ثقافةمجتمع

لحلو يحاكم واقعا مختلا من خلال مسرحية “محاكمة سقراط” ونجوم جدد يتألقون

تألق نبيل لحلو في إبداع مسرحي ذي كثافة رمزية عالية، من خلال مسرحيته “ماشا مشمشة.. محاكمة سقراط”، التي أخرج نصها الفرنسي لأول مرة سنة 1996، وعرضت بعد ما يقرب العقدين، ليومين متتاليين مؤخرا بمسرح محمد الخامس بالرباط دون أن تفقد طراوتها ودفئها، بل ليزيدها الانتقال من اللسان الفرنسي إلى اللسان العربي، طراوة وماء حياة..

بل أعتبر مسرحية “ماشا مشمشة” في ثوبها العربي الجديد تشكل تجربة ثورية لا في مسار ما راكمه نبيل لحلو نفسه ولا في منتوج المسرح المغربي عامة، بما احتوته من روح تجريبية جديدة أو في مجال الإخراج وباقي مكونات السينوغرافيا، من موسيقى، وإنارة وصوت الذي أشرفت عليه بتقنية عالية ومبدعة كلا من ماريا كنزي لحلو ورضا زنيبر..

يتكئ نص نبيل لحلو على أول محاكمة رأي في العالم، محاكمة سقراط الشهيرة كما خلدها أفلاطون في محاورة “فيدون”، المشهورة بخلود النفس، التي كتبها على لسان أستاذه سقراط والتي تحكي لنا أخطر لحظة في تاريخ الفلسفة، المتمثلة في آخر حوارات سقراط مع مريديه، قبل أن يتجرع السم ولا يقبل الهروب من العدالة حتى ولو كانت ظالمة احتراما لروح القانون.

وهي ذات اللحظة التي التقطتها ببراعة ريشة الرسام الفرنسي جاك لوي ديفيد عام 1787 في لوحته الشهيرة “موت سقراط” التي رسمت مشهد تنفيذ هذا الفيلسوف الأثيني حكم إعدام نفسه بتناول السم، مع ما في المشهد من مأساة حلّت بسقراط وحزن أصاب تلاميذه، مأساة موت “سقراط المسموم” ستتكرر في أكثر من مشهد عبر التراث الكوني.

فقد تم إحياؤها في التراث المسيحي عبر صلب المسيح، لذلك قال فولتير: “إن المسيح هو سقراط فلسطين”، أو من خلال العديد من المتنورين والمناضلين المتشبثين بقناعاتهم حتى آخر رمق، والذين فضلوا الموت، لسبب من الأسباب المرتبطة بالموقف وعدم تغيير تصوراتهم وقبلوا بشرب السم، أستحضر الزرقطوني كعلامة بارزة في الزمن المغربي المعاصر.. فيما يستحضر النص المسرحي لنبيل لحلو أسماء عديدة، مثل بن بركة وعمر بن جلون على سبيل المثال لا الحصر..

برغم طول زمن عرض النص المسرحي، حوالي ساعتين وعشرين دقيقة، لم نحس بالملل، يشعرك نبيل لحلو في هذا العرض المبهج، أن المسرح ليس مجرد عرض أو فرجة، ليس مجرد فضاء تدخله لتخرج متطهرا، بل هو الحياة عينها، بكافة تناقضاتها، بتنازع قوى الشر مع قوى الخير، بوجود بنى ورؤى تخترق العالم بين الضوء والعتمة، بين السلطة والحرية، بين الفكر المنفتح وقوى الظلام الزاحفة بألف قناع..

ينفتح النص المسرحي على عرض تلفزيوني يعلن عن مسابقة لاختيار ممثلين لفيلم “محاكمة سقراط” الذي يخرجه المخرج السينمائي الكبير فريد حوطا، تعرض مقدمة الأخبار الأسئلة المعروضة على الممتحنين المفترضين، ويبدأ “الكاستينغ”، والمخرج بهيبته وعكازه ولغته العالمة، يبدو مثل حارس معبد المسرح والسينما، لا يسمح بالرداءة، عليه أن يختار من يؤدي أدوار شخوصه في سيناريو حالم حول “محاكمة سقراط” التي ستتحول طيلة العرض المسرحي إلى محاكمة للتفاهة والرداءة والظلم والاستبداد والاستغلال..

كل واحد من الشخصيات التي تتقدم لعملية الانتقاء، له أحلامه وإحباطاته وأوهامه، واحد يأتي من فضاء ورزازات، له أوهام حول الأدوار الصامتة التي كان يؤديها في أعمال سينمائية كبرى، به سمة للتحدي، حتى أن اسمه الفردوسي، الحالم بالنعيم رفقة خليلته، التي تطمح إلى النجومية والثراء والتي دخلت عالم الإشهار بإغراءاته الوفيرة، وإن قبضت فقط نصف المبلغ الذي أمضت على عقده.. والشابة التي تأتي هلوعة مرتجفة في “قشابة” أختها الصغيرة على جسدها، ترتدي نظارة لتخفي باقي الخيبات والسواد الذي يعم لاعدالة الكون، تخفي حرقة ومواجع وآمالا كبرى، وتحمل موهبة حقيقية داخلها تؤهلها لدور أن ترقص أمام الآلهة..

تنقسم الخشبة إلى فضاءات متعددة، الشارع العام الذي أبدع نبيل لحلو في جعله متحركا خاصة لحظة عرض سيارة الليموزين التي تدل على تحول معشوقة الفنان الراعي القادم من ورزازات، ثم منزل المخرج السينمائي الكبير فريد حوطة رفقة معشوقته ماشا مشيميشة ذات الحضور الفني المبهج والتي انتهى بها المطاف إلى فقدان الذاكرة والخضوع لعلاج تبرز من خلاله دوما أنها في حالة مخاصمة الواقع والحنين إلى أمجادها في الماضي للعب دور يعيدها إلى شاشة السينما، خاصة وقد عرض عليها مخرج مغمور لعب دور أساسي في مشروع فيلمه، ثم باقي المؤثثات: فضاء المكتب، البار الذي فرغت قنينات خموره، التلفزيون ثم محل عرض الممثلين لحظة اختبارهم للتمثيل في فيلم يحلم به الكاتب الكبير فريد حوطا ليحدث ثورة في مساره السينفلي.

يتوالى شبان وشابات على خشبة المسرح لعرض موهبتهم أمام المخرج السينمائي، وتجري حوارات بين من يعتلي المسرح وبين المخرج فريد حوطا كاتب السيناريو الكبير الجالس بين الجمهور، حول دور الممثل ومفهوم التمثيل ووظيفة المسرح، وقيم إنسانية كبرى من حرية وعدالة وحب.. أحسست حقا وأنا أتتبع أداء مختلف الممثلين، أننا أمام جيل جديد من الممثلين المبهجين، عبروا عن موهبة جليلة: عثمان جنان، إضافة إلى الفنان الشعلة نصر ميكري ابن المغني والملحن الشهير حسن ميكري، الذي يخوض أولى تجاربه في عالم التمثيل.. كلهم عبروا عن موهبة عالية وطاقات واعدة في التمثيل.

ولكني لا بد أن أشير إلى الأداء المبهر لتلميذتين لا تزالان تدرسان في الثانوي في السنة الأولى بمعهد نون لام لتكوين الممثل، ويتعلق الأمر بيسرا القادري ذات 16 سنة، وزميلتها هبة الأحرش (17 سنة)، شعلتان متقدتان من البدل والعطاء على خشبة الركح، إنهما لا تمثلان بل تشخصان، لا خيط رقيق يفصل الشخصية عن الممثلة، توأمان في واحد، إيقاع صوت وإشارات جسد وتماهي كلي مع الشخصيات المسرحية.

أما صوفيا هادي التي شاركت في بطولة مسرحية “محاكمة سقراط” تحت اسم الممثلة الشهيرة “ماشة مشيميشة” التي بعد حادثة سير هي أيضا تجسد شكلا من أشكال الظلم الاجتماعي والقدري أيضا، مما يبعدها عن الشاشة ويدخلها في حالة مرضية بعيدة عن الصحو، فتظل أيقونة باذخة الثراء بأدائها المبهر الذي يتجدد في كل دور أو أداء، في حركاتها، في شكل لباسها وفي إيماءتها..

نجحت صوفيا هادي في أن تغذو سيدة الخشبة، وأبدعت وهي تؤدي دور الكرسي الذي يدخل في حالة بوح مثل الشمعة في قصيدة الملحون الشهيرة، الكرسي على لسانها وأدائها يصبح ناطقا، يجتر تاريخا من الأحزان والانهيارات، يحكي عن آلامه وآماله، عن أحزانه وهمومه، وهو الذي يعتبر تجسيدا للسلطة وبؤرة الصراع عليها. أو في مشهد جميل حين نكتشفها في شاشة التلفزيون وهي تحاول التدرب على دورها في الفيلم الذي أبدعه شاب مغمور، حيث يرتفع الإيقاع الدرامي حين فشلت في استعادة نص الدور، فتمزق الشاشة وتخرج منها كأنها تنط من حالة رمزية إلى واقع إحباطها ومرضها..

أبدع نبيل لحلو في مسرحية “محاكمة سقراط”، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة، بين الماضي الذي كانت عليها “ماشة مشيميشة”، من ممثلة كبيرة تستعيد لحظة التقائها بالمخرج السينمائي فريد حوطا، وبين الحالة المزرية التي أصبحت عليها منذ حادثة سير، ثم ينجح العرض المسرحي في الانتقال من فضاء إلى فضاء آخر دون أي لحظة صمت أو مساحة بياض، والأجمل هو الحوار الذي يجري بين خشبة المسرح.

حيث المخرج رفقة معشوقته يتحدثان عن الفيلم الذي يحلم به، وبين مشهد حوار سقراط مع تلميذه كريطون حول شرب السم الذي تجرعه ضاربا بعرض الحائط العرض الذي قدمه له تلاميذه لتهريبه وإنقاذه من الموت، لكنه لإيمانه بأنه يجب ألا نهرب من العدالة حتى لو كانت غير عادلة فضل الموت بالسم. أي الموت عن قناعة ومبدأ وجودي برغم الظلم الذي شهدته محاكمة سقراط.

https://anbaaexpress.ma/zd8jt

عبد العزيز كوكاس

إعلامي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى