آراءثقافة

جدلية عاشوراء وكربلاء

علينا إذن في محرم أن نحيي فرحة الحرية ونبكي لمصرع الحسين..

يوم عجيب في التاريخ العاشر 10 من محرم يصدف أمرين الأول في المدينة المنورة حين قدمها نبي الرحمة (ص) فسأل من حوله مابال اليهود اليوم يحتفلون ويفرحون؟ قالوا إنه يوم خروج بني إسرائيل من نير العبودية إلى فضاء الحرية! يعقب رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم على الحدث إنه يوم نحن أولى به منهم فلنصم لذكرى هذا اليوم الرائع. في نفس التاريخ وفي 10 محرم بعد ستين عاما يتم قتل حفيد الرسول (ص) في معركة كربلاء عام 680 ميلادية في كارثة ندفع ثمنها حتى اليوم، كما في كارثة عبد الناصر في معركة الخامس من يونيو 1967م التي يدفع العرب ثمنها حتى اليوم.

أما عاشوراء الأولى فهي مصدر فرح كبير للانعتاق من نير العبودية إلى الصحراء والحرية والشمس. وهي قصة مروية بعناية ودقة في سورة الأعراف.

وأما كارثة الحسين عليه السلام فهي مصيبة لأي مسلم، فلا يجوز قتل مؤمن عمدا بأي صورة من الصورة، فكيف بحفيد مؤسس الإسلام، وهو إن دل على شيء فهو العقلية الجاهلية القبلية تنبعث مجددا. وهو انقلاب كامل عن قيم الإسلام الجوهرية.

علينا إذن في محرم أن نحيي فرحة الحرية ونبكي لمصرع الحسين.

ولكن كل المشكلة هي أن القصة الأولى غيبت والثانية لم تنته، بل مازلنا ندفع ديونها مع الفوائد المركبة، وتوظف في دهاليز وظلمات الغرف السرية للسياسيين، فتحرض مشاعر الكراهية والانتقام، ولايرضى الحسين عن ذلك قطعا.

لقد أصبحت طقوسا مريعة بتعذيب النفس بالسلاسل والسواطير حتى يسيل الدم من الطرفين تحت شعار يالثارات الحسين، فيقتل الأطفال السوريين في غوطة دمشق وفي الموصل تحت دعوى أنهم أولاد يزيد، والحسين قد أصبح في ذمة التاريخ تحت قوله تعالى تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولاتسألون عما كانوا يعملون.

وحين كانت الحرب الضروس لمدة ثماني سنوات عجاف بين العراق وإيران كان كل فريق يوظف الإيديولوجيا لخدمة حربه، فكان الإيرانيون يسمونها كربلاء وليس مرة واحدة بل تجاوزت نصف درزن، وكل صدام يسمي معاركه القادسية، والتاريخ يتفرج ضاحكا على الطرفين وسخف عقولهم ولكنه الجنون والإفلاس الأخلاقي والجريمة مجللة بالعار، فيقتل المسلم المسلم والله يقول ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعده له عذابا عظيما.

ومعنى هذا أننا متوقفون في مربع الزمن، وأن العقل مخطوف رهين في قبضة الإيديولوجيا إلى حين ولادة العقل المحرر من عقدة التاريخ. وفي الواقع فإن تيار التشيع الذي غذي برافد خطير بعد مصرع الحسين يجب تفكيك أصوله وهذا يعود إلى معركة صفين حين ولد تيار التشيع، كما شرحا بدقة موضوعية ابن خلدون قديما في مقدمته فيمكن مراجعتها بالتفصيل.

يرى مالك بن نبي أن معركة (صفين) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة، حقق فيها طرف انتصاراً على طرف، أو بالعكس، بل كانت (انعطافاً) في مسيرة الحضارة الإسلامية، و(انقلاباً) لسلّم القيَم. ويشهد لانقلاب (منظومة القيم) هذه قول عقيل ابن ابي طالب: “إن صلاتي خلف علي أقوم لديني، وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي”، في حين أن (منظومة القيَم) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ـ الأنعام: 162﴾؛ فهنا نلاحظ حدوث (فصام) في شخصية الإنسان المسلم.

وهذا الانشقاق المروع في عالم صفين أفرز ثلاثة عوالم: عالَماً عقلانياً، وآخر انتهازياً، وثالثاً دوغمائياً. العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج، والانتهازي يملك مقوَد التوجيه، والدوغمائي يدمّر نفسه ومَن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي.

وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرّب العنف، فيعجز عن حلّ مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي، الذي اتفق العالم الإسلامي كلّه على منحه هذا اللقب، فلم يعد (رشد) بعد الحكم الراشدي، بل تحوّل التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لا ينتهي من قنص السلطة الدموي، ففقدَ العالم الإسلامي الرشد، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي، وتحول إلى مذهب الغدر.

إذاً فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة، في أشبيلية أو بغداد، لم تدشَّن بهجوم خارجي، بل بتحلّل داخلي بالدرجة الأولى.

بدأ المرض منذ معركة (صفين)، فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم، وفي تلك الظروف المشبوهة كُتبت معظم ثقافتنا، فالكثير الكثير من الأفكار (القاتلة) و(الميتة) ما زالت تفعل فعلها فينا لأنها مختبئة تعمل في الظلام من خلال آليات (اللاوعي) الاجتماعية.

إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه (صعود وسقوط القوى العظمى) و(التحضير للقرن الواحد والعشرين) يؤرخ لـ (المعجزة الأوروبية) التي أمسكت بمقود التاريخ في مدى القرون الفارطة، ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغطّ في أحلام وردية على رقصات (الدراويش) وقصص ألف ليلة وليلة، فإذا قيل للسلطان العثماني إن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على ما يحدث، كان يجيب: سلطان المسلمين لا يدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً!!

وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب، وهذا الليل كان (منظومة الأفكار) بالدرجة الأولى، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار، ونظم معين من (العقلية) المتشكّل.

إذا كان (طنين الذبابة) عند أذن ديكارت أوحى له بـ(الهندسة التحليلية) في مجالس (مارين ميرسين) في بورت رويال في باريس، وسقوط (التفاحة) أوحت إلى نيوتن بقانون (الجاذبية)، وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة (قوة البخار)، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة (الكهرباء)، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه.

يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره (ص) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه (العلم)!! فلم يستطع الصحابي تصوّر ذلك، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرأه كل جيل، وينقله إلى الآخر، فأرشده (ص) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن بسبب العقل المتعطل، فلا يستفيد من أعظم الكنوز.

الحديث: “ذكر النبي (ص) شيئاً فقال: وذاك عند ذهاب العلم. قلنا يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك يا بن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة. أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟”. وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار (كمثل الحمار يحمل أسفاراً).

https://anbaaexpress.ma/xn146

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى