أفريقيامجتمع

الخصوصية في العصر السيبراني.. هل يتفوق القانون على التكنولوجيا؟

التكنولوجيا تحت طائلة القانونيين تصبح الأدلة سجينة الشاشة

في العقود الأخيرة، شهد العالم ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، أثرت بعمق في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك مجال العدالة الجنائية. فقد أفرزت منصات التواصل الاجتماعي، بتنوعها ووسائلها المختلفة، ساحة جديدة لا تقتصر على التواصل الاجتماعي فحسب، بل تمتد لتشمل ارتكاب الجرائم والبحث عن مدى إثباتها. هذا التطور السريع أثار مجموعة من التساؤلات القانونية حول طبيعة الأدلة الرقمية وكيفية التعامل معها ضمن إطار القانون.

بدأت قصة التواصل الاجتماعي مع اختراع التلغراف في القرن التاسع عشر، والذي شكل حجر الأساس للتطورات اللاحقة التي أدت إلى ظهور الإنترنت ومنصات تفاعلية مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام. هذه المنصات، التي أصبحت ركيزة أساسية لا يمكن فصلها من حياتنا اليومية، لم تعد مجرد وسائل لتبادل المعلومات والتواصل مع الأصدقاء والعائلة، بل تحولت أيضا إلى مسرح لارتكاب جرائم إلكترونية متنوعة.

مع انتشار استخدام هذه المنصات، تصاعدت نسبة الجرائم الإلكترونية المرتبطة بها، ما جعلها مصدرا مهما للأدلة في القضايا الجنائية. فاليوم، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة لجرائم تتنوع بين الاحتيال الإلكتروني والابتزاز، إلى التحرش والتحريض، بل وحتى التخطيط لأعمال إرهابية. في ظل هذا الواقع الجديد، تبرز أهمية فهم طبيعة الأدلة الرقمية وآليات التعامل معها لضمان تحقيق العدالة في العصر الرقمي.

المحور الأول: طبيعة الأدلة الرقمية بين التحدي والمصداقية

تختلف الأدلة الرقمية عن الأدلة التقليدية في عدة جوانب، فمن السهل التلاعب بها أو حذفها، وهي تشمل الرسائل الإلكترونية، المنشورات، التعليقات، والوسائط المتعددة التي يتم تبادلها على منصات التواصل الاجتماعي. فقد أصبحت هذه الأدلة “الرقمية” منبعا قويا لإثبات الجرائم الإلكترونية، لكنها تثير في الوقت نفسه تحديات جديدة للمحققين والقضاة.

1. أولى التحديات تتمثل في التلاعب والحذف

تعد سهولة التلاعب بالمعلومات الرقمية من أبرز التحديات التي تواجه استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. فمن الممكن حذف الرسائل أو التعديل على محتواها، أو حتى إنشاء رسائل مزيفة لإيهام المحققين بمعلومات غير صحيحة.

2. ثاني التحديات تبرز في المصداقية والتوثيق

فالمصداقية من أهم العوامل التي تحدد قيمة الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. فقد تكون الرسائل المتبادلة على منصات التواصل الاجتماعي مزيفة أو معدل عليها، أو قد تكون مضللة بسبب سوء التفسير أو الخلل في التواصل.

3. ثالث التحديات تظهر في الخصوصية وحماية البيانات

تُعد مسألة الخصوصية من أهم التحديات التي تواجه استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. فقد تكون الرسائل المتبادلة على منصات التواصل الاجتماعي مُحتوية على معلومات شخصية حساسة، مثل البيانات المالية أو البيانات الطبية أو حتى البيانات السياسية.

المحور الثاني: الإطار القانوني بين الخصوصية والعدالة

تختلف قوانين الدول في التعامل مع الأدلة الرقمية المستمدة من منصات التواصل الاجتماعي. ففي بعض التشريعات، تعتبر هذه الأدلة جزءا من “الاتصالات الإلكترونية”، وتخضع لقوانين صارمة تتعلق بالمراقبة وحماية الخصوصية. بينما في دول أخرى، يتم التعامل معها ضمن “خدمات مجتمع المعلومات”، مما يغير من طبيعة المتابعة القانونية لاستخدامها في المحاكم.

