حال الثقافة والفن بالمغرب لا تعجب عدوا ولا حبيبا، بعد الصراعات الفكرية والإيديولوجية الراقية، وارتفاع الحس الفني حتى لدى البسطاء بسبب جودة المنتوج الإبداعي ومهنية الوسائط الإعلامية، وبعد عهد النجوم الكبار الذين نحتوا أسماءهم في عالم الثقافة والفن محليا ووطنيا وعربيا ودوليا، بمجهود خرافي وخلفوا كنوزا لا تفنى ومات العديد منهم فقراء الجيب أثرياء القلب..
اليوم يبدو كأننا – خارج أي نوستالجيا – نعيش عصر التفاهة وغياب حفظ الحميميات والصراعات الغرائزية المنحطة بين من يحرسون ذاكرة الأمة ويصنعون قيمها الروحية، وسرعة طفو النجوم التافهين الذي أصبحوا من كثرتهم لا نحفظ أسماءهم، فبالأحرى منتوجاتهم أو أغانيهم أو إبداعاتهم المتلبسة بالفن أو المقترفة للإبداع الثقافي، من خلافات صغرى لاتحاد كتاب المغرب وصلت درجة من الانحطاط غير المسبوق، حتى طوطو الذي تباهى بتناوله الحشيش ولا يمر حفل له دون أن يسمع جمهوره العاشق له وهم بالآلاف، الكلمات النابية المشينة، إلى هذه التفاهات التي تمطرنا بها وسائل إعلام مفترض فيها أنها جزء من أدوات التنشئة الاجتماعية تقدم خدمة عمومية رفيعة، هنا محاولة مناوشة في سيرة وجعنا الثقافي والفني..
يلاحظ كل متتبع للمشهد الثقافي والفني ببلادنا، الذي ليس استثناء ضمن بلدان العالم المعولم، كيف أننا منذ زمن غير بعيد، بدأنا نشهد تحولات عميقة في عالم الثقافة والفن وكل ما يتعلق بالإنتاج الرمزي، أبرز علامات الانحدار هو بعد الصراع الذي لم يعد فكريا ولا ثقافيا ولا إيديولوجيا، كما كان عليه الأمر حتى نهاية الألفية المنصرمة، حيث شهدت الساحة الثقافية صراعات كبيرة، بين أعمدة الفكر والإبداع المغربي، نتذكر الاختلافات الحادة بين محمد عابد الجابري وبنسالم حميش، ومحمد بنيس والراحل أحمد المجاطي، والحبابي والمنجرة وبنونة والعديدين، والنقاشات الجادة بين عبد الكريم غلاب وإدريس الناقوري والعديد من المبدعين والنقاد، وبين سينمائيين ومغنين ومبدعين في شتى الألوان، خلافات أدبية أو فنية أو مذهبية لم تكن تفسد في الغالب الأعم للود قضية..
كانت الصحافة الوطنية حقلا لها، لم يكن النقاش يتجاوز القضايا الثقافية أو الفنية موضوع الاختلاف الإبداعي أو الإيديولوجي بين مختلف الأطراف، لكن اليوم نجد أنه كلما نشب صراع بين مختلف الفنانين والمبدعين والمثقفين اتخذ شكل احتراب الديكة في حلبة مفتوحة على جمهور واسع، ينحو الطرفان المختلفان منحى غرائزيا نحو عملية الجب لما قبلهم أو إلى المباراة الصفرية بإنكار كل ما عدا منتوجاتهم كأنهم وحدهم الشعراء أو النقاد أو المغنين أو.. صراع هامشي لا تراعى فيه خصوصية ولا ذمة ولا تعفف ولا عرض، ما أن يبدأ الصراع على منصب أو مسؤولية أو يحدث احتكاك هنا وهناك حتى على ما تساقط من فتات دعم أو سفرية خارج المغرب، حتى يبدأ كل طرف في النبش في الحميميات ونشرها كأسرار على العموم.. ما معنى الحميمي اليوم، أو ما يسمى في الفلسفة بالحياة الباطنية، أي الجزء الخاص المحفوظ دوما في درج سري بعيد عن الأعين المتلصصة؟
في أشد أوقات الاختلاف والصراع بين السلطة والمؤسسات المضادة من أحزاب ومنظمات تميزت باكتساح الحركة الوطنية واليسارية بعدها لكل مجالات الفعل الاجتماعي والثقافي، ولا داخل مختلف المؤسسات الثقافية والفنية، ظل الجزء الشخصي والحميمي بعيدا عن دائرة الضوء، كان صراع شرف في ساحة مفتوحة زادها الرؤى وتباين الإيديولوجيات وتنوع التوجهات، وهو ما كان يمنح قضايانا الثقافية والفنية غنى وثراء به كانت تتغذى وتنمو.. اليوم لا مساحة خاصة للحميميات مع هيمنة مجتمع الفرجة وسيادة ثقافة الموبايل، لم يعد المتصارعون فقط من ينبشون في أسرار خصومهم، بل وصل الأمر إلى عائلات فنية اختلف أبناؤها، فبدأوا ينشرون غسيلهم الداخلي على الملأ..
في مؤتمر سابق لاتحاد الكتاب المغاربة، المؤسسة العتيدة التي ظلت منارة لكل المثقفين عبر أجيال، اختلف المتنافسون ليس حول قضايا فكرية وتوجهات ثقافية، ولكن حول من يحق له الوصول إلى القيادة أو عضوية المكتب المركزي وغيرها من القضايا التنظيمية التي أصبح لها ماكروها وفنانوها الذين يبدعون في تأويل القوانين الداخلية ويلوون عنقها لتأبيد أنفسهم وإقصاء معارضيهم، فقبل أن يصل الطرفان إلى الاحتكام إلى القانون.
لجأ البعض منهم إلى نشر أسرار أخلاقية حول بعضهم البعض على العموم، فساد أخلاقي بالأسماء وأرقام الغرف السرية وتهم بالخيانات والجنس والاختلاسات.. وأضعفوا مؤسسة رمزية كبيرة آوت الثقافة والمثقفين، وقل نفس الشيء عن جمعيات ومنظمات مهنية في هذا الفن أو ذاك، ومنشأ الصراع تافه وبسيط.. لا يتجاوز المناصب الصغرى والمنافع الذاتية على بخسها، إضافة إلى تربية الكبد على الكراسي والمسؤوليات.
إن ما حدث مؤخرا مع الرابور طوطو، ويجب أن تعلموا أنه اسم فني، بتصريحه أمام الملأ بأنه يتناول المخدرات، هذا عدا الكلمات الخاسرة التي كان يتلفظ بها الرابور الذي له الآلاف المؤلفة من المعجبين الشباب، وما حدث أكثر من مرة في العديد من المهرجانات الثقافية والفنية، لن يكون سوى حلقة من سلسلة طويلة إذ لسنا سوى في بداية هيمنة الرداءة وسيطرة التافهين.
في مقال ممتع للمفكر عبد السلام بنعبد العالي، يقول في سياق ما نتحدث عنه: “ما يفتأ “مجتمع الفرجة” يعرض علينا نماذج النجاحات السريعة، والأرباح السهلة، والانتصارات من غير كبير جهد. وهو يصعقنا من حين لآخر بالمبالغ المدوّخة التي حصل عليها هذا الرياضي أو ذاك الفنان، هذا فضلا عن حرصه الدائم على أن يُظهر لنا النجوم في المجالات جميعها وكأننا لا نختلف عنهم في شيء، ليردم الهوة بيننا وبينهم، ويقنعنا أن كل المسافات قريبة، وأنه يكفينا المشاركة في السباق، ما دام يوفّر لنا أسباب الانتصار، والتفوق السهل الدائم على الآخرين وعلى الذات”.
أصبحت النجومية اليوم متيسرة وسهلة المنال مع نشاط ماكينات إعلامية ضخمة غدت مختصة في الترويج للتفاهة ورعايتها تكبر بها وتضخم النجوم الجدد، تتذكرون الإكشوان الذي أصبح يستدعى لمهرجانات وطنية بصفة “الوجه الإعلامي والنجم الصاعد”، لكن الجميل هو أن هذه النجومية مثل فقاعات الصابون، تتذكرون نيبا وساري كول ومول الدلاحة ومول البطيخة ومول الكاسكيطة ومول البيكالة وسينا صاحبة الرقص والسينما والأغاني البدائية.. أينهم الآن؟
ما الذي جعل المثقفين والفنانين ينحدرون إلى هذا الدرك الأسفل؟ كيف وصلنا إلى كل هذا الانحدار في مجال يتعلق بروح الأمة وقيمها، أقصد الثقافة والفن؟
يعيد العديد من المثقفين هذا الانحدار العام في مجال الثقافة والفن إلى شيوع وسائط التواصل الاجتماعي ويسر الولوج إلى النشر، فيما يربط البعض هذا الصراع المتخلف الذي أصبح يسود الساحة الثقافية والفنية بسيادة ما سماه الشاعر ووزير الثقافة والاتصال السابق محمد الأشعري “ثقافة الهَمْزة” أي أن يكون أي فرد قادرا على أن يخطف شيئا من الحياة المشتركة، في حين يرد البعض هذا الانحطاط في النقاش الثقافي والفني بالمغرب، إلى تردي القيم وهيمنة الوصولية والانتفاعية غير النبيلة وسيادة نماذج النجاح السريع في كل المجالات من الرياضة إلى الفن والثقافة.
لم يعد المحامي المدافع عن الحق والمعلم الفاضل الذي يهب نفسه لصالح تلاميذه، ولا الصحافي النقي والمهني والطبيب الخدوم ولا الأستاذ العارف الذي لا يبخل بعلم على طلبته.. وغيرهم نماذج النجاح لدى شبابنا اليوم، بل هيمنة النماذج الناجحة للهجرة المترفة والقفز السريع حتى بدون كفاءة في سلم الترقي الاجتماعي داخل الدولة أو وسط الأحزاب والهيئات والمنظمات، إنه مجتمع الفرجة كما تحدث عنه كاي ديبور Guy Debord الذي ألف كتابا بنفس الاسم حول الموضوع.
كما أن سنوات من قمع المثقفين والنخب من طرف السلطة وجعلهم خداما وتابعين فقط لعربة السياسيين، وإقصاء رموز ثقافية وفنية كبرى من حقل الاهتمام الرسمي، وعدم مردوديتهم بالنسبة للسياسيين الباحثين عن المقاعد الانتخابية التي لا يأتي بها المثقفون عادة في مجتمع متخلف، فرضت على الجزء الأكبر من المثقفين والفنانين الجادين الانزواء إلى الظل، وتكيف بعضهم مع الموجات الجديدة، بينما انخرط آخرون منهم في مشاريع بحث مدرة للدخل..
لذلك تُرك الباب مفتوحا لأشباه المثقفين وأنصاف الفنانين، ولم يستطع المثقفون والفنانون الجادون الصمود في وجه موجة الرداءة والتفاهة، حيث أخذ الكل يُعلي من نجوم جدد صنعتهم وسائط التواصل الاجتماعي على مقاسات ذوق آخذ في الانحطاط، ومساهمة وسائل الإعلام الجديد في الرفع من نجومية التافهين، لم تعد تُقرأ الدواوين الجيدة ولا الروايات الرائعة إلا من طرف أقلية، فيما اكتسح نجوم السوشيال ميديا الفضاء العام، لقد كتبت المبدعة اللبنانية نجوى بركات بغير قليل من الأسى والحزن على ما وصلنا إليه: “من ذا الذي يعيرك الآن أيّ انتباه، ولو نسبت إليك الإلياذة والأوديسة بأبيهما وأمهّما”.
وفي تقديري يعود هذا الإقبال الكبير على التفاهة والسخرية المائعة، إلى نفسية مجتمع، لم تعد الحقيقة والكلام الجاد توقظه إلا على جراحه وخيباته، فيميل إلى السخرية والفضائحية كمتنفس، في ظل الخيبات والانكسارات الموجعة التي مُني بها، بالإضافة إلى تراجع وسائط التنشئة الاجتماعية التقليدية من مدرسة، حزب، نقابة، مسجد.. وتركها الباب مشرعا لعالم الديجيطال وفاعليه الكبار الذين يبحثون عن الربح أساسا والسيطرة ثانيا عبر تكييف الأذواق وزيادة شراهة الاستهلاك.