إلى اثنين التقيا في حانةِ التاريخِ بميقاتِ عبثِ البداوة:
خزائن بيت الحكمة، التي كحلتْ النهرَ بأوراقِها كتابًا تلو كتاب.
والنهر، إذ محا ماؤه أحبارَ الطروسِ كيما يفيض حبرًا ويصير سيدَ الأنهار.
(تصدير الرواية، زياد مبارك)
أطراس جوتيار الكُردي: رحلة في أعماق السرد الأدبي
توطئة ومدخل عام:
السلام عليكم سادتي، وهذه عودة ثانية مع رواية جهنگشاي للروائي السوداني زياد مبارك. كان بودي أن أجزل العمل وأتقنه بقراءة الرواية عدّة مرات، فلكم وللأديب العتبى، لكن وفي بعض الأحايين وعند ما يشتد وطيس الالتزامات المتكاثرة خلال اليوم، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فالله غالب، رغم ذلك اسمحوا لي أن ابسط بين أيديكم ما استطعت إنجازه وأراني قد قَصَرْتُ وقَصَّرْتُ واقْتَصَرْتُ نقدي المتواضع على بداية الرواية لا سيما ثيمات “أطراس جويتار”؛ (وطروس – كما وردت بجمعيّ التكسير).
في عالم الأدب ودراسة النقد الأدبي، يعتبر الخيال الأدبي من الجوانب الأساسية التي تميز الأعمال الأدبية وتجعلها تتفرد عن غيرها من النصوص. يُعرف الخيال الأدبي بقدرة الكاتب على إبداع عوالم وشخصيات وأحداث لا واقعية، تُسرد بأسلوب يستحضر المشاعر والتجارب الإنسانية بشكل متفرد. لذا تعد رواية “جهنگشاي” للكاتب زياد مبارك أحد الأمثلة البارزة على استخدام الخيال الأدبي لاستكشاف الحقبة التاريخية للدولة الإلخانية في العراق خلال القرون الوسطى، وتأثير سيطرة أحفاد جنكيز خان على هذه المنطقة وتداعيات ذلك على السكان والمجتمعات المحلية. وفي هذا السياق أورد مبارك هذه المقولة للراهب بروكارديوس مخاطبًا الملك فيليب:
«أنا أُسمّي بين هذه المخاطر أولئك الذين ينبغي لعنهم والفرار منهم لأنهم باعوا أنفسهم وهم عطاش للدماء البشرية يقتلون البريء لقاء الثمن، ولا يكترثون من أجل حياة أو إخلاص، وهم كالشيطان يحوّلون أنفسهم إلى صورة ملائكة النور، وذلك بتقليد حركات الشعوب والأقوام المختلفة وملابسهم ولغاتهم وعاداتهم وأفعالهم. هكذا تصادفهم متخفّين في ثياب الشياه. فعليك أن تذيقهم الموت في اللحظة التي يميزون بها. إنما عرفت هذا عنهم بما تواتر حولهم، أو بالكتابات الصادقة. لا يمكنني أن أبوح بأكثر من هذا، ولا أن أُقدّم معلومات أوفى». (الراهب بروكارديوس)
بواسطة شحذ وتوظيف ملكة الخيال الأدبي، يمكن للكاتب أن ينقل المتلقي بكل سلاسة عبر أزمنة وأمكنة قد يستحيل الولوج إليها من خلال تطبيق المنهجية التاريخية الكلاسيكية أو لنقل التقليدية، مما يسمح بتوسيع آفاق ورؤى القارئ وتجربة أبعاد جديدة من الواقع والماضي. تعد “جهنگشاي” مثالاً بيّنًا وتطبيقيًا في كيفية استخدام الخيال الأدبي لاستكشاف واستقراء التاريخ والثقافة والسياسة، مما يجعلها إضافة قيمة للدراسات الأدبية والتاريخية المعاصرة.