المحور الثالث: التحديات القانونية للموازنة بين الخصوصية والأمن

يطرح استخدام الأدلة الرقمية من منصات التواصل الاجتماعي تحديات قانونية عديدة، أبرزها مسألة الخصوصية. ففي العديد من الدول، كالولايات المتحدة وبريطانيا، توجد قوانين تحمي بيانات الأفراد الشخصية وتحدد شروط استخدام الأدلة الرقمية في التحقيقات الجنائية.

1. الولايات المتحدة: قوانين حماية الخصوصية

في الولايات المتحدة، تصنف كقوانين حماية الخصوصية باعتبارها من أهم العوامل التي تحدد كيفية استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. فقد أصدر الكونغرس عدة قوانين تأمن بيانات الأفراد الشخصية، مثل قانون الخصوصية الرقمية “Digital Privacy Act” وقانون حماية البيانات الخاصة “Privacy Act“.

2. بريطانيا: قوانين تنظيم صلاحيات التحقيق

في المملكة المتحدة، تعدّ التشريعات المنظمة لسلطة التحقيق عاملا أساسيا في تحديد كيفية استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية، مما يؤثر بشكل كبير على سياق العدالة الجنائية. فقد أصدر البرلمان عدة قوانين تحمي بيانات الأفراد الشخصية، كقانون تنظيم صلاحيات التحقيق لعام 2000 Regulation of Investigatory Powers ActRIPA“.

3. فرنسا: ميثاق الإنترنت المفتوح والآمن

في فرنسا، يشكل ميثاق الإنترنت المفتوح والآمن بمثابة ضمانة أخلاقية وقانونية تنظم استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. ففي سعيها الدؤوب لحماية خصوصية الأفراد، أصدرت الحكومة الفرنسية قوانين صارمة تحمي بياناتهم الشخصية، مثل قانون حماية البيانات الشخصية “Data Protection Act“.

وبالتالي تشكل هذه القوانين درعا واقيا لحماية بيانات الأفراد، حيث تلزم السلطات القضائية بالحصول على تصريح قضائي قبل الوصول إلى معلوماتهم الشخصية، وتحدد بشكل دقيق كيفية جمع وتحليل واستخدام هذه البيانات.

4. مصر: قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

في مصر، هناك قوانين مكافحة جرائم تقنية المعلومات بمثابة خارطة طريق تحدد كيفية استخدام الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. وذلك بصدور عدة قوانين تحمي بيانات الأفراد الشخصية، كقانون رقم 175 لسنة 2018 المتعلق بمكافحة جرائم تقنية المعلومات، كما تم نشره بالجريدة عدد 32 مكرر بتاريخ 14 غشت 2018.

المحور الرابع: الإطار القانوني الدولي وضرورة التعاون

تتزايد أهمية وضع إطار قانوني دولي للتعامل مع الأدلة الرقمية المستمدة من منصات التواصل الاجتماعي نظرا لطبيعتها العابرة للحدود. فالجرائم التي ترتكب عبر الإنترنت قد تشمل أشخاصا من دول مختلفة، مما يجعل التعاون الدولي ضرورة لضمان تطبيق العدالة.

وتظل اتفاقية بودابست بشأن الجرائم السيبرانية من أهم الإطارات القانونية الدولية التي تعنى بالتعاون بين الدول في مجال مكافحة الجرائم السيبرانية. وقد تم اعتمادها من قبل لجنة الأمم المتحدة للقانون الجنائي الدولي في بودابست، المجر، عام 2001 ودخلت حيز التنفيذ سنة 2004، كما وقعت على هذه الاتفاقية عدة دول من أهمها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومصر.

في حين أن المغرب وقع على اتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم السيبرانية في سنة 2006 لكنه لم يصادق عليها بعد، مما يعني أنه لم يلتزم بها رسميا. رغم أنه قد يكون اعتمد بعض مبادئ الاتفاقية في قوانينه الوطنية، فإنه لا يطبقها بالكامل.

سنة 2018، أصدر المغرب قانون خاص بالجرائم الإلكترونية، لكنه يفتقر إلى الأدوات القانونية الدولية التي توفرها اتفاقية بودابست، مما يؤثر على فعالية مكافحة الجرائم السيبرانية على الصيد الدولي.

المحور الخامس: توظيف الأدلة الرقمية في القضاء لضمان المصداقية والشرعية

يتطلب استخدام الأدلة الرقمية في المحاكم إجراءات محددة لضمان مصداقيتها وقانونيتها. يجب أن يتم جمع الأدلة وفقا للقوانين الوطنية والدولية، مع ضرورة الحصول على التصاريح والتراخيص اللازمة من الجهات المختصة. كما يجب أن تخضع الأدلة لعملية توثيق دقيقة لضمان عدم التلاعب بها.

