د. إسماعيل حصاف
أعتقد أن عوامل حل الملفات الساخنة ومن ضمنها الأزمة السورية باتت من أولويات مصادر القرار الدولي. لاشك أن القضية السورية سوف لن تحل بمعزل وقبل إيجاد حلول للحرب الروسية – الأوكرانية، وحرب غزة وغيرها من القضايا ذات الصلة. ولابد أن تسبق الحل السياسي تصفيات حسابات على الأرض بين القوى المتصارعة.
بالتأكيد عندما تبنت تركيا ودول الخليج والقوى الدولية الأخرى الثورة السورية، لم تكن، كما يبدو الآن، بهدف إسقاط سلطة البعث ودكتاتورية الأسد، بقدر ماكانت تهدف إلى إخراج سوريا كدولة من لعبة التوازن الإقليمي وضرب بنيتها الاقتصادية والاجتماعية وتحطيمها، لتكون عاجزة على الوقوف على قدميها مرة أخرى إلا بعد مضي نصف قرن على الأقل. وإلا ماذا نفسر إسقاط معظم الأنظمة التي شهدت حالات ثورات (الربيع العربي)، خلال فترات قصيرة، مع الإبقاء على نظام البعث، حتى قبل دخول إيران وروسيا على الخط.
وقد ظهرت بوادر إنقاذ النظام من خلال اجتماع القمة العربية الأخيرين ومبادرة بغداد الآن، ومن غير المعقول أن لايكون هناك ضؤ أخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن أن روسيا تدعم وبقوة مثل هذه المبادرات العربية والإقليمية، فروسيا تنظر إلى سوريا منطقة نفوذ إستراتيجية لها في الشرقين الأوسط والأدنى.
فالوضع في سوريا بلغ حدا لايمكن تجاهله. فعدد المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية في سوريا يتزايد بإستمرار، حيث يعيش ثلاثة أرباع السوريين تحت خط الفقر المدقع أي حوالي 17 مليونا. ففي سوريا متطلبات الحياة البسيطة اليومية المعيشية غير متوفرة. ناهيك عن إنتشار الأمراض وتفشي الفساد الأخلاقي واللصوصية وحالات الإجرام والقتل وفقدان الأمن والأمان.. إلخ.
أما المشكلة الأخرى التي باتت مستعصية وتشكل ثقلا على أوروبا ودول الجوار، وتهدد الأمن الإقليمي والأوروبي، فهي مشكلة اللاجئين. فقد باتت القارة العجوز عاجزة عن إستقبال اللاجئين أكثر من ذلك، ويتعرض السوريين في تركيا ولبنان إلى ضغوطات شعبية وحكومية لإخراجهم بالقوة، لكن كيف وإلى أين؟.
كما تخلت هيئات الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن إلتزاماتها وتقديم المساعدات لهؤلاء، كما كانت في السابق. وبالتالي فأن حل مشكلة اللاجئين، ترتبط قطعا بالحل السياسي العام في البلاد.
من جهة أخرى، تعاني منطقة غرب آسيا من تراكم أزمات قومية واجتماعية واقتصادية حادة، بسبب تركيز دول الحلفاء بالدرجة الأولى وعلى رأسهم أمريكا، على محاربة الإرهاب كأولوياتها، وتهميش القضايا الحادة والملحة التي تبحث عن حلول جذرية منذ عشرات السنين، وتوسيع دائرة الحروب بالوكالة، وخاصة ما تقوم بها أذرع إيران وتركيا في سوريا ولبنان وغزة واليمن والبحرين، وناغورنو كاراباخ وليبيا وغيرها. على سبيل المثال، فمنذ بدء الحرب بين إسرائيل وحماس في 7 أكتوبر 2023، نفذت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران أكثر من 170 هجومًا على قواعد أمريكية في العراق والأردن وسوريا.هذه المسائل وفرت ردود أفعال جماهيرية قوية، قد تؤدى إلى تغيرات غير متوقعة، فيما لو سنحت الظروف.
وبذلك، تقوم تركيا وإيران بزعزعة الإستقرار في العراق ولبنان وسوريا وكردستان، الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوب حربا شاملة في المنطقة، من ضمنها الحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران، وإمكانية ضرب لبنان الفاقدة أساسا لقدرتها السياسية والاقتصادية وشخصيتها الإعتبارية وتحكم حزب الله ذراع إيران بمصير البلاد، ومحاولات تفكيك النظام الفيدرالي في العراق.
