طلعت قديح
تقفُ رَغَدُ، 19 عاماً، في طابورِ النساءِ إزاءَ التَكِيَّةِ مرغَمةً، فلا أَحدَ في الخيمةِ سوى أُمّها. تسيطرُ عليها نظراتٌ خجولةٌ يتخلّلُها ألمٌ وحسرة. فهي فتاةٌ جامعيةٌ في سَنَتِها الأُولى، ولم يمضِ سوى أسبوعين من الدوامِ الجامعيِّ قبل أن تنفجرَ الحربُ وتذهبَ حياتُها الجامعيةُ هباءً. بَيْنِ يَدَيْ رغدَ ومِن خَلفِها أطفالٌ وكبارٌ يحملون أواني الطعامِ، مصطفِّين في طوابيرَ طويلةٍ، وسطَ تدافعٍ وجَلَبةٍ وأحاديثَ بانتظارِ دَورَهم في “دَلْقِ” ما تيسّرَ من طعامٍ في أوانيهم وأطباقِهم البالية. في خضمِّ ذلك أغمضَت رغدُ عينَيها وانفجرَت باكيةً. لاحظَها عاملٌ يسجِّلُ بالصوتِ والصورةِ توزيعَ الطعامِ على النازحين، وأراد توثيقَ تلك اللحظةِ المؤلِمةِ، فتنبَّهَت وخرجَت من الطابورِ من غيرِ أن تأخذَ شيئاً من الطعامِ، وعادَت إلى خيمتِها خاليةَ الوفاضِ إلا من الكرامةِ، كما قالَت.
رغدُ واحدةٌ من عشراتِ آلافِ سكّانِ قطاعِ غزّةَ المنقلِبةِ حياتُهم رأساً على عقبٍ منذ بدايةِ الحربِ الإسرائيليةِ على القطاع في أكتوبرَ الماضي. عصفَ العنفُ الإسرائيليُّ بهم كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً عصفاً لم يشهدوا له مثيلاً في حروبِهم السابقة. فقدوا بيوتَهم ومصادرَ أرزاقِهم ونَزحوا فِراراً بأرواحِهم ونفدَ طعامُهم وشرابُهم أو كادَ، لا سيّما في شمالِ القطاعِ الذي يواجِه مجاعةً ثانيةً وغلاءً فاحشاً في أسعارِ الغذاءِ. خرجوا حاملين أوانيهم وأطباقَهم يقرعُ الجوعُ بطونَهم، ساعين إلى من يوفّرُ لهم لَقَيماتٍ يُقِمْنَ صُلبَهم وسطَ أزيزِ الطائراتِ وهزيمِ الانفجارات.
ظهرَت التَكيّةُ، أي المطبخُ الخيريُّ، وجهاً من وجوهِ التكافلِ الإنسانيِّ ومسعىً لإطعامِ مئاتِ الآلافِ من النازحين والمُعوزين الشاردين أَولاً من شمالِ غزّةَ إلى جنوبِها ثمّ مِن أقصى شمالِها إلى أماكنَ اكتظّت بالبشرِ وسطَها وجنوبَها الأدنى، مثل مدينة خانيونس جنوبَ مدينة رفحَ المتاخمةِ مصرَ. تَعتمد التَكيّةُ على التمويلِ الخارجيِّ بكثرةٍ نظراً إلى ضيقِ الحالِ. اقتصرَت أكثرُ الأعمالِ الخيريةِ قبل الحربِ الحاليّةِ على مبادراتٍ شبابيةٍ أو مؤسّساتٍ خيريةٍ تنتقي من تساعدُهم بعد معرفةِ حالِهم بزيارةِ منازلِهم والسؤالِ عنهم، ولَم تنتشر التَكيّةُ في غزّةَ قبل الحربِ، وإنْ وُجدَت في بعضِ المناطقِ من سنينَ قليلةٍ، منها مثلاً “تَكيّة رفح” و”تَكيّة استَبِقوا الخَيرات”.