أحاول من خلال هذا المقال أن أتصدى لموضوع استخدام الخيال الأدبي في “جهنگشاي” لإبراز الجوانب الحياتية والثقافية والسياسية في العراق الوسطى خلال تلك الفترة التاريخية الهامة.
مقدمة استهلاليّة واعتذار
عالم الأدب واسع يا سادتي، كما السماء، فيه تتبدى بعض النصوص كالأنجم “الطوارق وما أدراك ما الطوارق؟”، وهي النجوم الثاقبة، أي نجوم الإصباح المتلألئة، نراها مُشِعَّة في عالم الإبداع، تحمل بين طياتها معانٍ عميقة ورموزاً غامضة تجعل من الفرد منَّا يغوص في أعماقها باحثاً عن الحقيقة الثاقبة رغم عامل التخييل ومنقبًا عن الجمال المتميز رغم آهات وأنَّات أزماننا القاسية. هكذا هي “أطراس جوتيار الكُرديّ” في افتتاحية رواية جهنگشاي وسمحت لنفسي هاهنا أن ألخصَّها بكليمات مقتضبة.
إنّ سردية الأطراس ما هي في الحقيقة إلا بوتقة من نصوص إبداعية وبجدارة. تتجلى فيها براعة الكاتب في صناعته، أقصد في استخدام اللغة من جهة، وهذا عامل رئيس، والفن السردي من جهة أخرى، ذلك في دنيانا كما استخدام عملة “الدرهم”، فهذا الأخير له وجهان مكملان لبعضهما البعض، إذ لا تستقيم قيمته الشرائية، بجانب أوحد دونما الآخر أو بمعزل عن قرينه الملتصق به، وهكذا هي الحال في دنيا الأدب، ففيه نجد أنّ استخدام اللغة واتقان الفن السردي، هما الوجهان لذلكم الدرهم. فلا بد أن يكونا متقنين، مجودين ومشذبين بكل ما تحمل هذه الكلمات من مضامين. ربما يتساءل بعض من أهلنا: ولماذا كل هذا “الهرج والمرج والزيطة والزنبريطة”، أليست هي رواية ككل الروايات، وهذا التساؤل جدير بأن نقف عنده برهة ويمكنني أن ألخص الإجابة عليه بكل بساطة في الآتي:
أدب الرواية التاريخية وللمقاربة عند أهل كرّة القدم هو “الشامبيون ليغ”، أعلى مراتب “اللعب النظيف”. هي مرحلة تتطلب أرضية أكاديمية وتاريخية/ تأريخية صلدة حتى يتمكن الكاتب المستنير من بناء نسج مستقيم أو قويم. لا ولن يستطيع المتسرعون أن يبنوا في هذا النمط الأدبي مثقال ذرة أو لنقل طوبة واحدة، ففاقد الشيء لا يعطيه.
نعود أدراجنا لموضوعنا المذكور أعلاه: كل الزيطة تجري في بحرٍ زاخرٍ بمداد كلماتٍ نيلويّة. فينبغي على من يرتاد هذا النمط أن يكون على قدرة ومقام يستطيع فيهما أن يمزج بمهارة عالية ودوزنة متناغمة عالمًا لنسج حكاية تجمع بين الماضي والحاضر، والحقيقة والخيال. تقودنا النتيجة الأخيرة إلى قراءة ثرّة غنيّة، لمن أراد إليها سبيلا، تروي قصة مؤنسنة ومتشابكة بخيوط الحزن والأمل، متأرجحة بين الصراع والتسامح، معلقة بين الخير والشر، ذلك بكل الأبعاد التاريخية والآنية. ففي نصوص زياد مبارك وفي سياق هذه الرواية لا نجد، كما انسلق أو سُلق البعض على ذلك، مجرد سرد تلقائي عفوي أو تجميع لأحداث أكل عليها الدهر وشرب، بل ترانا نعيش تجربة أدبية فريدة تعكس عمق النفس البشرية وتعقيداتها المتباينة، وتأخذنا من ثمّ في رحلة تأملية تكتشف فيها أسرار الحياة والموت، تنجلي بها آي الحب والكراهية، ونبصر من خلالها خيوط النور والظلام. ونرى هذه الرسالة جلية عندما استحضرها الكاتب في الاستشهاد بوصية منكو خان المغول لأخيه هولاكو خان:
«أما من يعصيك فأغرقه في الذلّ والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه، وكل ما يتعلّق به، وابدأ بإقليم قهستان في خراسان فخرّب القلاع والحصون، فإذا فرغت من هذه المهمة فتوجّه إلى العراق، وأزِلْ من طريقك اللورَ والأكراد الذين يقطعون الطرق على سالكيها. وعليك أن تعمرَ البلاد التي كنت استوليتَ عليها وهدمتها في حينها، وأعِدْ لها عمارتها ثانية».
