كان من الصعب على زعيم “حزب الله”، السيّد حسن نصر الله، بيع جمهوره ومحوره انتصاراً واضح الملامح. بدا أن المرحلة تتطلّب تواضعاً حتى في القول يجاري التواضع في العمل. احتاج أمر ذلك النصر إلى تحريك “الأهالي” ليخرجوا بأهازيج فرح لنصر هبط وحيه عليهم. والحال أن الحزب وزعيمه في إعلانهما تفاصيل الردّ الموعود على اغتيال القيادي فؤاد شكر يفرجان عن أقصى سقوف الإرادات والقدرات المتوفّرة.
تختلف تفاصيل ذلك الردّ عن ذلك الذي نفّذته إيران في 13 نيسان (أبريل) الماضي، انتقاماً لقيام إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من الشهر نفسه.
غير أن القاسم المشترك بين الردّين هو أنه شأن يتجاوز طرفي الصراع، تتدخّل فيه عواصم محذّرة ورادعة، وتلعب فيه الولايات المتحدة دوراً قيادياً راعياً في هندسته ونحت شططه وجعله داخل المتاح والمقبول.
اتفق “حزب الله” (ومن ورائه إيران) وإسرائيل ضمناً – أو من خلال تفاهمات الوسطاء – على منع الردّ من أن يكون مفجّراً لحرب كبرى. وعلى الرغم من كثافة النيران المتبادلة مقارنة بيوميات المواجهة منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فإنه إرتوئي القبول بها داخل معايير قواعد الاشتباك. استطاعت إسرائيل الزهو بقدراتها الاستباقية.
في المقابل، استنتج الحزب ضراوة قدرات إسرائيل الاستخبارية، وإن ما زال مكابراً في الاعتراف باختراقاتها داخل صفوفه.
غير أن الطرفين، وخصوصاً إسرائيل، تقاطعا في وسائل الإعلام على وصف الحدث بأحجام مبالغة، بحيث يكون الردّ بالنسبة إلى الحزب على مستوى التوعّد الذي أطلقه زعيمه انتقاماً لاغتيال “قائد أركانه” في قلب “الضاحية”، ويكون بالنسبة إلى إسرائيل تحرّكاً عسكرياً استباقياً هائلاً، يؤكد استمرار تفوّقها وهيمنتها الدائمة على الميدان. وفي حسابات الطرفين توسّلٌ لنصر قابل للتسويق المحلي على الأقل.
ليس صحيحاً أن الردّ كان أقصى ما يمكن الحزب أن يفعله، بالنظر إلى ما بات معروفاً في ما يملك في مخازنه، وبالنظر إلى سوابقه في حرب صيف 2006. وليس صحيحاً أن إسرائيل سلّطت ما هو متوفّر من ردّ، استباقي، بقي محدود الأثر، بالنظر إلى الفظائع المرتكبة منذ أكثر من 10 أشهر في قطاع غزّة. وليس صحيحاً أيضاً أن عدم قيام إسرائيل باستهداف المدنيين سببه وجود “مقاومة” رادعة في لبنان.
لم تمنع تلك “المقاومة” إسرائيل من ارتكاب الفظائع ضد المدنيين في لبنان في حرب 2006، ولم تمنع “المقاومة” في قطاع غزّة إمعان إسرائيل في استهداف المدنيين هناك في حروب متتالية فتكت بهم، انتهاء بعمليات إبادة تكاد لا تطال إلا المدنيين في حيواتهم ومآويهم وبقائهم في الحرب الراهنة. حتى المدنيين أنفسهم في لبنان، الذين كانوا يعيشون أيام هلع وتهجير بانتظار الردّ الموعود، لا يؤمنون – ولم يؤمنوا يوماً – بقدرة تلك “المقاومة” على ردّ ما هو متاح دولياً لإسرائيل دون غيرها ارتكابه. وما طلب زعيم الحزب بعودة الناس إلى بيوتهم إلا علامة على “صفقة” تمّ بموجبها كتابة سيناريو وإخراج ردّ الحزب وخاتمة توفّر، حتى إشعار آخر، أمن عودة الناس إلى بيوت هجروها.
ما حصل أنه، وحتى إشعار آخر، ممنوع ذهاب الأمور إلى حرب شاملة في لبنان. وراء ذلك تفاهمات حقيقية تنسجها قنوات خلفية لم تعد سرية، بين الولايات المتحدة وإيران، ووراء ذلك أيضا غياب مصلحة لإسرائيل في فتح جبهة جديدة، وهي منهكة في استمرار فتحها جبهة غزّة، ومصلحة لـ”حزب الله” في عدم الانخراط في مواجهة شاملة “من دون قواعد اشتباك”، بحسب وعيد نصر الله، لكنها ستكون من دون حدود بالنسبة إلى إسرائيل، على منوال ما عرفه العالم في غزة. ومن راقب روايتي حدث الردّ واستباقه الصادرتين عن الطرفين كاد يشتمّ بياناً ثنائياً مشتركاً وإن اختلفت لغته ولهجته ومصطلحاته.
يقدم ردّ “حزب الله” عيّنة مكرّرة عما هو تحت السيطرة داخل النظام الدولي الراهن. والأمر في حيثياته نموذج مملّ من الهندسات التي واكبت ردّ إيران قبل أشهر، كما الردّ الذي تعد وتتوعد به منذ اغتيال إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، في طهران في 31 تموز (يوليو) الماضي. حتى كاد تشارلز براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، يقول إن ردّ إيران بات خلفنا حتى لو حصل، وإن “احتمالية الحرب الشاملة قد انحسرت”.
جاء ردّ “حزب الله”، في التوقيت والتدبير، وفق هندسة ورعاية لا لبس فيها، تمّ اجتراح تفاصيلها بين واشنطن وطهران. فقرار الحزب في لبنان، كما قرار الفصائل الموالية في سوريا والعراق واليمن، هو في طهران، تُمسك جيداً بتلابيبه على نحو يحرّك الضربات ضد قاعدة “عين الأسد” العراقية ويلجمها، ويعرقل ملاحة البحر الأحمر ويفرج عنها وفق أصداء مفاوضات مثابرة قيل إن كثيرها يجري في سلطنة عُمان. كما أن نشر الولايات المتحدة “أرمادا” هائلة في المنطقة جعل زمام المبادرة والقول الفصل في حركة الميدان ومحدداته في يد براون، وليست في يد نظيره رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي
لن يكون هناك حرب شاملة تُتيح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تحقيق مآرب يطمح إليها في الداخل، كما ضد البرنامج النووي الإيراني في الخارج، ويحتاج الولايات المتحدة شريكاً. ولن تذهب إيران مذهباً يحرمها من “نعمة” الشراكة التي تمارسها مع الإدارة الديموقراطية في واشنطن لضبط جبهات تملك مفاتيحها.
والحال أن ناراً ستبقى تحت الرماد حتى الكشف عما سيخرج من صناديق اقتراع 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في الولايات المتحدة. وتعوّل إيران على شراكة بين كامالا هاريس ورئيسها مسعود بزكشيان، ويعوّل نتنياهو على خلاصٍ قد تعد به عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
تعليق واحد