يُقالُ إن “تَكِيَّة” مشتقّةٌ من الفعلِ “اتّكَأَ”، أي استندَ، وقيلَ من الكلمةِ الفارسيةِ “تكية”، أي الجِلْدِ، نسبةً إلى شيوخِ الصوفيةِ الذين اتخَذوا من “جاعد الضأن”، أي صوفِه، وحيواناتٍ أُخرى زِيّاً وشِعاراً. وتشيرُ الكلمةُ إلى مكان العبادةِ وحلقاتِ الذِكرِ أو مكانِ استضافةِ المسافرين. وانتشرَت التكايا انتشاراً واسعاً في عهدِ الدولةِ العثمانيةِ، إذ كانت تُطعِمُ الطعامَ للفقراءِ والدراويشِ من المتصوّفة. والتَكيّةُ اليومَ تَعني مطبخاً خيرياً يُطعِمُ الفقراءَ والمُعوزين.
وميراثُ فلسطينَ هذا ممتدٌّ، مثلَ “التَكيّة الإبراهيمية” في مدينةِ الخليلِ الضاربةِ جذورُها في الحقبةِ المملوكية. يَفخَرُ سكّانُ الخليلِ بأن مدينتَهم لَمْ تَرَ جائعاً منذ قرونٍ بسببِ التَكيّةِ التي تُطعِمُ الفقراءَ وعابري السبيلِ أيامَ الأسبوعِ كلّها، لكنّ نشاطَها يزيدُ في شهرِ رمضان.
تختلفُ أنواعُ التكايا وأحجامُها في قطاعِ غزّةَ باختلافِ مقدارِ تمويلِها. فثمّةَ تكايا توفِّرُ للنازحين مكاناً للخيامِ والماءِ والطعامِ على هيئةِ مخيّمِ لاجئين، مثلَ مخيّمِ السلامِ الكويتيِّ شمالَ غربي مدينةِ رفحَ الذي قصفَه الطيرانُ الإسرائيليُّ نهايةَ مايو فاستُشهِدَ عشراتُ النازحين، وسُمِّيَت الحادثةُ “مجزرةَ الخِيام”. ومثلَ مخيّمِ أَبي الدحداح التركيِّ، نسبةً إلى مواطنٍ تركيٍّ باعَ منزلَه وتبرّعَ بثمنِه لإغاثةِ أهلِ غزّة. وهناك تكايا صغيرةٌ تحاولُ تلبيةَ الاحتياجاتِ الغذائيةِ وغيرِها من المعوناتِ للنازحين بما تسمحُ به قدرةُ القائمِ بأعمالِ الإغاثةِ والمساعدة.
حاورتُ بعضَ العاملين في التكايا مستفسِراً عن تجرِبتِهم منذ بدايةِ الحرب. تحرّجَ أكثرُهم من ذكرِ أسمائِهم لدواعٍ أَمنيّةٍ.
أحد هؤلاء عاملٌ قائمٌ على إحدى التكايا الصغيرةِ في منطقةِ مواصي خانيونس، التي أضحَت بؤرةَ النزوحِ الأساسيةَ لا سيّما بعد اجتياحِ الجيشِ الإسرائيليِّ رفحَ. وقد أسهَمَ العامل في إعانةِ العوائلِ النازحةِ في الخِيام. ويقول إن العملَ في هذا المضمارِ صعبٌ، فقرارُ إقامةِ تَكيّةٍ صغيرةٍ ليس سهلاً مع شحِّ الأموالِ عقبَ الحربِ على غزّة.
ويعزو عدمَ توسيعِ التَكيّةِ إلى قِلّةِ التمويلِ الخارجيِّ، فهناك صعوباتٌ في توفيرِ الاحتياجاتِ اللوجستيةِ لعملِ تَكيّةٍ كبيرةٍ، لذا تكونُ التَكيّةُ صغيرةً للمساهمةِ في تخفيفِ العبءِ عن كاهلِ النازحين.
