آراءأفريقيا

الجزائر.. بين رمزية مكة الثوار وحقيقة سجن للمظلومين

خاضت الجزائر حربا استفزازية قصيرة ضد الجيش الملكي المغربي، لاختبار صبر وقوة تحمل بلد جار..

تكتسي العلاقات الجزائرية المغربية أهمية بالغة لدى الرأي العام، بسبب ارتباطها ارتباطا وثيقا بالسباق المحموم حول الريادة الإقليمية بشمال إفريقيا والرغبة في التأثير على دول القارة السمراء، وفي فضاءات أوسع أصبحت ساحات وغى، لحشد التأييد لمشروع المملكة المغربية القاضي بمنح أقاليمها الجنوبية حكما ذاتيا لتدبير شؤونهم بأنفسهم، كحل نهائي لنزاع ترابي دام خمسة عقود، ومحاولات حثيثة لفرملة تلك الجهود دون حيازة الغريم الجزائري على منفذ بحري لتسويق منتجاته بأقل تكلفة، وتقليم أظافر جاره الشمالي عسكريا واقتصاديا لفرض نوع من التبعية، لن تخدم مصالحه في الغالب.

إن تعامل المغرب الحذر مع ما تطلقه السلطات الجزائرية من أقصاف إعلامية قصد الإساءة، ومحاولة تقديمه كنموذج سياسي غير مرغوب فيه قاريا ودوليا، دون إشباع حاجتنا لمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذا العداء الكامن بين البلدين المغاربيين الكبيرين في المنطقة، يترك فراغات بيضاء في علاقة بتقييم تاريخ علاقات التعاون بينهما واستشراف إمكانيات إعادة التواصل المنقطع بفعل تعنت الجزائر، وبحثها المستمر لتصيد أخطاء المغرب ونعته بالعدو في أكثر من سياق.

فأمام إحساس السلطات المغربية بكون الجزائر جزءا من الجغرافيا السياسية للمنطقة، وبحتمية وضرورة تحسين العلاقات الجزائرية المغربية، لإحداث نقلة على مستوى التكامل المغاربي، وتسريع العمل التعاوني بين بلدان المنطقة، لتحقيق حلم اتحاد المغرب العربي، والاستجابة لتطلعات شعوبه بالالتقاء والرفاه والازدهار، لا يتورع النظام الجزائري عن إطلاق فقاعات بمناسبة أو بغيرها لاستفزاز المغاربة ومحاولة إحراجهم في علاقة بوحدتهم حول ملف مصيري لا يرى فيه المغرب سوى تأكيد سيادته على أقاليمه الجنوبية، بينما تستمر الجزائر في معاكسة هذا التوجه تحت ذريعة تشبثها بدعم الحركات التحررية ورغبتها في الوقوف إلى جانب الصحراويين لتقرير مصيرهم في الظاهر، والحصول على مكاسب على الأرض، أدناها تملك واجهة بحرية على المحيط الأطلسي لتصدير مواره الطبيعية للخارج.

يطرح تعامل دولة الجزائر مع إكراهات الوضع الداخلي المأزوم، وتفاعلها مع محيطها الإقليمي والدولي أكثر من سؤال، بشأن سياستها وطرق تفكيرها وتدخلاتها، إن كان الامر يرتبط بنظام قرارات استراتيجية أم نظام أشخاص. فالمتتبع لخرجات الرئيس تبون، يدرك تماما أن رسائله، ليست مواقف دولة تدعي دمقرطة هياكلها وشفافية مستويات اتخاذ قرارها، وإن محاولات انتقامية يائسة للإيقاع بالمغرب وحكامه في مشاكل مهما علا أو صغر حجمها، وذلك راجع حسب المتتبعين لحالة ذهنية مريضة، تمتحي من الإحساس بمشاعر الهزيمة اتجاه المغرب في أكثر من موقف.

خاضت الجزائر حربا استفزازية قصيرة ضد الجيش الملكي المغربي، لاختبار صبر وقوة تحمل بلد جار، لم يدخر جهدا في دعم وإسناد حركة تحررية عانت ويلات الاستعمار لما يقارب المائة وثلاثون سنة، كادت معها فرنسا أن تمحو أثر الإسلام والعربية والأصول الامازيغية للجزائريين، ناهيك عن امتناعه المطلق لبحث مسألة الحدود، انتصارا لإخوتهم الجزائريين في مسارهم التحرري، ناهيك عن الاحتضان غير المشروط لقادة جبهة التحرر الوطني، حتى أصبح من الصعب الحديث عن قادة الجزائر، دون ذكرى محطات مشرقة بالمغرب ساهمت في شد عضدهم السياسي والجهادي لمواجهة همجية الغزاة الفرنسيين..

لم تستطع أحقاد قادة الجزائر في إيقاف مسيرة المغرب لاسترجاع اقاليمه الجنوبية بالرغم من احتواء ودعم جبهة البوليساريو الانفصالية لعقود، قصد شغل جارها الشمالي عن مجابهة الإشكالات المرتبطة بالبناء الديمقراطي للمؤسسات ومكافحة معضلة الفقر، والتأسيس لتنمية مستدامة تضمن العيش بكرامة على قدم المساواة بين مواطنية بما يشمل سكان الصحراء.

وقد يتساءل المرء، كيف لنظام سياسي تصالح مع ماضيه وأسس لانتقال ديمقراطي سلس وإصلاح مؤسساتي عميق، تحذوه رغبة راسخة في إقامة علاقات سياسية وديبلوماسية طيبة مع جاره الجنوبي، ويقابل غير ما مرة بالجفاء والنكران؟ وفي هذا الصدد، لا نبحث عن تقديم فرضيات لهذا السلوك غير الناضج لدولة كبيرة كالجزائر، قد تختار سياساتها وعلاقاتها الديبلوماسية بعناية وانتقائية فائقة، غير انها غير مخيرة في اختيار موقعها الجغرافي، أو في تشابك وتداخل أواصر الدم والقرابة العريقة بين الشعبين الجزائري والمغربي، وكذا ما ورثه المجاهدون الجزائريون من الدعم والإسناد اللوجستي والمالي والسياسي والحشد على أكثر من صعيد، بل نتساءل كيف للجزائر التنكر لكل ذلك، مقدمة نموذجها كمكة للثوار بمنطق جهيمان العتيبي؟

قد لا يستسيغ البعض هذه المقاربة النقدية لموقف الجزائر إزاء المملكة المغربية، ويعتبره تحيزا واضحا للطرح المغربي، لكن الأكيد ان تناول موضوع العلاقات المغربية الجزائرية دائما ما تحكمه الخلفيات السياسية العقيمة، التي لا تستجلي الحقائق لبناء مواقف واضحة وقوية من اجل البناء، بالإضافة الى موقف كل طرف نزاع الصحراء.

ونحن في هذا الصدد نحاول بسط حقائق مرتبطة بحالة العداء المستحكم بين الطرفين، من موقع كوننا متضررين من استدامة هذا الصراع الأحمق، فلا تركت للصحراويين القاطنين بالمخيمات حرية الاختيار بين الرجوع الى أرضهم ولم شملهم بعوائلهم، ولا هم قادرون على اختيار أمكان أخرى، لافتقارهم لمركز قانوني يضمن ذلك، ولا نحن بالأقاليم الجنوبية نستطيع التمتع بما تحقق من تنمية، في غياب أفراد أسرنا المحتجزين في الضفة الأخرى.

إن التسويق لمكية الجزائر، في علاقة باستقبالها للثوار الطامحين إلى التحرر من مختلف بقاع العالم، يتعارض كليا مع الطبيعة العسكرية القمعية للنظام، لأنه من غير الطبيعي، فتح المجال لكل جهة تدعي النضال التحرري، وكتم أنفاس الشعب وقمعه وإسكات الأصوات المعارضة في ان واحد. فعمليات قتل واختطاف واعتقال المعارضين والصحفيين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان بشكل يومي، تتعارض مع شعارات الطهرانية الثورية ومساندة المظلومين التي تروج لها السلطات الجزائرية، كلما ضاق عليها الخناق.

ولعل من أشهر التناقضات غموضا في تاريخ النضال السياسي الجزائري الحاكم، احتضان مخيمات منذ سبعينيات القرن الماضي، دون إبداء إرادة في احترام تطلعاتهم في الاختيار، وحجب حقوقهم المكفولة بموجب القانون الدولي، والمتعلقة أساسا بالإحصاء وتحديد وضعهم القانوني امتثالا لمقتضيات الاتفاقية الدولية لوضع اللاجئين، وتفويت ولاية البلد المضيف للمخيمات القانونية والقضائية والتدبيرية لتنظيم عسكري، ارتكب من الانتهاكات الجسيمة ضد محتجزيه من الصحراويين بالمخيمات، ما لم ترتكبه مجموع “الحركة التحررية” في العصر الحديث.

فمحاولات حجب رغبة الجزائريين في إعادة علاقات حسن جوار مع إخوتهم المغاربة، يعد بمثابة اغتيال لإرادتهم ومقتنعين من خوفهم من المستقبل، لمكابرة حكامهم في زيادة التوتر بالمنطقة، وسلب خيراتهم وتفقيرهم لضمان تبعيتهم ومحاولات عسكر المرادية خلق عدو خارجي لفرض حالة الاستثناء وتفويت أية فرصة لتنمية الفضاء المدني الجزائري الزاخر بالكفاءات، والتي لم يترك لها الفرصة قط لإبداء رأيها بشأن نزاع الصحراء، نظرا لحالة التخويف العام بالبلاد من طرق تلك القضية نظرا لطابها الحصري للعسكر.

وقد لا نقطع اليأس بتهييئ الظروف لاستنبات أمل لمستقبل مشرق لبناء مغرب الشعوب، غير أن غيوم القمع وشدة وطأة العسكر على المجال السياسي والمدني، ما زالت تنبأ بفصول من المواجهة الحامية الوطيس بين تطلع الشعب الجزائري إلى نظام ديمقراطي حامي للحقوق وبين جيوب مقاومة لأي تغيير قد يرهن استفادة العسكر وحفنة من السياسيين الفاسدين من مقدرات البلد إلى ما لا نهاية.

فالاختيار بين محاولات فرض استمرار التغني بالثورة وتقديس مخرجاتها التي لم تعد قط بالخير العميم على الشعب الجزائري، وتكفير من ينتقدها من جهة ومن جهة ثانية الانخراط في التغيير الجذري لواقع الشعب القاسي، قد يفسر باستمرار الخوف من ردة فعل السلطة غير المتوقع، والتي لن تتورع عن إجهاض أية محاولة للتغيير، قصد فرض الأمر الواقع، ناهيك عن خوف العسكر من أن أي نهاية لقضية الصحراء، قد تعجل برميهم في غياهب السجون، لأن ركام حرب الصحراء واستماتة النظام في احتضانهم عسكريا وسياسيا، تعد خيط النجاة الوحيد الذي ما زال الساسة يتعلقون به، قبل هبوب العاصفة الكبرى.

https://anbaaexpress.ma/fdlx1

عبد الوهاب الكاين

رئيس منظمة أفريكا ووتش Africa Watch كاتب صحفي وباحث في حقوق الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى