شهدت المملكة المتحدة في الفترة الأخيرة أسوأ إضطرابات منذ أكثر من عقد من الزمن. إذ سيطرت حشود من الرجال الملثمين على البلدات والمدن وهم يرددون شعارات معادية للمهاجرين ويهاجمون الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء وكذلك المساجد ويشتبكون مع الشرطة ويتسببون في دمار واسع النطاق.
إنطلقت شرارة أعمال الشغب ذات الصبغة اليمينية المتطرفة في مدينة ساوثبورت الساحلية في شمال غرب إنجلترا اواخر الشهر الماضي بعد وفاة ثلاث بنات صغيرات طعنا.
وبموجب القانون البريطاني بالنسبة للمشتبه بهم الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما، لم تذكر الشرطة إسم الجاني في البداية. وفي غضون ساعات، كانت منابر وسائل التواصل الاجتماعي قد إمتلأت بالشائعات حول خلفية المهاجم مفادها أنه رجل مسلم يدعى علي الشكاتي، وهو طالب لجوء وصل إلى المملكة المتحدة على متن قارب صغير العام الماضي وكان يخضع لمراقبة جهاز المخابرات البريطانيMI6.
وهو كلام فندته الشرطة البريطانية لاحقا, اذ لم يكن الجاني سوى شاب مسيحي يبلغ من العمر 17 عاما, مولود في مدينة كارديف البريطانية لأبوين روانديين.
غير أن أعمال الشغب إنطلقت بعد أيام قليلة من حادث الطعن, وإنزلقت إلى حالة من الفوضى استخدم المشاركون فيها لهجة عنصرية معادية للمهاجرين واللاجئين والمسلمين أيضا, حيث هتفوا “أوقفوا القوارب” و”استعيدوا بلادنا” و”أنقذوا أطفالنا”.
وكانت المساجد في مختلف المدن البريطانية هدفا للعنف حيث حاول البعض الهجوم على مسجد وتحطيم أسواره وكسر نوافذه وإلقاء مواد مشتعلة عليه كما نهب العديد من المتاجر.
وإستهدفت أعمال الشغب أيضا الفنادق التي تأوي طالبي اللجوء، ومنزل عائلة لاجئة، وغالبا ما كان مثيرو الشغب يهتفون “أحرقوها” أو “أخرجوهم”. كما تعرض رجال من أصول إفريقية وآسيوية يقودون سيارات أجرة أو يسيرون في الشوارع للهجوم.
وإنتشرت مسيرات اليمين المتطرف إلى مدن أخرى في أنحاء الممكلة المتحدة لتصل الى العاصمة لندن ومقر رئاسة الحكومة في داونينغ ستريت تحديدا حيث هاجم مثيرو الشغب الشرطة وأصيب أكثر من 50 ضابطا، بعضهم في حالة خطيرة. وألقي القبض على أكثر من 100 شخص في لندن.
من يقف وراء أعمال الشغب؟
رغم شكوك البعض في أن روسيا هي التي تقف وراء اثارة الشغب بسبب دعم بريطانيا لأكرانيا في الحرب الأخيرة مع روسيا, إلا أن كثيرا من المعلقين يرون أن تاجج الوضع قد يكون نتيجة للخطاب المعادي للمهاجرين على مر السنين من قبل ساسة بريطانيين, وعلى رأسهم ستيفن ياكسلي- لينون، المعروف أيضا باسم تومي روبنسون، مؤسس “رابطة الدفاع الإنجليزية” المعروفة بأنها أكبر تجمع لليمين المتطرف في لندن لسنوات.
فقد لعب روبنسون، الذي غادر البلاد في عز الأزمة باتجاه قبرص لقضاء عطلة صيفية، دورا مهما في تأجيج الأوضاع، إلى جانب بعض حلفائه، من خلال تعليقات على الإنترنت تتسم بالتعصب وتستهدف المهاجرين والمسلمين والحكومة والشرطة.