يضيف العامل قائلاً “طَبَخْنا بعضَ الأصنافِ في شهرِ رمضانَ الفائتِ يومياً حتى أَطعَمْنا عدداً معقولاً يومياً، إلا أننا عانَينا كثيراً من ارتفاعِ الأسعارِ وصعوبةِ توفيرِ لوازمِ الطبخِ، كالحطبِ والأوانيِ والعاملين والمساعدين الشباب.
الأمرُ مرهِقٌ، وهذا ما جعلَنا نتخفّفُ بعد شهرِ رمضان رويداً رويداً حتى اقتصرْنا على توفيرِ سلّةٍ غذائيةٍ من فترةٍ لأُخرى”.
وحيدُ شابٌّ حاصلٌ على الماجستير في الحاسوب ومنشئُ فريقِ عملٍ إغاثيٍّ، يتحدّثُ عن فكرةِ التَكيّةِ وآليتِها: “نواجِهُ صعوباتٍ جمّةً في عملِنا الإغاثيِّ. لا يرى الناسُ سوى أننا نقدّمُ المحتوى الإغاثيَّ ونوثِّقُه صوتاً وصورةً بهواتفِنا المحمولةِ، لكنّ الأمرَ ليس بالسهولةِ المرئيةِ. إذ تبدأُ الصعوبةُ من السوقِ المحلّيةِ وما يَدخلُ من منتجاتٍ غذائيةٍ من المعابرِ التجاريةِ المغلقةِ أكثرَ الوقتِ وما يسمحُ الاحتلالُ الإسرائيليُّ بدخولِه إلى غزّة. لا تنوُّعَ بالأصنافِ الغذائيةِ، وهذا يُربِكُ الخطّةَ الأسبوعيةَ الموضوعةَ مِن قَبلُ”.
أَبرزَ وحيدٌ أهمّيةَ المموِّلين في عملِهم، قائلاً بأنهم قد يكونون عبارةً عن “مؤسساتٍ إغاثيةٍ خارجَ القطاعِ أو أفرادٍ يقومون بحملاتٍ لجمعِ المالِ لصالحِ غزّةَ عن طريقِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِ أو خدمةِ “غو فَنْد” التي يستعملُها الناسُ في غزّةَ بكثرةٍ لجمعِ التبرّعاتِ. قد يُسهِمُ المموِّلُ في شراءِ سلّاتٍ غذائيةٍ لتوزيعِها على الخِيامِ مباشرةً، وهذا عملٌ مرهِقٌ والكمّيةُ المرصودةُ لا تُغطِّي العددَ الموجودَ.
مموِّلٌ آخَرُ قد يطلبُ توفيرَ سياراتِ الماءِ الصالحةِ للشُربِ واختيارِ منطقةٍ يحدِّدُها هو وأن يكونَ كلُّ ذلك موثَّقاً بالصوتِ والصورةِ. وللعِلمِ فإنّ لدى المموِّلين مصادرَ معلوماتٍ على الأرضِ داخلَ قطاعِ غزّة”.
يرى وحيدٌ أن أكثرَ الصعوباتِ التي تواجِهُ عملَهم هو كيفيةُ الحصولِ على أموالِ التمويلِ، لا سيّما في ظِلِّ شحِّ السيولةِ الماليةِ في قطاعِ غزّةِ منذ بدايةِ الحربِ. فلا دخولَ لمبالغَ كبيرةٍ من العملةِ الإسرائيليةِ (الشيكل) التي يَتعاملُ بها عادةً سكانُ غزّةَ، ولا مِن العملاتِ الأُخرى مثلَ الدولارِ والدينارِ الأردنيّ. “ناهيكَ عن عمولةِ مكاتبِ الصرافةِ للحصولِ على الأموالِ، والتي وَصَلَت إلى نِسَبٍ عاليةٍ جدّاً لِما كان عليه الأَمرُ قبلَ الحربِ. كانت النسبةُ رمزيةً والآن تصلُ إلى 20 و25 بالمئةِ، ممّا يمثّلُ ضغطاً إضافياً على المجالِ الإغاثيِّ وعلى المموِّلين الخارجيّين”. نَصَّ البيانُ الصادرُ عن سلطةِ النقدِ الفلسطينيةِ في رام الله على تدميرِ الجيشِ الإسرائيليِّ أكثرَ المصارفِ وأجهزةِ الصرّافِ الآليِّ في قطاعِ غزّةَ، حائِلاً بين آلافِ الغزّيّين وبينَ رواتبهم، ممّا ألجأَ كثيراً منهم إلى استلامِها من محالِّ الصرافةِ أو بعضِ التجّارِ ذوي السيولةِ النقديةِ بعد اقتطاعِ 25 بالمئةِ من قيمتِها. أَثّرَت الخصوماتُ سلباً في التحويلاتِ القادمةِ من الخارجِ، سواءً التبرّعات من مؤسساتٍ أو أفرادٍ أو معوناتٍ ماليةٍ مباشرةٍ لعائلاتٍ من ذويهم خارجَ القطاع.
يقولُ نبيل من مدينةِ غزّةَ وهو مسؤولُ مبادَرةِ “بذور الخير” والذي يتلقّى الدعمَ الماليَّ بحملةٍ إغاثيةٍ واسعةٍ: “نحاولُ رصدَ احتياجاتِ الناسِ وهيَ كثيرةٌ جدّاً، لكنّنا محكومون بمزاجِ المموِّلِ ورغبتِه، فمموِّلٌ يطلبُ لحماً ذا جودةٍ عاليةٍ، وآخَرُ يحدِّدُ نوعَ الأَرُزِّ. وأنا عاملُ إغاثةٍ أحاولُ شرحَ حالِ المنتَجاتِ المتوفّرةِ وما يمكنُ أن نحصلَ عليه.
فمثلاً أغلبُ المأكولاتِ البقوليةِ معلّبةٌ، ولا منتَجاتِ زراعيةً مثلَ السابقِ، وعند توفّرِ منتَجاتٍ زراعيةٍ طازجةٍ كالخضارِ فإنها تُشتَرَى فوراً وتُطبَخُ للنازحين. نُعلِمُ المموِّلَ عندَ توفّرِ الخضراواتِ الطازجةِ، وبالعادةِ يوافقُ على استخدامِها”.
وقد دُمِّرَ جُلُّ قطاعِ الزراعةِ في غزّةَ منذ بدايةِ الحربِ والاجتياحِ البرِّيِّ وعملياتِ التجريفِ الإسرائيليةِ الواسعةِ التي تبعَتْها، لا سيّما في منطقةِ شمالِ غزّةَ ووسطِها.
يقولُ نبيل إن هناك مشكلةَ توفيرِ الحطبِ أيضاً. فمعَ ازديادِ عددِ النازحين يُضطَرُّ العاملون في التَكيّةِ إلى شراءِ الحطبِ بأسعارٍ باهظةٍ. والحطبُ لا يعني أخشابَ الشجرِ فقط، فهناك خشبُ الأبوابِ البيتيةِ وخشبُ البناءِ، وأعمدةُ الكهرباءِ الخشبية. “نحن في وضعٍ لا نُحسَدُ عليه؛ نحاولُ وبمساعدةِ عمّالٍ معنا أن نعثرَ على الكمّيةِ اللازمةِ بشكلٍ يوميٍّ من السوقِ المنتشرِ على أرصفةِ الشوارعِ”. اللجوءُ إلى وسائلَ بديلةٍ للطهيِ كان عاقبةَ شحِّ الوَقودِ، ومنه غازُ الطهيِ الذي فَرضَتْ إسرائيلُ قيوداً صارمةً على دُخولِه إلى القطاع منذ أكتوبر. وخَصَّتْ جُلَّ المُتاحِ الشحيح منه بمؤسّساتٍ دوليةٍ أو إغاثيةٍ مثل الأونروا. فلجأَ السكّانُ بعد نفادِ الغازِ إلى موادَّ بدائيةٍ، مثل الحطبِ والفحمِ للطبخِ والتدفئةِ، فضلاً عن استخدامِ موادَّ بلاستيكيةٍ وكيماويةٍ ضارّةٍ بالصحّةِ لإيقادِ النيرانِ، وهو ما أَراهُ رأيَ العينِ كلَّ يومٍ عند تجوالي في الشوارعِ وبين الخِيامِ.
قد يَرى المتابِعُ على شاشاتِ التلفازِ أو وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ المعوناتِ المتدفقةَ إلى القطاعِ أو المنتظرةَ في صفوفٍ طويلةٍ جداً، فيظنُّ أنَّ الأمورَ بخيرٍ، لكنّها ليست كذلك، فكثيرٌ منها لا يدخلُ، بل يَفسُدُ في الجانبِ المصريِّ من الحدودِ مثلَ شحناتِ البيضِ الضخمةِ التي فَسَدَتْ وانتشرَتْ صُورُها في وسائلِ الإعلامِ. يَحكي لنا نبيل، استناداً إلى تجرِبتِه، أنه لا يمكنُ المغامَرةُ بتخزينِ المأكولاتِ، لعدمِ وجودِ كهرباءَ، ممّا أَدَّى إلى إتلافِ كثيرٍ من الطعامِ وهدرِ الأموالِ. فضلاً عن استهدافِ الاحتلالِ أماكنَ تخزينِ الطعامِ الذي أَوجَبَ على العاملين بالإغاثةِ التعاملَ مع الواقعِ الأمنيِّ الداخليِّ، لا سيّما مع ظاهرةِ “قُطّاع الطُرق” الجديدةِ على القطاع. “بعد أن رَصَدْنا محاولاتٍ عدّةً لسرقةِ المخزونِ، قرّرْنا ألّا نخزِّنَ الموادَّ أكثرَ من يومٍ واحدٍ”. ويَرى أيضاً أن المشكلةَ الأَمنيةَ باتَتْ تحُولُ دونَ توسّعِ العملِ الإغاثيّ.
يَصِفُ نبيل الخيمةَ التي يعملُ فيها قائلاً: “اسمُ الخيمةِ في هذا السياقِ لا يعني خيمةً جاهزةً، بل هي مجموعةٌ من الأخشابِ على هيئةِ هرمٍ أو مربعٍ يلفُّها النايلون أو ما يُسمَّى “الشادر” لاتّقاءِ المطرِ في الشتاءِ. وفي الصيفِ تتحوّلُ إلى جهنّمَ كما يَصفُها النازحون”. ويقول نبيل بأنه على درايةٍ بعملِه وأن مصداقيةَ هذا العملِ تكمنُ في إدارةِ الأمورِ مهنياً ومحاوَلةِ الاستمرارِ.
“نُلبِّي مقترَحاتِ المانحين ونرفضُ بعضَها ليكونَ عملُنا حقيقياً لا وهمياً. نمدُّ يدَ المساعَدةِ لكلِّ مَن يريدُ مساعَدةَ النازحين حقّاً”. يطالِبُ نبيل بتكاتفِ الجهودِ مع الناشطين الآخَرين في هذا المجالِ لتوسيعِ نطاقِ المساعَداتِ والخِدماتِ لنَصِلَ إلى كُلِّ الغَزِّيِّين.
شابٌّ آخَرُ، لَم يُفصحْ عن اسمِه لدواعٍ أَمنيّةٍ، يعملُ في مؤسسةِ المطبخِ المركزيِّ العالميِّ، الذي قَتَلَت القواتُ الإسرائيليةُ سبعةً من عامِلِيه الأجانبِ بدايةَ إبريل الماضي.
كان عملُه في رفحَ في مناطقَ صنّفَها الجيشُ الإسرائيليُّ “مناطقَ آمِنةً” ونزحَ إليها أكثرُ سكّانِ القطاعِ من شمالِ القطاعِ ووسطِه. وفيها تجهيزاتٌ تسهِّلُ العملَ الإغاثيَّ لا تتوفّرُ في مناطقَ أُخرَى. يقول الشابُّ إنّ فريقَه اختارَ أوّلاً مكاناً ليكونَ مركزاً إغاثياً متكاملاً فيه مخزنٌ ومطبخٌ ومكاتبُ للفريقِ، وبميزانيةِ عملٍ ضخمةٍ من المطبخِ العالميّ. ويُردِفُ: “أَقَمْنا تكاياً عدَّةً بتكاليفَ عاليةٍ وبخدماتٍ مميّزةٍ، أَنشأْنا فيها كثيراً من مخيّماتِ النازحين، وسارَت الأمورُ بشكلٍ جيّدٍ إلى أن أعلنَ جيشُ الاحتلالِ الإسرائيليِّ نيَّتَه دخولَ رفحَ في بدايةِ مايو الماضي. اضطُرِرْنا إلى نقلِ محتوياتِ المطبخِ بالكاملِ إلى منطقةِ ديرِ البلحِ، وسطَ قطاعِ غزّةَ، وقد استأجرْنا مكاناً بَدا مناسباً بمبلغٍ كبيرٍ، ناهيك عن سرقةِ بعضِ المحتوياتِ أثناءَ عمليةِ الانتقالِ السريعةِ”.
“أَعَدْنا هيكلةَ المهامِّ والتوزيع في المنطقةِ الجديدةِ، ممّا أَربَكَ العملَ أيّاماً عدّةً، وأَثَّرَ على النازحين الذين كانت التكايا مُعيلَهم الوحيدَ، وغَيَّرَ الشريحةَ المستهدفةَ من منطقةٍ لمنطقةٍ أُخرَى”. يضيفُ أن “إغلاقَ المعابرِ أَثَّرَ على كمّيةِ الموادِّ الغذائيةِ المتوفّرةِ في المخازنِ، ما أَدَّى لإغلاقِ عدَّةِ تكايا أسابيعَ وحرمانِ كثيرٍ من النازحين من وجباتِ الطعامِ”.
لا معابرَ مفتوحةٌ ولا غازَ للطهي ولا مساعداتِ كافيةٌ ولا كهرباءَ ولا ماءَ صِحِّيٌ. لكنّ بعضَ الغَزِّيِّين يحاولون خلقَ أفقِ حياةٍ بمبادراتٍ إغاثيةٍ يَشُدّون بها مِن أَزْرِ المحتاجين ويَدعمون صمودَهم. إلا أن العملَ الخدميَّ بشكلِه الرسميِّ، وإنْ كان تكافليّاً مثلَ التَكيّةِ، يعتمد نجاحُه على توفُّرِ السُيولةِ الماليةِ والمرونةِ في التنقّلِ، وهي أمورٌ صعبةُ المنالِ في الحربِ الشرسةِ التي أَوْدَت بحياةِ عشراتِ آلافِ الفلسطينيين في غزّة، وتسبّبَت بالغُلُوِّ في الأسعارِ. وبعد ثمانيةِ أشهرٍ من الحربِ أصبحَ تحويلُ الأموالِ واستلامُها مكلِفاً ومرهِقاً. ومع وجودِ حصارٍ مُحكَمٍ ومعابرَ يتحكمُ فيها الاحتلالُ ويُغلِقُها معظمَ الوقتِ، باتَ من الصعبِ على التكايا ومموِّليها إدخالُ الموادِّ اللازمةِ بكمّياتٍ كافيةٍ ونوعيةٍ مناسبة.
* شاعر وناقد من غزة
المصدر: مجلة الفراتس