عندما شرعت في دراسة هذا العمل وددت أن أفحص الرواية بأكملها، عساي أن أقدم رؤية تحليلية ونقدية وافية ولا أدعي بأن تكون كاملة، بيد أنني اضطررت لضيق الوقت ودسامة مادة الرواية أن اقتصَّ الإطار مؤقتًا فارتأيت أن أكرس جهدي المتواضع في جزئية “أطراس جوتيار” لعلني أقدم رؤية قد تكون عميقة عن النصوص وعن أدوات الكاتب في بناء الرواية التاريخية.
في نظري لقد أجاد الأديب المؤلف مبارك في جزئية “أطراس جوتيار الكُرديّ” في أن يستخدم مفردات سيميائية أضفت على النص بُعداً رمزياً عميقاً، يجذب القارئ إلى عالم مليء بالتأويلات والاحتمالات؛ تتجلى بشفافية في تركيب النص اللغوي المرصّع ببراعة بصوره الشعرية وبتراكيبه البلاغية، مما عزز من جمالية الطروس وعمّق عبر السردية المنفتحة من تأثيرها العاطفي والفكري على القارئ.
اسمحوا لي في هذا السياق أن أقارن “أطراس جوتيار الكُرديّ” بأعمال أخرى في الأدب العالمي التي استخدمت التاريخ كمرآة تعكس من خلالها قضايا الإنسان ومآسيه، مثل رواية ” Il nome della rosa اسم الوردة” لأومبرتو إكو، التي تجسد تحقيقاً مبهرًا في أحد الأديرة في غضون العصور الوسطى، ويستخدم أومبرتو إكو، كما زياد مبارك، الرموز والإشارات بشكل بارع لنسج حبكة معقدة تجمع بين الفلسفة والتاريخ والدين والدنيا، وبين حاضرنا وماضيهم (الحاضر الآمر والماضي الآسر) في تناغم بهيج. كما ونجد أن رواية جهنگشاي في مجملها تلتقي في بنائها السرديّ السريد ورواية “مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز، كما أسلفنا ذكره في الجزء الأول من المقال، حيث يلجأ مبارك لواقعية سحرية لخلق عالم تاريخي موازٍ يجمع بين الواقعية والأسطورة، ليعبر عن تعقيدات المجتمع البشري وتحولاته عبر الحقب والأزمنة. ففي “أطراس جوتيار الكُرديّ”، يتقاطع الخاص والعام، الفردي والجماعي، مقدمًا رؤية شاملة للوجود الإنساني، ممزوجة بنكهة محلية تميز النص وتمنحه أصالته الخاصة، والتمسُ فيها نَفَسَه وذاته ومحور ارتكازاته الآنية. يدعونا مبارك من خلال استقراء هذه النصوص إلى التأمل في تاريخنا، ماضينا الجمعي وحاضرن.
ذكرنا وذاكرتنا من أجل استخلاص العبر واستلهام الدروس، لنبني مستقبلاً أكثر إنسانية وعدلاً، ولمن لا يعرف هذا الكاتب فأنّه قابع في هذا اللحظات بين أضراس الحرب اللعينة وأنيابها على ضفاف بحرنا الأحمر ساكنًا بسواكن التاريخ.
