آراءسياسة

الانتخابات البريطانية.. تصويت لحزب العمال أم رغبة في التغيير؟

المراقبين يعتقدون أن الانتخابات أعادت تشكيل الخريطة الانتخابية لبريطانيا بشكل كبير..

هزم حزب المحافظين البريطاني الحاكم، بقيادة رئيس الوزراء ريشي سوناك، بأغلبية ساحقة من قبل حزب العمال المعارض بقيادة كير ستارمر في الانتخابات العامة التي جرت في الرابع من الشهر الحالي.

إذ فقد الحزب 250 مقعدا على مدار فترة حكم تقلد فيها خمسة رؤساء حكومة السلطة, وبذلك تنتهي فترة المحافظين التي استمرت أربعة عشر عاما كحزب حاكم رئيسي.

وتعد النتيجة الأسوأ لحزب المحافظين منذ ما يقرب من 200 عام، ويأتي ذلك في أعقاب خسائر متعددة في المناطق التقليدية مثل المقاطعات المحيطة بلندن.

وظهرت خيارات الناخبين بشكل واضح، بعد خمس سنوات شهدت فضائح متعددة واستقالات كثيرة، بما في ذلك استقالة اثنين من رؤساء الحكومة، بوريس جونسون وليز تروس.

وقبل ريشي سوناك – رئيس الوزراء المنتهية ولايته – المسؤولية عن النتيجة وإعتذر لزملائه خلال بيان مقتضب خارج رقم 10 داونينج ستريت في يوم ممطر. ويتوقع أن يشهد الحزب معركة أيديولوجية حول إتجاهه المستقبلي.

وكان هذا أول انتصار لحزب العمال منذ الانتخابات العامة لعام 2005، إذ حقق الحزب أغلبية 172 مقعدا وما مجموعه 411 مقعدا.

ومع ذلك، كانت حصة الحزب من الأصوات هي الأصغر من أي حكومة أغلبية في تاريخ الانتخابات البريطانية. بينما حصل حزب الديموقراطيين الأحرار على 71 مقعدًا، بزيادة قدرها 63 مقعدًا.

وقد خاض حزب العمال الانتخابات بتقدم كبير على المحافظين في استطلاعات الرأي. وكان الشأن الاقتصادي والرعاية الصحية والتعليم وتطوير البنية التحتية والهجرة والطاقة من موضوعات الحملة الانتخابية.

وفي أول خطاب له كرئيس للوزراء بعد أن حيا العشرات من أنصار حزب العمال الذين اصطفوا امام داونينغ ستريت، تعهد السير كير بإدارة “حكومة خدمات” وبدء فترة من “التجديد” على حد قوله, مضيفا “ان العمل على التغيير سيبدا على الفور”.

ويواجه المحامي السابق شعبًا يتوق إلى التغيير، في ظل وضع إقتصادي قاتم وإنعدام الثقة المتزايد في مؤسسات الدولة والنسيج الاجتماعي المهترئ.

وقالت راشيل ريفز من حزب العمال، التي أصبحت أول وزيرة مالية في المملكة المتحدة، إنها “غير واهمة ” بشأن حجم التحدي الذي تواجهه. وقالت للصحافيين: “إن ما تركه المحافظون مروع حقًا”.

وأشارت إلى أن عبء ديون المملكة المتحدة يبلغ 100% من الدخل القومي للبلاد والعبء الضريبي عند أعلى مستوى له منذ سبعة عقود. وقالت إنها “لا تستطيع الوعد بتغيير كل شيء على الفور”.

تجدر الإشارة إلى المكاسب التي حققها حزب Reform UK وهو حزب يميني متشدد مناهض للهجرة بقيادة نايجل فاراج، Nigel Farage، في الانتخابات.

وهو القوة التي كانت وراء خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، شهد أكبر قفزة في حصة الأصوات. اذ فاز الحزب بأكثر من 14 في المائة من الأصوات، بزيادة 12 نقطة مئوية عن عام 2019، عندما سحب حزبه السابق مرشحين في أكثر من 300 مقعد يسيطر عليها المحافظون.