أن السياسة التي تتبعها أنقرة وطهران في غرب آسيا تعقد الأمور بشكل أكثر وتساعد على تغذية الصراعات القومية والمذهبية. وتسعى الدولتان إلى إصدار مشاكلها الداخلية للخارج، فتركيا، التي تبحث عن هويتها الفاقدة ما بين الناتو وأوراسيا، حيث تتعرض مصالحها الجيو-سياسية والإقتصادية وأمنها القومي من البحر الأسود إلى الشرق الأوسط للخطر نتيجة سياساتها التوسعية العدائية، كما وتعاني من أزمة اقتصادية حادة، وصراعات سياسية داخلية، وبدلا أن تقوم بحل قضاياها القومية والديمقراطية وعلى رأسها حل القضية الكردية حلا جذريا ديمقراطيا، تقوم بسياساتها التوسعية وتدخلاتها في شؤون الدول والأزمات، وكذلك إيران التي تحكم شعوبها بالحديد والنار جراء سياساتها اللاعقلانية، كل هذا توفر عوامل سقوط نظامي طهران وأنقرة وتعميق أزماتها على المدى البعيد والإسهام في غليان الشارعين التركي والإيراني.
من جهة ثانية، قد تشهد الشرق الأوسط تغيرات جيو-سياسية وجيو-قومية وظهور تحالفات جديدة وتغيير لموازين القوى، وهذ الأمر سيحتاج إلى حل القضايا المتراكمة والمزمنة ومن ضمنها القضية الكردية.إضافة إلى ذلك، حسب التوقعات المنشورة لبعض المراكز التحليلية الغربية والشرق أوسطية للسنة الكبيسة 2024، “تم تصنيف الشرق الأوسط كواحدة من المناطق التي ستجذب انتباه العالم أجمع، مما يؤدي بشكل حاد إلى تراجع أوكرانيا والصراعات الأخرى إلى المرتبة الثانية”، وهذا ما يحصل الآن في غزة، فجل الصحافة العالمية مركزة على الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة، مع تراجع الأزمة الأوكرانية.
ولكن لايمكن حل المشكلة الفلسطينية بمعزل عن القضايا الإقليمية الأخرى، فأي حل للصراع العربي-الإسائيلي لابد أن تكون سوريا مشاركا أساسيا، وهذا لايمكن تحقيقه إلا بحل المعضلة السورية، وإعادة الإعتبار لدمشق، وإلا سيبقي الشرق الأوسط في حالة توتر جيو-سياسي مستمر.
من ناحية أخرى، إذا إستمرت الأوضاع بشكلها الحالي، فمن الممكن توسيع دائرة الصراع عند تقاطع المصالح التاريخية السابقة للإمبراطوريات الروسية والفارسية والعثمانية، الأمر الذي سيولد احتمالات صراعات إضافية في المنطقة. وهنا جدير بالإشارة، إلى أنه قد تشتد الصراع بين الروس والفرس والترك والعرب على كردستان الكبرى، خاصة في المثلث الروسي – الإيراني – التركي في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، ووفقا للترتيبات التي ترسم الأسس للنظام الأمني الإقليمي الجديد.
فكردستان على مر التاريخ تشكل نقطة إصطدام القوى المتصارعة، ولعل من يتحكم بجيوبوليتيكية كردستان يتحكم بالشرقين الأوسط والأدنى وأوراسيا.
أما مايتعلق بالصراعات الدولية، فحقيقة الأمر، يشهد العالم شكلا من الحرب العالمية الثالثة الغير معلنة، فالحرب الروسية –الأوكرانية هي في حقيقة الأمر، حرب بالوكالة بين الناتو وروسيا، تمخضت عنها تدمير أوكرانيا ومرور أوروبا بأزمة اقتصادية حادة وخاصة في مجال الطاقة، وتساهم هذه الحرب في تنشيط التيارات اليمينية المتطرفة تمهيدا لصعودها إلى السلطة في القارة، وفيما لم تجد هذه الحرب طريقها إلى السلام، فهي تنذر بإنتقالها إلى بولندا وألمانيا لتصبح شاملة.
وفي هذا الإطار جاء زيارة بوتين الأخيرة إلى كوريا الشمالية ولقائه زعيمها كيم جونغ أون. وذكرت صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية “أن الغرب يخشى وصول العلاقات بين البلدين إلى مستوى يسمح بتغيير الوضع الجيو-ستراتيجي بالمنطقة”، مما يشير إلى تغيير في المنظومة السياسية الدولية، من خلال قيام التحالف الروسي – الصيني – الكوري (شمالي) (كتحالف مضاد للناتو)، وهي دول ذوات قدرات نووية خطيرة قد تهدد العالم في حال إستمرار واشنطن بسياسة توسيع دائرة حلف الناتو نحو الشرق، الذي كان يفترض أن يحل نفسه مباشرة بعد تفكك حلف وارشو.