لقد قدم الكاتب زياد مبارك في هذه الرواية أنموذجاً يحتذى به وعبّد طريقاً بجرأة فائقة، بعد تجارب عديدة سبقته لأن يبني أساس هذا المشروع، لمن سيأتي بعده من الكتاب السودانيين خصوصاً والعرب عموماً، عبر أنموذج يحكي سيرته ودأبه ومثابرته على القراءة المكثفة في أمهات الكتب ليعكس لنا خطورة سردية الرواية التاريخية من جهة وكيفية بناء أعمدتها من جهة أخرى.
تعالوا معي سادتي الكرام في طيّات هذا المقال نستكشف جماليات جزئية “طروس جويتار” في رواية جهنگشاي ونحلل معانيها الخفية من خلال عدسة النقد الأدبي، مستندين إلى المفردات السيميائية والتركيب اللغوي الذي استخدمه الكاتب بقسط وإتقان، مقارنين إياها بأمثلة من الأدب العالمي لتقديم فهم أعمق وأشمل للخلق الأدبي الذي بين أيدينا.
البنية السردية والتحليل الأدبي
النص الأول: أَطْرَاسُ جوتيار الكُردِيّ
يقدم هذا النص مشهدًا مكثفًا من حياة شخصية رئيسة تتلقى صندوقًا يحتوي على طروس من شخص يحمل ذكريات مؤلمة للراوي. يستخدم النص أسلوب الحكاية التقليدية المليئة بالغموض، حيث يأتي عنصر المفاجأة مع ظهور المرأة الغامضة التي تسلم الصندوق.
استخدام الرموز مثل “صندوق خشب السنديان” و”الطروس” يضفي بعدًا تاريخيًا وأسطوريًا للنص، مما يعزز من إيحاءات الغموض والقدَر. الشخصيات مرسومة بطريقة تعطي انطباعًا عن عالم يتجاوز الواقع المباشر، خاصة من خلال شخصية “الظافر بدين الله” مستوفي الديوان “وجوتيار”. اللغة المستخدمة فصحى راقية، تعتمد على البنية التقليدية للجملة العربية، مما يضفي طابعًا كلاسيكيًا على النص. الرمزية المكثفة تعبر عن الألم والمعاناة والتاريخ المؤلم للشخصية الرئيسية.
«في بكور أحد الأيام تلاحقتْ دقّات صاخبة على باب داري. فزعتُ من غفوتي لأجد امرأةً تقف على عتبة الدار، لم تحدّثني كثيراً من تحت البرقعِ على وجهها، خامرتْ دهشتي بصندوقٍ صغيرٍ من خشب السنديان مدّته إليّ، وقالت إنه مُرسَلٌ من الظافر بدين الله مُستوفِي الديوان.
لم تتنظرْ لتجلو عنّي الحيرة أو تجيب عن تساؤلاتي التي تسلّقت عتبات رأسي. سرَتْ في الأرض كعصفةِ هواءٍ مرّتْ بي لتغادر وتختفي في آخر الطريق، تاركةً إياي أزوغُ ببصري بين الصندوق وآثارها الماضية. اختليتُ بالصندوق يومذاك قبل أن تذَرّ الشمسُ ضوءَها ولمّا فتحته وجدتُ فيه أربعةَ طروسٍ كتبها الظافر بخطِّ يده. قرأتها في يومين وذرفتُ بكاءَ عمرٍ بأكمله». (أَطْرَاسُ جوتيار الكُردِيّ)
النص الثاني: الجبالُ مداخلُ للريحِ؛ مخارجُ للحشائشِ
يصف هذا النص مشهدًا في الطبيعة حيث تتداخل عناصر المكان والزمان لتقديم لحظة من التوتر والرهبة. استخدام الوصف التفصيلي للطبيعة يعزز من الأجواء الدرامية، بينما تبرز الشخصيات الرئيسية فيروز وحسن في خضم هذا المشهد. الوصف الدقيق للطبيعة يخلق صورة حية في ذهن القارئ ويعطي شعورًا بالانغماس في البيئة المحيطة.