1. ضمان المصداقية من خلال التوثيق والتحقق بالأدلة الرقمية

يجب أن يتم توثيق الأدلة الرقمية بشكل دقيق، مع تحديد مصدرها وتاريخها وطريقة الحصول عليها. كما يجب أن يتم التحقق من صحة الأدلة، مع التأكد من عدم التلاعب بها أو تعديلها.

2. ضمان الشرعية من خلال الأوامر القضائية والإجراءات المسطرية

يجب أن يتم الحصول على التصاريح اللازمة من الجهات المختصة قبل جمع الأدلة الرقمية، مع مراعاة قوانين حماية الخصوصية وحقوق الإنسان. كما يجب أن يتم جمع الأدلة بناء على الإجراءات القانونية، مع مراعاة حقوق المتهمين.

المحور السادس: التحديات المعاصرة في مواجهة الجرائم عبر منصات التواصل الاجتماعي

تشمل الجرائم المرتكبة عبر منصات التواصل الاجتماعي مجموعة واسعة من الأنشطة غير القانونية، بما في ذلك الاحتيال الإلكتروني، الابتزاز، والتحرش. يتميز هذا النوع من الجرائم بأنها غالبا ما ترتكب عبر الحدود الوطنية، مما يعقد عملية التحقيق والإثبات. لذلك، تلعب الأدلة الرقمية المستمدة من هذه المواقع دورا حاسما في كشف هذه الجرائم وإثباتها أمام المحاكم.

1. بعض أنواع الجرائم التي ترتكب عبر منصات التواصل الاجتماعي

·الاحتيال الإلكتروني: يمكن استخدام منصات التواصل الاجتماعي لخداع الناس واستغلالهم للحصول على أموالهم أو معلوماتهم الشخصية.

·الابتزاز: يمكن استخدام منصات التواصل الاجتماعي لتهديد الضحايا بنشر معلومات خاصة عنهم أو صور لهم إذا لم يقدموا لهم مُقابلا ماليا أو غيره.

·التحرش: يمكن استخدام منصات التواصل الاجتماعي لإرسال رسائل مهينة أو مهددة للضحايا، أو لنشر صور أو فيديوهات مهينة لهم ومخلة للآداب والأخلاق.

·التحريض: يمكن استخدام منصات التواصل الاجتماعي لنشر رسائل محرضة على الكراهية والعنف ضد الآخرين بسبب دينهم أو عرقهم أو جنسهم.

2. كيف يمكن أن نوازن بين حرية التعبير وحماية الخصوصية؟

·حقوق الإنسان: يجب أن يتم التعامل مع الأدلة الرقمية باحترام حقوق الإنسان، مع مراعاة حق الخصوصية وحق الدفاع.

·حرية التعبير: يجب أن يتم التعامل مع الأدلة الرقمية باحترام حرية التعبير، مع مراعاة أن بعض الرسائل قد تكون مهينة أو مضللة لكنها لا تشكل موضوع جريمة.

·العدالة: يجب أن يتم التعامل مع الأدلة الرقمية بإنصاف وعدالة، مع مراعاة أن بعض الأدلة قد تكون مضللة أو مزيفة وأن بعض الرسائل قد تكون مسيئة لكنها لا تدخل دائرة الجريمة.

كتخريج عام، يمكن القول بأنه في ظل التقدم التكنولوجي السريع وانتشار استخدام منصات التواصل الاجتماعي، أصبح من الضروري تحديث الهياكل القانونية لتنظيم استخدام الأدلة الرقمية في التحقيقات الجنائية. هذه التحديثات يجب أن توازن بين حماية خصوصية الأفراد وضمان الأمن العام.

يجب على الدول تعزيز التعاون الدولي لوضع معايير مشتركة لجمع الأدلة الرقمية واستخدامها. كما يجب على المحاكم تحسين إجراءاتها لضمان التعامل السليم مع هذه الأدلة وضمان حقوق جميع الأطراف. في نهاية المطاف، يظل الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة وحماية المجتمع في مواجهة التحديات التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة.

https://anbaaexpress.ma/gnoz9

ياسين كحلي

مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى