماً بحليف روسيا في محنته الراهنة. كانت إيران قد قدّمت، وفق تقارير غربية، أسلحة نوعية، لا سيما صواريخ باليستية ومسيّرات، لتعين روسيا في الحرب في أوكرانيا، ولا مصلحة لموسكو في أن تبدّد إيران ترسانتها في حرب ضدّ إسرائيل. نقل شويغو رسالة من بوتين للمرشد “تحضّه على ضبط النفس”، ذلك أن موسكو تخشى رداً إسرائيلياً يُشعل حرباً كبرى، تكون واشنطن جزءاً منها، تُضعف حليفاً تعرف قدراته. غير أن مصادر إيرانية أخبرت “نيويورك تايمز” الأميركية (وللمناسبة، بات لهذه الصحيفة مصادرها المثابرة في طهران) أن روسيا بدأت بالفعل بإرسال منظوماتها الصاروخية، فيما أفادت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أن طائرات نقل عسكرية روسية عدة هبطت في طهران خلال الأيام الماضية.
أياً كانت مستويات الدعم الروسي (في غياب أي تدخّل صيني في الاتجاه نفسه شكلاً ومضموناً)، فإن مستواه سيبقى، وكما عهدناه طول تجربة الاتحاد السوفياتي مع العالم العربي، أقل بأضعاف من الدعم الأميركي الغربي لإسرائيل.
وإذا ما يجمع الغرب وإسرائيل سردية تاريخية شبه عقائدية، فإن علاقة موسكو مع إسرائيل منذ إنشائها لم تصل يوماً في سوئها إلى مستوى العداء والتناقض الوجودي. يكفي التذكير بأن قنصلية طهران في دمشق دمّرت قبل 4 أشهر بعد دعم إيران الواسع لروسيا في أوكرانيا، وأن مصادر إيران سرّبت معلومات عن تورّط شخصيات من داخل النظام في دمشق تُعتبر قريبة من موسكو.
ما نُقل عن الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان يؤكّد العزم على “توسيع الشراكة الاستراتيجية” مع روسيا.
تحتاج طهران إلى إظهار موسكو هذا الدعم، ولو على مستوى شخصية روسية أمنية وليس سياسية. وحتى حديث طهران عن أنظمة صاروخية ورادارات روسية تُنقل (احتمالاً) إلى إيران، فهي لن تكون جاهزة للتعامل مع التحدّيات الآنية. والحال أن روسيا تراقب بقلق التصعيد الخطير في الشرق الأوسط، فإذا كانت مصالحها الأوكرانية تجد منافع في انشغال عسكر الولايات المتحدة والحلفاء في صراع يخفف دعمهم لكييف، فإنها تنظر بعين الريبة إلى حال مقارنة بعام 2015، حين كان أسطولها يجول، ويكاد يكون وحيداً، في البحر المتوسط في الطريق إلى سواحل سوريا وليبيا وغيرها، فيما أسطول الغرب ينتشر هذه الأيام في البحر الأحمر و”أرمادا” أميركا تحتشد في مياه المنطقة.