وكان خطاب كراهية الأجانب وتحديدا طالبي اللجوء يحظى بقبول أكبر في ظل حكومة المحافظين السابقة عندما تحدث ساسة مثل سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية آنذاك عن “غزو” البلاد.
وكانت حكومة المحافظين وعلى رأسها ريشي سوناك إقترحت ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا لردع المهاجرين، لكن الخطة لم تدخل حيز التنفيذ. إذ كان أول الإجراءات لرئيس الحكومة الجديد السير كير سترامر هو إلغاء تلك الخطة – مما أثار غضب المناوؤين للهجرة. لكن مما لا شك فيه أن هؤلاء الساسة كانوا يستخدمون الهجرة واللجوء ورقة لفوز حزبهم في الانتخابات أو على الأقل الاستمرار في مناصبهم.
كما سعى نايجل فاراج، مؤسس حزب الإصلاح اليميني المتشدد وعضو البرلمان الآن، إلى الاستفادة من الاضطرابات لتعزيز رسالته المناهضة للهجرة.
ودعت منشورات تحريضية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل Telegramو X سبقت أعمال الشغب إلى ترحيل طالبي اللجوء وتهجمت على الاسلام والمسلمين.
كما اتهمت الشرطة بمعاملة المتظاهرين القوميين والإنجليز البيض بقسوة أكبر في الشوارع مما تعامل، على سبيل المثال، المتظاهرين الداعين الى وقف الحرب على غزة والداعمين لفلسطين عموما وأولئك الذين يشاركون في مظاهراتBlack Lives Matters وهي حركة مدافعة عن حقوق السود.
ويصف العديد من المتورطين أنفسهم بأنهم “وطنيون” ويقولون إن المستويات القياسية للهجرة “تقوض المجتمع البريطاني”.
ويجادل بعض نشطاء اليمين المتطرف على الإنترنت بأن الهجرة غذت العنف والجريمة، وأن المهاجرين يسكنون في بيوت مجانا ويعاملون معاملة تفضيلية من قبل الدولة.
غير أن جماعات حقوق الإنسان تقول إن هذا ببساطة غير صحيح, فطالبو اللجوء تحديدا يوضعون في مراكز مخصصة لهم بينما تنظر وزارة الداخلية في ملفاتهم مع الإشارة إلى أن اللجوء لا يمنح إلا لمن يثبت أن حياتهم معرضة للخطر وأنهم فارون من الصراع في بلدانهم الأصلية. وتقول جماعات مناهضة للعنصرية إن “الوطنية” تستخدم ذريعة للتطرف.
كما أثار تعليق لمؤسس منصة Elon Musk بأن “الحرب الأهلية في بريطانيا لا مفر منها” حفيظة الكثيرين.
لكن مختلف المدن البريطاينة شهدت مظاهرات ومسيرات مضادة في الوقت ذاته. إذ إستجاب آلاف الأشخاص لصرخة حاشدة لوقف اليمين المتطرف. وتجمعت حشود ضخمة في العاصمة لندن وإدنبرة باسكتلندا وكارديف بويلز. ووصل عدد المشاركين إلى 15000 شخص في مسيرة مماثلة نظمتها مجموعة “متحدون ضد العنصرية” في بلفاست، عاصمة إيرلندا الشمالية حيث شوهد المتظاهرون وهم يحملون لافتات تحمل رسائل مناهضة للعنصرية ويهتفون شعارات داعمة للمهاجرين وطالبي اللجوء.
وفي الوقت نفسه، هتف الآلاف الذين ساروا في قلب لندن “اللاجئون مرحب بهم هنا”. وقدرت حركة “الوقوف في وجه العنصرية” أن 5000 شخص تجمعوا أمام مقر حزب نايجل فاراج حيث اتهمه المتحدثون بنشر العنصرية.
“الإسلاموفوبيا”
يقدرعددهم المسلمين في بريطانيا بنحو 4.1 ملايين مسلم، أو ما نسبته 6.3% من مجموع السكان البالغ عددهم نحو 66 مليونا.
وقد أظهرت أعمال الشغب الأخيرة إستياءا أو ما يعرف ب”الإسلاموفوبيا” الذي كان يختمر منذ فترة طويلة في جميع أنحاء المملكة المتحدة. ولوحظ تنامي المشاعر المعادية للمسلمين منذ بدء الحرب على غزة والمسيرات السلمية التي تنظم شهريا تقريبا في المملكة المتحدة إحتاجاجا على تلك الحرب.
ويرفع أفراد من اليمين شعارات مؤيدة لاسرائيل كما يوجهون اتهامات الى المتظاهرين بانهم “يدعمون حماس” أي أنهم هم “يدعمون الارهاب”.
وفقا لبيانات الحكومة البريطانية لعام 2023 ، لم تواجه أي مجموعة دينية جرائم كراهية مرتبطة بالدين أكثر من مسلمي بريطانيا. فمع نهاية شهر مارس 2023، سجل اكثر من4 من كل 10 جريمة كراهية استهدفت مسلمي بريطانيا من جميع جرائم الكراهية الدينية المسجلة.
ووفقا لتقرير صدر عام 2019 عن مجموعة “الأمل لا الكراهية” المناهضة للعنصرية، يعتقد أكثر من ثلث الناس في المملكة المتحدة أن الإسلام يشكل تهديدا لنمط الحياة البريطانية ويؤيدون نظريات المؤامرة المعادية للمسلمين.
وجادل التقرير أيضا بأن شيطنة المسلمين كانت محركا رئيسيا في نمو اليمين المتطرف.
والسبب في ذلك حسب التقرير ذو شقين: أولا، لطالما روجت وسائل الإعلام البريطانية لرواية مصطنعة مفادها أن المسلمين لا يتبنون او يدعمون “القيم البريطانية” وأن الرجال المسلمين متورطون في الاعتداء الجنسي على الأطفال وإغتصاب النساء البيض، وأن النساء المسلمات مضطهدات ويمثلن أيضا تهديدا للثقافة البريطانية.
وبالتالي، ليس من المستغرب أن إستطلاعا أجري عام 2022 وجد أن أكثر من ربع الجمهور البريطاني يكنون مشاعر سلبية تجاه المسلمين.
في ذروة أزمة اللاجئين السوريين في عام 2015، وجد التقرير أن وسائل الإعلام البريطانية خاصة ما تعرف ب”الصحف الصفراء” أي الشعبية, كانت أكثر سلبية في تغطيتها مقارنة بالعديد من نظيراتها في الدول الأوروبية الأخرى. فقد هيمنت مصطلحات من قبيل “تدفق” و “فيضان” و “جحافل” و “أسراب” في حديثها عن اللاجئين السوريين. وضخمت وسائل الإعلام المخاوف باستخدام إستعارات عسكرية وصور الحرب ، مع عناوين مثل “أرسل الجيش” لوقف “الغزو”.”
كما أثارت تعليقات لرئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، عن إرتداء النساء للبرقع حفيظة الجالية المسلمة البريطانية التي قالت أن حكومة المحافظين “لا تقدر مشاعر الجالية ”.
ورغم أنه لم يثبت بالأدلة صحة إدعاءات وجود “عنصرية مؤسسية” ضد مسلمي بريطانيا, غير أن هؤلاء يشتكون من “معاملة مختلفة” في مجالات كالصحة والرياض ويشيرون إلى أن التشريعات البريطانية المناهضة للعنصرية غير كافية.
كما يحذرون من أن ظاهرة الإسلاموفوبيا تشجع على الإقصاء والتمييز مما ينتج عنه مخاطر كثيرة تهدد التعايش السلمي في بريطانيا.
أول اختبار للحكومة الجديدة
كانت آخر مرة واجهت فيها بريطانيا اضطرابات بهذا الحجم في عام 2011، عندما أدى إطلاق الشرطة النار على رجل بريطاني أسود في شمال لندن إلى إحتجاجات تحولت إلى أيام من أعمال الشغب في العاصمة.
وكان المسؤول عن تقديم الجناة إلى العدالة هو كير ستارمرنفسه، الذي كان يشغل منصب مدير النيابات العامة آنذاك حين أمر المحاكم بفتح أبوابها على مدار 24 ساعة لمعالجة مثيري الشغب والنهب بسرعة.
ويواجه ستارمر الآن أزمة مماثلة باغتته كما باغتت الكثيرين بعد شهر واحد فقط من رئاسته للحكومة.
وقد استجاب بالمثل، مستخدما السلطات الحكومية للسماح للمحاكم بالجلوس لفترة أطول, كما أعلن عن إنشاء وحدة شرطة وطنية جديدة لمعالجة الاضطرابات التي وصفها “بالبلطجة اليمينية المتطرفة”.
وسوف تنظر في إصدار أوامر السلوك الإجرامي لتقييد حركة مثيري الشغب، كما يحدث مع من يفعلون في كرة القدم.
وقد تم بالفعل إعتقال ما لا يقل عن 300 شخص. كما تعهدت الحكومة بملاحقة ليس فقط مثيري الشغب، ولكن أولئك الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي لبث الفوضى.
فقد إتهم رجل باستخدام كلمات تنم عن التهديد أو سلوك يهدف إلى إثارة الكراهية العنصرية بسبب منشورات على فيسبوك. ويجري توفير ما يقرب من 600 مكان إضافي في السجون وتعيين موظفين متخصصين.
كما قالت الحكومة إن “جيشا نظاميا” من الضباط المتخصصين سيعالج الاضطرابات، وأن قوات الشرطة ستتبادل المعلومات الاستخباراتية عن الجماعات العنيفة, وإنها ستوفر أكثر من 500 مكان جديد في السجون لضمان سجن للمشاركين في أعمال العنف.
كما وعدت الحكومة في هذه المرحلة بتوفير مزيد من الحماية للمساجد، في حين يتواصل الوزراء مع شركات وسائل التواصل الاجتماعي حيث يدعون إلى مزيد من الإجراءات للتصدي للمواد الإجرامية على منصاتها.
وينظر المدعون العامون في تصنيف اعمال العنف من قبل بعض المشتبه بهم على انها جرائم ارهاب، إلى جانب تسليم المؤثرين الذين يزعم أنهم لعبوا دورا في الاضطرابات من الخارج، حسبما قال مدير مكتب المدعي العام.
وألمح رئيس سابق لمكافحة الإرهاب إلى أن الشرطة قد تحقق في نشاط نايجل فاراج زعيم حزب “ريفورم” Reform UK – على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أعمال الشغب.
وقال نيل باسو إن السلطات “ستحقق في نشاط أي شخص قد يكون حرض على أعمال الشغب”.
وواجه فاراج انتقادات لنشره “نظريات المؤامرة” حول هجوم ساوثبورت كما لفت الانتباه في السابق إلى الفنادق التي تؤوي المهاجرين وانتقدها بشدة.
ويقول المراقبون انه بدلا من البحث عن طريق انتخابي، يستخدم اليمين المتطرف في بريطانيا وسائل التواصل الاجتماعي للتنظيم, لكن فاراج ظل يزعم أنه لم يثر أعمال الشغب في أعقاب مقتل البنات الثلاث او شجع عليها.
غير أن كير سترامر لم يسلم من الانتقادات لأسلوب حكومته في معالجة أعمال الشغب الأخيرة, كما يواجه تحديات فريدة في عام 2024 ، بعد عقد من الزمن يعاني فيه قطاع الخدمات العامة من نقص حاد في التمويل يقترب من طريق مسدود.
إضافة إلى أزمة إقتصادية تعيشها المملكة المتحدة خاصة منذ خروجها من الإتحاد الأوروبي في ظل حكم حزب المحافظين بينما يبدو أن مثيري الشغب لم يرتدعوا ويجري التخطيط لمزيد من أعمال الشغب.