وقبلها إلتقى بوتين بالزعيم الصيني شي جينغ بينغ، وناقش الطرفان الوضع في اوكرانيا والشرق الأوسط ومنطقة آسيا. وتعارض الصين الوجود الأمريكي في سوريا، الأمر الذي يشكل ضغطا إضافيا ضد الوجود الأمريكي في سوريا، ولصالح الطرف الروسي.
فقد ذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ إنه يتعين على الجانب الأمريكي أن يحترم بشكل مناسب سيادة سوريا ووحدة أراضيها، وأن يحد على الفور من النشر غير القانوني لقواتها المسلحة في سوريا، وأن يتوقف عن نهب مواردها الوطنية، وأن يتخذ إجراءات حقيقية للتعويض عن الأضرار التي لحقت بالشعب السوري. وشددت على أن الحقائق تثبت أن الولايات المتحدة تخطط للاستيلاء على الموارد تحت ستار مكافحة الإرهاب.
وأضافت الناطقة، تواصل الولايات المتحدة الحديث عن حماية حقوق الإنسان، لكنها تنتهك حقوق شعوب البلدان الأخرى في الوجود والعيش. وعلى الرغم من ادعائهم الدفاع عن الديمقراطية والحرية والازدهار، إلا أنهم في الواقع يخلقون أزمات إنسانية بإستمرار.
ومن ناحية أخرى، هناك محاولات بناء القاعدة الجغرافية- الاقتصادية والجيو-سياسية لأوراسيا الكبرى، ومشروع الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الصيني، وتوسيع منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وإذا انضمت أنقرة إلى هذه المشاريع، فقد يؤدي ذلك إلى تغيرات جذرية في الجغرافيا السياسية والتوازنات الدولية في غرب آسيا.
إن تقاعس أمريكا عن القيام بإلتزاماتها وإمكانية ظهور بديل عنها في الشرق الأوسط، قد تدفع الأمور نحو تفاقم الصراعات القومية والمذهبية، وولادة وضع جيو-سياسي جديد وتوازن جديد للتخالفات. وبالتالي، فعلى صعيد الرأي العام لشعوب المنطقة، باتت الولايات المتحدة تفقد هيبتها ومصداقيتها بين شعوب الشرق، فسياساتها قائمة على عقوبات طويلة الأمد على الحكومات، لكن الشعوب هي التي تدفع غاليا ثمن ذلك. وبوجودها في مناطق النزاعات ومنها سوريا، تنتهك أمام أنظارها حقوق الإنسان، منتهجة سياسة الفوضى الخلاقة، وإثارة النعرات الإتنية والمذهبية، والتي ساهمت في عملية التغيير الديموغرافي على الأرض، مثلما حدث في عدد من مدن غرب كردستان: عفرين وسري كاني وكري سبي.. إلخ، والتضحية بمستقبل الأجيال الناشئة.
إضافة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد القوة الوحيد تتفرد بالعالم، كما كانت أيام تفكك المعسكر الاشتراكي، فاليوم تواجهها التنين الصيني والدب الروسي، الأمر الذي يثير مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها. ولانستبعد أبدا سقوط الإمبريالية والشركات الإحتكارية الأمريكية على المدى المنظور.
ونتيجة لهذه العوامل وغيرها، ومع تبلور توجهات الإرادة الدولية على الإبقاء على النظام السوري على الأقل في الفترة الحالية، نظرا لعدم إيجاد بديل أفضل من بين صفوف المعارضة، وتصادم المصالح الدولية والإقليمية في سوريا، إرتأت أصحاب القرار البحث عن خطة عمل لإيجاد مخرج للأزمة السورية ولو عبر سَم الإبرة، منبثقة عن ذلك فكرة إنقاذ النظام من خلال خطوتين أساسيتين، الأولى إعادة النظام إلى بعده العربي، وهذا قد تحقق إلى حد كبير، والخطوة الثانية، المصالحة بين دمشق وأنقرة الرافعة الأساسية للمعارضة.
وعلى هذا الأساس، جرت في موسكو يوم 25 أبريل 2023، مفاوضات رباعية بين وزراء دفاع روسيا وإيران وسوريا وتركيا، بهدف وضع برنامج عمل نحو تطبيع العلاقات السورية – التركية. وفي 9 تموز/يوليو من العام نفسه، قال الممثل الخاص للرئيس الروسي للتسوية السورية، ألكسندر لافرينتييف، أنه “من الممكن أن يعقد رئيسا سوريا وتركيا اجتماعاً بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتسوية العلاقات السورية – التركية.
في نهاية شهر حزيران، صرح رجب طيب أردوغان إن تركيا منفتحة على مبادرات تطبيع العلاقات وعلى مبادرات التسوية مع سوريا المجاورة. وقبل أيام، قال الرئيس السوري بشار الأسد إن دمشق منفتحة على كل المبادرات الهادفة إلى تحسين العلاقات مع أنقرة، على أساس احترام السيادة السورية. جاء ذلك خلال استقباله في دمشق الممثل الخاص للرئيس الروسي للتسوية السورية ألكسندر لافرنتييف.
مع أن التطبيع بين البلدين، يحتاج لبعض الوقت، حيث هناك جملة من الملفات الشائكة والهواجس المشتركة التي لابد من حسمها من خلال التوافقات السياسية والأمنية والعسكرية في غرف مغلقة، وأهمها الملف الكردي بشكل عام، ومصير الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وقضية اللاجئين، ومصير المعارضة والإئتلاف، والإنسحاب التركي من الأراضي السورية.. إلخ.
وإزاء هذا الوضع، وتحسبا لما سيجري من تطورات سياسية وعسكرية على الأرض، ماهي الخطوات التي من الضروري القيام بها كرديا في سوريا لمواجهة التحديات المقبلة. ومن أولوياتها، أن تتخلى الإدارة الذاتية عن قرار التفرد بالسلطة، آخذة بعين الإعتبار تجربة إحتلال عفرين، وضرورة القبول بالعودة إلى إتفاقيتي هولير وإتفاقية دهوك، إنطلاقا من مبدأ الشراكة وصياغة مشروع قومي مشترك بين جميع الأطراف السياسية. فالظروف التي تواجدت فيها الإدارة الذاتية، قبل عقد من الزمن، جراء توافقات معروفة آنذاك، لم تعد موجودة الآن.
وحتى تثبت الحركة الكردية وجودها ضمن التوازنات المقبلة، لابد من وضع أهدافا موحدة تعبر عن حقوق وطموحات الشعب الكردي كثاني قومية في البلاد.وبهذا الصدد من الضروري الوقوف على أمر في غاية الأهمية، وهو أن دمشق لا الآن ولا مستقبلا، جاهزة للتفاوض مع الكرد إلا وفق أطر جيو – سياسية محددة خاصة بالحدود الكردية، بمعنى، لن تقبل دمشق التفاوض على مناطق عربية مثل الرقة ودير الزور وغيرها تحت نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي، علينا نحن الكرد أن نكون واقعيين في صياغة مطالبنا القومية إنطلاقا من جغرافية كردستان الملحقة بسوريا بما يحمي الأمن القومي الكردي، فحل جميع النزاعات القومية في الدول المتعددة القوميات تتم على هذا الأساس.
فجميع المعارضات العربية في العراق كانت في كردستان وتحالفت مع الكرد ضد النظام في بغداد، وعندما سقط الدكتاتور، توحدت فصائل المعارضة العربية بجميع أصنافها من سنة وشيعة، ووقفت ضد تنفيذ بنود الدستور، ولازالت المناطق الكردية وعلى رأسها كركوك خارج حدود إقليم كردستان، وهذا ما يجب تنبأه أيضا عندنا، عندما يتهيأ ظروفهم بذلك.
وبالتالي، مستثنيا بعض الشخصيات التقدمية والديمقراطية في صفوف المعارضة، لايمكن الرهان على المعارضة العربية،كونها معزولة جماهيريا، وليست لها قاعدة سياسية شعبية ترتكن عليها في الداخل، ولم تعد لها سند إقليمي ودولي إلا جزئيا، ولهذا، قد لانتفاجأ إذا ضحت أنقرة بها في لحظة حاسمة، تلبية لمصالح أمنها القومي التركي.
وهكذا، ومن خلال قرائتنا للأحداث، فنحن أمام حدوث متغيرات متوقعة في التوازنات القائمة على الصعيدين الإقليمي والدولي، فهل نحن مستعدون لمواجهة التحديات القادمة؟، للإنتقال بشعبنا وقضيتنا إلى مرحلة جديدة، تحقيقا لطموحاتنا القومية – الكردايتي، وتعزيزا لمكانة الحركة السياسية الكردية ضمن التوازنات المقبلة في سوريا.
* أكاديمي متخصص في المسألة الكردية والعلاقات الدولية