الحوار بين فيروز وحسن يعطي نظرة أعمق إلى العلاقات الإنسانية والتوترات الداخلية للشخصيات، ويعزز من الواقعية ويضفي على النص ديناميكية. الطبيعة تلعب دورًا مهمًا في التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات، حيث يرمز الضباب إلى الغموض والجبال إلى التحديات والصعوبات التي يواجهونها.
«مع انحدار الشمس إلى المغيب نثرتْ السماءُ الضبابَ من جِرابها في الأفق بامتداد بساتين اللوز والفستق المُزهِرة وحقول القمح والأعشاب في سهل قزوين. يرخي الضباب ستاره شيئًا فشيئًا على الرؤوس الثلجية في قمم الجبال الأكثر علوًا من جبال الديلم، السلاسل الجبلية المهيبة الممتدة جنوب بحر قزوين. وفي حقل الأعشاب البريّة وقف شابٌ قويّ البِنيَة، يعصب رأسه بقماشةٍ سوداء تتدلّى إلى أسفل ظهره، يرتدي سروالًا فضفاضًا أسود اللون، وقميصًا مُتسخًا من الكتان، وحزامًا مُبقّعًا بالطين في وسطه. يراقب مجموعةً من الصبية والصبيات والنساء الذين انهمك بعضهم في اِجتِناءِ الحشائش، وفرز أجزائها، وجمع كل من الزهور والبذور والفروع وبعض الجذور في جوالق خاصة بكل نوع، كما عمدَ اللحّاء منهم إلى جذوع أشجار بعينها يقشر لحاءَها».
النص الثالث: العودة إلى القرية
يصف هذا النص رحلة العودة إلى القرية والعلاقات الأسرية للشخصية الرئيسية، مع التركيز على التفاعلات اليومية والعلاقات الإنسانية البسيطة. يبرز النص الحياة اليومية في القرية والعلاقات بين أفراد الأسرة، مما يعطي القارئ شعورًا بالاندماج في المجتمع المحلي. الحوار بين فيروز وزوجته يعمق الشخصيات ويكشف عن الخلفية النفسية والمشاعر المتباينة. استخدام الخنجر كرمز للخطر والغموض يضيف بعدًا نفسيًا للنص، حيث يعبر عن الماضي الغامض والخوف من المجهول.
«لم يتوقع إجابة من حسن، بينما أجابتْ عليه السماء وأفرجتْ عن أسطال الماء لتصبّ على رأسيهما دُفعات ثقيلة متتالية من المطر، واستحال صوت الريح إلى عصفٍ هادر بحيث لن يسمعه حسن إذا تحدّث معه، ومع ذلك لم يلجمْ فيروز نفسه عن الحديث وهما يمشيان مسرعَين على الطريق الذي صار مستويًا يفضي بهما إلى القريةِ وفوانيسِها التي تشعشع أمامهما في حضن الجبل. وعند مدخل القرية أطلّت فاطمة، بنت الاثني عشر ربيعًا، من تحت صخرةٍ معقوفةِ الفراغِ إلى الداخل من قاعدتها، وجرَتْ إلى حضن أبيها».
التحليل النقدي الأدبي
النقد السياقي
تستحضر النصوص أجواء تاريخية وثقافية من العصور القديمة والوسطى، مما يعزز من الإحساس بالتاريخ والتراث. تعتمد على السياق الثقافي الكردي والإسلامي، مما يمنحها عمقًا ثقافيًا وتاريخيًا. البنية السردية في النصوص متماسكة وتعتمد على التدرج الطبيعي للأحداث، مع الحفاظ على توازن بين الوصف والحوار. البنية الزمنية متداخلة، حيث تتنقل بين الماضي والحاضر لتعزيز الإحساس بالتوتر والغموض.
النقد النفسي
تستكشف النصوص الحالة النفسية للشخصيات من خلال الأوصاف الحسية والحوار الداخلي. تعيش الشخصيات في صراع مستمر مع الماضي والذكريات المؤلمة، مما يعكس الصراع الداخلي والعذاب النفسي. تقدم نصوص “أطراس جوتيار الكُرديّ” مزيجًا من السرد التاريخي والأسطوري مع التركيز على العلاقات الإنسانية والتوترات النفسية. تعتمد على الوصف التفصيلي والرمزية لتعزيز الأجواء الدرامية والغموض، مما يجعلها تجربة قراءة غنية وعميقة.
الرمزية والشخصيات والعلاقات
– رمزية الخنجر: يرمز إلى الخطر والغموض المحيط بشخصية حسن، ويعبر عن الماضي الغامض والمجهول.
– الشخصيات الرئيسة:
– فيروز: يمثل الشخصية النبيلة التي تحاول مساعدة الآخرين رغم المخاطر، تتميز بالعطف والشفقة.
– حسن: شخصية غامضة تحمل معها أسرارًا وخلفية مجهولة، يعكس الصراع الداخلي والتحدي للبقاء.
– الظافر بدين الله: شخصية غامضة ومؤثرة تمثل السلطة والقوة الغاشمة.
– العلاقات بين الشخصيات: تعكس تعقيدات الحياة الإنسانية، مشوبة بالغموض والخوف من المجهول. العلاقة بين فيروز وزوجته زهراء تعكس الحب والدعم المتبادل.
البنية الزمنية والسردية
تعتمد النصوص على التدرج الزمني غير المتسلسل، مما يخلق إحساسًا مستمرًا بالغموض والتوتر. يعتمد السرد على الوصف الدقيق والتفاصيل الحسية، مما يخلق جوًا من الانغماس الكامل في العالم السردي. الحوار الداخلي والخارجي يساهم في تعميق الشخصيات وإبراز تعقيداتها النفسية والعاطفية.
خاتمة
تقدم نصوص “أطراس جوتيار الكُردي” تجربة أدبية غنية تجمع بين السرد التاريخي والرمزية المعقدة، مع التركيز على الحالة النفسية للشخصيات والعلاقات الإنسانية. وتعكس قدرة الكاتب على الدمج بين العناصر الأدبية المختلفة لخلق عالم سردي متكامل يعبر عن التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها.
المفردات السيميائية والتركيب اللغوي في نصوص “أطراس جوتيار الكُرديّ”
لغة النص وتعريف السيمياء:
السيمياء، أو علم العلامات، هو دراسة كيفية توليد المعاني وتبادلها ضمن ثقافة معينة من خلال العلامات والرموز. في نصوص “أطراس جوتيار الكُرديّ”، لجأ الكاتب للسيميائية بشكل واسع بغية أن ينقل المعاني العميقة والأفكار الرمزية لتلك الحقبة الزمنية الغابرة.
المفردات السيميائية الرئيسية:
• الصندوق: يمثل الماضي والذكريات المدفونة. يعبر هذا الأخير عن محتوى نفسي عميق يرتبط بذكريات الراوي المؤلمة. وللصندوق هنا علامة سيميائية تشير إلى الاحتفاظ بالأسرار والأوجاع، والتي يتم كشفها تدريجيًا.
• الطروس: ترمز إلى الرسائل والأحداث التاريخية المهمة. وتعبر عن الصراع بين الماضي والحاضر وهي علامة على التوثيق للرسائل المهمة التي تحمل معانٍ وأحداثًا مؤثرة.
• الطبيعة (الضباب، الجبال، الحقول): تعكس حالة الشخصيات النفسية، الغموض، التحديات، والأمل. الضباب يمثل الغموض واللايقين، الجبال تمثل التحديات والصعوبات، والحقول تمثل العمل الشاق والأمل في الحياة.
• الخنجر: يمثل الخطر والغموض والموت. وهو كعلامة سيميائية يرمز إلى العنف والموت القادم من الماضي، ما يخلق توترًا في النص.
التركيب اللغوي
التركيب النحوي: التركيب اللغوي في النصوص يعتمد على جمل معقدة متعددة المستويات، تستخدم التراكيب النحوية لتعميق المعاني وتوضيح الأفكار.
الجمل المركبة:
• أمثلة: “لم تنتظرْ لتجلو عنّي الحيرة أو تجيب عن تساؤلاتي التي تسلّقت عتبات رأسي.”
• التحليل: الجمل المركبة تُستخدم لإضافة تعقيد للنص، مما يعكس التعقيدات النفسية والمواقف المتشابكة.
استخدام النعوت والصفات:
• أمثلة: “امرأة تقف على عتبة الدار، لم تحدّثني كثيراً من تحت البرقعِ على وجهها، خامرتْ دهشتي بصندوقٍ صغيرٍ من خشب السنديان مدّته إليّ.”
• التحليل: النعوت والصفات تضيف تفاصيل دقيقة تساعد في بناء الصور الذهنية وتوضيح المشاهد بشكل أكثر حيوية.
الزمن النحوي:
• أمثلة: “اختليتُ بالصندوق يومذاك قبل أن تذَرّ الشمسُ ضوءَها ولمّا فتحته وجدتُ فيه أربعةَ طروسٍ كتبها الظافر بخطِّ يده.”
• التحليل: استخدام الزمن الماضي والمضارع بشكل متداخل يعزز التوتر السردي ويخلق انتقالات زمنية تساهم في تعقيد الحبكة.
التحليل الصوتي والفونولوجي:
النصوص تستخدم تكرار الأصوات وتنوعها لخلق تأثيرات موسيقية تعزز من الجو العام للنصوص.
الجناس:
أمثلة: “لمّا بعثتُ الطروس إلى أحد أمراء المغول وأنفذَها إلى بلاط الحاكم المغولي كتبتُ بيدي نكبة الجوينية.”
التحليل: الجناس يساهم في تعزيز إيقاع النصوص ويخلق تماسكًا صوتيًا يجعل القراءة أكثر سلاسة.
التكرار الصوتي:
أمثلة: “سرَتْ في الأرض كعصفةِ هواءٍ مرّتْ بي لتغادر وتختفي في آخر الطريق.”
التحليل: التكرار الصوتي يساعد في إبراز أهمية بعض الكلمات والجمل، ويعزز من التأثير النفسي على القارئ.
التحليل الأسلوبي
استخدام الأسلوب الأدبي:
الأسلوب الأدبي في النصوص يتميز بالوصف الدقيق واللغة الشعرية، مما يعزز من عمق النصوص وجماليتها.
الأسلوب الوصفي:
أمثلة: ” توقّف فيروز ونظراته معلّقة بمقبض الخنجر الأسود الذي يبرز من تحت حزام حسن، قال بنبرةٍ أكثر خفوتًا، وتوجسٍ ينسرب من مذارف نفسه: “ما هذا الخنجر الغريب يا حسن؟”
التحليل: الأسلوب الوصفي يساهم في خلق صور ذهنية غنية ومفصلة، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش داخل النص.
اللغة الشعرية:
أمثلة: “مع انحدار الشمس إلى المغيب نثرتْ السماءُ الضبابَ من جِرابها في الأفق بامتداد بساتين اللوز والفستق المُزهِرة وحقول القمح والأعشاب في سهل قزوين. يرخي الضباب ستاره شيئًا فشيئًا على الرؤوس الثلجية في قمم الجبال الأكثر علوًا من جبال الديلم، السلاسل الجبلية المهيبة الممتدة جنوب بحر قزوين”.
التحليل: اللغة الشعرية تعزز من جمال النصوص وتضفي عليها طابعًا فنيًا، مما يجعلها أكثر تأثيرًا وجاذبية.
خلاصة
جزئية “أطراس جوتيار الكُرديّ” من رواية الكاتب زياد مبارك جهنگشاي تمثل دراسة غنية في المفردات السيميائية والتركيب اللغوي. تحمل المفردات السيميائية المستخدمة في النصوص دلالات عميقة ومعقدة تعبر عن الصراعات النفسية والمشاعر الداخلية للشخصيات.
ويعتمد التركيب اللغوي على الجمل المركبة، النعوت، والتكرار الصوتي لخلق نصوص متشابكة ومعقدة تعكس تعقيدات الحياة البشرية. تقدم هذه النصوص “المباركيّة” تجربة قراءة غنية تجمع بين الجمال الأدبي والعمق النفسي، وتعبر عن قدرة الكاتب مبارك على استخدام اللغة وأدواتها المختلفة بتمكن وبشكل فني وحرفيّ لنقل الأفكار والمشاعر المعقدة.
خاتمة
شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تحولاً جذرياً في الوظيفية التمثيلية للرواية العربية، والتي لم تعد مجرد مدونة نصية شفافة تعرض حكاية متخيلة فحسب. بل أصبحت، في كثير من نماذجها، أداة بحثية يمكن من خلالها استكشاف العالم، والتاريخ، والإنسان، وتفحص الكيفية التي تتشكل بها المادة السردية، وطرائق تركيبها، وأساليب السرد المختلفة. هذه التحولات لم تقتصر فقط على الشكل والمضمون، بل امتدت إلى الرؤى التي تنبثق منها كل عناصر البناء الفني، والإحالات التمثيلية للنصوص التي تتعدد فيها مستويات التأويل، مما يؤكد على اشتباك السرد مع العالم الذي يجري تمثيله.
بمعنى آخر إن هذه التحولات تعكس اشتباك السرد مع العالم الذي يجري تمثيله من خلال السرد التاريخي، والديني، والثقافي، والأدبي، تقوم المجتمعات بتشكيل صورة عن نفسها، وعن تاريخها، وقيمها، وموقعها في العالم. ولكي ينجح السرد في تحقيق هذا الهدف، يجب أن يراعي “الفصاحة” والدقة في التعبير.
في هذا السياق، تلعب الرواية دوراً حيوياً في تشكيل صورة المجتمعات عن نفسها وعن تاريخها وقيمها وموقعها في العالم. من خلال السرود التاريخية، والدينية، والثقافية، والأدبية، تقدم الرواية مرآة تعكس هوية المجتمع وتطلعاته وتحولاته. ولعل نجاح السرد في هذه المهمة يتطلب مراعاة الفصاحة والدقة في التعبير، إلى جانب العمق في التحليل والابتكار في البناء السردي.
بهذا الشكل، يمكن القول إن الرواية العربية الحديثة قد تجاوزت كونها مجرد وسيلة للترفيه أو سرد القصص، لتصبح وسيلة فعالة لفهم الواقع وتحليله، وللتأثير في المجتمع والتاريخ. ومع استمرار تطور هذا النوع الأدبي، يتوقع أن تستمر الرواية العربية في تقديم مساهمات مهمة ومؤثرة في الأدب العالمي، مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والفنية.
في هذا العصر استطاعت الرواية أن تعبر الحدود الجغرافية والثقافية، لتنصب نفسها، إن صح التعبير، وسيطًا عالميًا يمكن من خلاله نقل التجارب الإنسانية المشتركة. فالروايات العظيمة، سواء كانت عربية أو عالمية، تمتلك القدرة على مخاطبة القارئ أينما كان، لأنها تعبر عن مشاعر وتجارب إنسانية عامة.
على سبيل المثال، رواية “جهنگشاي” للكاتب زياد مبارك، ورغم أنها متجذرة في الثقافة الإيلخانية المغول-فارسية، إلا أنها قادرة أن تلقى صدى واسعًا على مستوى العالم بسبب مواضيعها الإنسانية العميقة. متمنين للمؤلف كل التوفيق والنجاح في مسيرته الأدبية، ولكل مجتهد نصيب.
تعليق واحد