لا يهمّ التمظهر السوسيو-ثقافي للطّقس، فأهميته في تشكّل وديمومة الرّمزي فائقة لا يشكّ فيها أنثربولوجي قطّ، لكن مرّة أخرى، ماذا يعني الاحتفاء بحدث تاريخي استثنائي، مثل مقتل الحسين بن علي، وهي لم تقف عند هذا الحد، بل رافقتها إبادة لمعسكر أعزل سوى من ميراث الفروسية والكرامة والشّرف.
فلمّا أصبحت كتابة التّاريخ مسألة قسرية وصناعة للمُتغلّب، احتضنت الشعوب الحدث في قوالب تعبيرية رمزية، وتخطّت به كلّ تقنيات الحجب والنسيان.
مجرم الحرب يزيد، سيُحوّل جيشا كاملا مجهزا لقتال أهل الديلم ، ليبيد به أنبل بيوت العرب. كان يزيد وفي تحالف مع بقايا البزنطيين وقوى المصالح قد جندوا فراقشة العرب في هذه الحرب الجبانة، يكفي بروفايل الفرقوش المجرم الشّمر بن ذي الجوشن، لتعرف طبيعة باقي المعسكر.
تفجّر الحدث في سائر الكتابات التّاريخية حين تخفّف ضغط الأموي، وظهرت معه تأويلات عجزت عن تأويل الجريمة تهرّبا من المسؤولية التّاريخية وإفلاتا من العقاب.
السردية التي تشكلت في سياق هذا التأويل، تراهن على فكرة النسيان واستعارة المفاهيم المغالطة للإلتفاف على حدث ليس قابلا للنسيان، لأنّ تبعاته هي من تحكمت في مسار تاريخي أحدث شرخا في الاجتماع الإسلامي. فالعالم الإسلامي ما بعد عاشوراء ليس هو العالم الإسلامي قبله. لماذا الخوف من التصالح مع الذّاكرة؟
انتصر الحدث على تأويله وفق السردية الأموية، كون الإمام الحسين لم يأت ما به تتحقق مقاصد الدين والدنيا.
تفادى ابن خلدون الوقوف عند الحدث، وأعطى الحق الكامل لمبدئية الموقف الحسيني، لكنه غلطه باعتبار أنّ الشوكة لم تعد لذويه، مؤرخون آخرون فصّلوا في الحادث، كالطبري والمسعودي واليعقوبي وغيرهم، وهالهم المشهد.
ابن تيمية لم ير في خروجه مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، والحقيقة هي أنّ الحسين اضطر لذلك غير باغ ولا عاد، ولكنه هزم السردية المتغلبة هزيمة تاريخية، كما أنّ المقاصد الذي يتحدث عنها الحرّاني، تشبه المقاصد الرخوة لسرّاق الله في كلّ جيل، فالحرّاني تجاسر وتعالم على إمام من البيت النبوي، لكن فقه التّغلّب تمادى بوقاحة، ليُهوِّن من الحدث الكبير، وما هو الخطير بعد الفاجعة؟وما هي إذن مقاصد النّسيان؟
أي معنى للإصلاح إن أغمطنا حقّ الحسين بالصدع بالحقّ؛ فهذا الأخير التزم شروط الصلح مع أخيه، ولم يخرج إلاّ بعد أن ركز يزيد اللعين بين السلة والذّلة، لقد كان مقتلا لرموز الدّعوة، فماذا تبقّى يا ترى؟ وأي دعوة سيستقيم عودها بعد فاجعة نينوى؟ تريدني أن أنسى حسينا، وأذكر سرديات تاريخ الغُلب وبطولات الفراقشة وأقاصيص سيباستوبول؟
تطوّر الطقس العاشورائي بعد المصيبة وتراكمت صور التعبير عن الأحزان، وتكررت المآسي كمأساة فخّ نفسها التي نعاها الشاعر دعبل الخزاعي:
قبور بكوفان وأخرى بطيبة
وأخرى بفخ نالها صلوات
وقُتل بعدها الحسين الفخي، وما نجا إلاّ قليل، وأمّا عبد الله المحض، فقد هدم السفاح عليه ومن معه سقف السجن، وقد نجى يحيى وإدريس من فخّ، وها هم المسكونون بآلام كربلاء وفخّ يأتون هنا، هنا بأوربة لينشؤوا دولة قطعت مع المشرق العباسي منذ ذلك العهد، أوّل حكومة بالعاصمة أوربة من زرهون المحروسة مناكفة لهارون الرّشيد.
وسيتمكّن هارون من سمّ المولى ادريس بخدعة من مبعوثه ابن جرير الشّماخ، وسيلاحقه المولى رشيد الأمازيغي من أوربة ويقضي عليه، وهو من صفوة فرسان أوربة، والذي أتى بإدريس من الشرق، وكان عينا لحاكم وليلي – أكبر حاضرة رومانية خارج روما – حميد بن إسحاق الاورابي، الذي تنازل إدريس بن عبد الله على الحكم ليبدأ مشوار الدّولة الإسلامية الأولى بالمغرب.
هل يا ترى تنازل عن الحكم أم إنها استراتيجيا فائقة؟
الأورابي كان وفيّا لقومه، وكان يتواصل مع المولى رشيد لإنجاز مهمّة كسر شرعية العباسيين لتحقيق الاستقلال.
لقد جاء في الأخبار أنّ الأورابي قال بأنّ بلاء ادريس ويحيى والحسين الفخي في فخ كانت تصلهم عبر عيونهم داخل مواكب الحجيج. لم يكن الأمر جزافيا بل مخططا قاده المولى رشيد، وهو شخصية استثنائية لم تُسلط عليه الأضواء بشكل تفصيلي.
فلقد جاء بالمولى ادريس إلى طنجة، ولكن عدم التحقيق سيذهب بالكثيرين، وليس آخرهم د.محمود إسماعيل، للحديث عن هجرة لطنجة ثم الى زرهون، يجهل هؤلاء كما لم أفتأ أوضّح، بأنّ طنجة كانت تطلق على كل هذه المناطق وصولا إلى زرهون، بل إنّ طنجة ومورياتيا الطنجية هي الإسم الذي أطلق على المغرب حسب التقسيم الإداري الروماني. فلقد جاؤوا مباشرة عبر شرق المغرب إلى وليلي.
وعليه، فهؤلاء حملوا ألام الحسين معهم، وحزنوا للمصاب، فكان الحدث الحسيني قد ترك آثاره على مجريات التاريخ الإسلامي مغربا ومشرقا.
كان للحزن موسم في البيت الهاشمي، وكانت للحسين حرارة لم تبرد أبدا، وكانت رمزية الحدث تتجاوز كلّ الحسابات، فحركة التّوابين التي لاحقت بعد ذلك مجرمي الحرب اليزيدي، كما هي حركة المختار الثقفي، الفارس الذي تحمل مهمة ملاحقة مجرمي الحرب حتى تقوّل فيه المرجفون. حمل أحفاد التوابين طقس الأحزان الذي لا زال يتطوّر دون أن يفقد الجوهر، لأنّ الذين يعبرون عن الحزن، هم على إلمام ووعي تاريخي بالحدث.
يوم عاشوراء هو يوم حزين، ولا علاقة له بالتأريخ ليوم نجاة موسى، لأنها سردية غريبة لا من حيث صحة الإخبار ولا من حيث التأريخ لحدث جرى ما قبل الميلاد وما قبل التاريخ الهجري، فما هي هذه الدقة في التاريخ؟ ولم ينقل لنا أنّ هذا يوم احتفى به جمهور صاحب الدعوة، واذن هي التقاليد التي سارت بها قرون. ولا غرو أنّ الحدث البارز في هذا اليوم هو استشهاد سيد الشهداء، ذلك الذي نادى في القوم وهم يصقلون سيوفهم لنحره: إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون. قلت:
حزنك أبا عبد الله
طريّ سائل
يسكن بين الضلوع
يقضّ المحاجر
والمآقي حرّى
والقلوب
وفاء عارم يتمادى
يتخطّى الآفاق
يؤلم من رأى
واستهتر بالمُصاب
مأتم أولاد فاطمة
وبيت الأحزان
للحسين في خاطري
مأتم أبديّ
قضّ المُصاب مضجعي
ماذا دهاك
تتقوّل في المأتم ؟
إن نسيتُ حسينا
سأنسى كلّ مصاب
أأنسى غ..زّ..ة؟!
انس قدر هروبك
فلن أنسى
لا، أبدا
لن أنسى حسينا..
خذوا الدنيا بكلكلها
واتركوا لي حسينا
دعوني أحزن بسلام..
فالسلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد من زيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أصحاب الحسين.