وأصر فاراج على أن الهجرة غير النظامية، وخاصة الأشخاص الذين يعبرون القنال الإنجليزي في قوارب صغيرة من فرنسا، يمكن أن تصبح عاملا رئيسيا في الحملة الانتخابية.

وأجبرت حملته الشرسة حول هذه القضية حزب المحافظين على التوجه أكثر نحو اليمين، وهو ما حدا بهم إلى تقديم ما يعرف بخطة “رواندا” التي اثارت جدلا كبيرا في المملكة المتحدة، وتنص على إرسال طالبي اللجوء إلى رواندا، البلد الصغير وسط افريقيا بينما تتم معالجة طلباتهم.

لقد منح البريطانيون حزب العمال من يسار الوسط أغلبية برلمانية بينما شهدت انتخابات في دول أوروبية توجها نحو اليمين جعل الكثيرين يتساءلون عن الأسباب وإن كان ذلك ما يسمى “الاستثناء البريطاني”.

فقد شهدت الانتخابات الأوروبية الشهر الماضي إنتخاب عدد تاريخي من أعضاء الاحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي. ووصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النتائج بأنها مفاجئة إلى درجة أنه دعا إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في بلاده، جاءت نتائج الجولتين الأولى والثانية فيها متناقضة تناقضا شديدا، وربما فاجاته اكثر. إذ أظهرت نتائج الجولة الأولى تفوقًا كاسحًا لتجمع اليمين المتطرف بقيادة جوردان بارديلا على قوى اليسار والتيار الجمهورى الحاكم.

وما كاد يمضى أسبوع واحد حتى تمكنت التيارات اليسارية من ترجيح الكفة والفوز بأغلبية الأصوات في الجولة الثانية، مما أعاد الطمانينة إلى ملايين الفرنسيين، من ذوى الأصول المهاجرة خاصة المغاربية، الذين يحملهم اليمين المسؤولية عن مشاكل فرنسا.

رغم ان بريطانيا تعاني من المشاكل نفسها التي يعاني منها عدد من الدول الأوروبية: تباطؤ الاقتصاديات، والهجرة، وإرتفاع أسعار الطاقة، إلا أن المراقبين يعتقدون أن الانتخابات اعادت تشكيل الخريطة الانتخابية لبريطانيا بشكل كبير، حيث تغير ما يقرب من نصف المقاعد في البرلمان، اذ قدم الناخبون نتيجة دامغة برفضهم للمحافظين.

ومن نواح كثيرة، يبدو هذا أشبه بانتخابات خسرها المحافظون أكثر من فوز حزب العمال بها بمعنى أن حزب العمال فاز بأصوات بعض الناخبين الذين هجروا المحافظين، حيث حصل على حوالي نقطتين مئويتين من حصة التصويت الوطنية أكثر مما حصل عليه في عام 2019.

ويرى المراقبون أن التحولات في بريطانيا هي علامة على المشاعر المناهضة للمؤسسة، حيث يلقي الناخبون باللوم على من هو في السلطة بغض النظر عما إذا كان من اليسار أو اليمين، وبالتالي إذا تعثر ستارمر كرئيس للوزراء، فهناك فرصة لأن يستمر اليمين في التلاعب بمشاعر الناخبين، كما فعل في أماكن أخرى من أوروبا.

في جوهرها، لم تكن الانتخابات البريطانية تتعلق بشعبية حزب العمال بقدر ما كانت تتعلق بإخراج المحافظين من السلطة بسبب سياسة التقشف التي إنتهجوها إلى خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي إلى ما تعرف بفضيحة “بارتي جيت” حين كان رئيس الحكومة الأسبق بوريس دجونسون يقيم حفلات في مقر رئاسة الحكومة بينما كان يدعو المواطنين الى الالتزام بالحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.

فقد شهدت بريطانيا أسوأ أداء حكومي وأصبح الوضع المعيشي لمعظم البريطانيين أشد صعوبة, فخريجوا الجامعات لا يجدون وظائف تتماشى ومؤهلاتهم، كما ان رواتبهم لا تضاهي أسعار العقارات وحتى الايجار في العاصمة والمدن الكبرى شهد في ظل حكم المحافظين ارتفاعا مهولا.

كما يتذكر البريطانيون ارتفاع نسبة الوفيات اثناء جاءحة كوفيد 19 وحريق غرينفيل Grenfell في إحدى العمارات الشاهقة بغرب لندن ووفاة عدد من سكانه وغيرها من إخفاقات حزب المحافظين، مما يجعل الكثيرين يرون انهم دمروا أنفسهم بأنفسهم.

الجواب قد يكمن أيضا في النظام الانتخابي نفسه، فالنسبة المئوية للأصوات التي يحصل عليها الحزب لا تترجم بالضرورة إلى مقاعد. اذ يتم تحديد كل مقعد على حدة، والفائز هو المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات، والذي غالبا ما يكون أقل من 50٪.

ونظام الفوز من جولة واحدة للهيئة التشريعية: أي ان أي شخص يحصل على أكبر عدد من الأصوات يفوز، يجعل الكثيرين يرون أنه يظلم الأحزاب الصغيرة مثل الخضر، التي تحصل على عدد جيد من الأصوات ولكن ليس لديها سوى عدد قليل من المقاعد لتمثيلها. وهناك الكثير ممن يدعون الى اصلاح هذا النظام القديم لانهم يشعرون انه ليس عادلا.

من المؤكد أن حزب العمال سيكون لديه سلسلة من الإعلانات سيكشف عنها قريبا خاصة ما يتعلق بتلبية التوقعات العامة العالية بالتغيير محليا وما يخص سياسة الحزب بالتغير المناخي الذي هناك حاجة ماسة الى معالجته.

أما فيما يتعلق بالحرب على غزة فلم تؤثر على النتائج العامة للانتخابات، فالحزبين: المحافظين والعمال وجهان لعملة واحدة فيما يتعلق بالشان الفلسطيني تحديدا والدولي عموما، بل ان التيار المؤيد لإسرائيل داخل حزب العمال هو الأقوى وهو في موقع القرار داخله.

وربما هذا ما يفسر خسارة زعيمه السابق جيريمي كوربن قيادة الحزب لاتهامه بمعاداة السامية وذلك بسبب معارضته لسياسات اسرئيل في غزة والأراضي المحتلة.

وكان كوربن السياسي البريطاني الوحيد الذي طالب ولا يزال بوقف لإطلاق النار، وخاض الانتخابات كمرشح مستقل وتمكن من الفوز بمقعد في البرلمان. اما جورج غالاوي الذي كان داءما شرسا في التنديد بسياسات إسرائيل، فقد خسر مقعده لصالح مرشح من حزب العمّال ولم يفز حزبه Respect بأي مقعد.

هذه أول إنتخابات عامة في المملكة المتحدة منذ خروجها رسميًا من الإتحاد الأوروبي. ولا يتوقع المراقبون أي تحول في هذا الشأن.

إذ إستبعد ستارمر، على الرغم من أنه أيد البقاء، الانضمام مرة أخرى إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الجمركي، وربما لجأ إلى إعادة التفاوض مع الاتحاد على المعاملات التجارية.

الشأن المحلي والاولويات المعيشية والحاجة للتغيير هي التي حددت مجرى الانتخابات البريطانية التي ما زال التيار اليميني حاضراً فيها بقوة، وربما تركز القرارات الحاسمة لحزب العمال في ظل ستارمر في المرحلة المقبلة على النموذج الاقتصادي للمملكة المتحدة ومكانتها في العالم في ظل تغير موازين القوى.

https://anbaaexpress.ma/qtfct

منيرة الشايب

منيرة الشايب : صحفية تونسية مقيمة في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى